كتب: محمد حبوشة
شهدت دراما البيئة الشامية عددا من المحاولات للخروج من حكاياتها النمطية في السنوات الأخيرة، وكانت اقتصرت منذ التسعينيات على الحكايات البطولية لمقاومة الاستعمار الأجنبي، على هامش الصراعات الداخلية حول زعامات الحارات والحكايات الاجتماعية التي تركزت على مفاهيم الأمانة والشرف، لكن معظم المحاولات باءت بالفشل، فلم تتغير سوى القشور؛ إذ إن الأفكار والقيم المتحكمة بمجتمعات الحارات الدمشقية القديمة بقيت راسخة، حتى جاء مسلسل (زقاق الجن) هذه السنة، ليتمكن أخيرا من إيجاد مساحة خاصة لم تقترب منها مسلسلات البيئة الشامية من قبل.
يتناول (زقاق الجن) للكاتب (محمد العاص)، والمخرج (تامر إسحق)، حكايات عن التمرد على السلطة الأبوية المهيمنة في أجواء البيئة الشامية، لينتقد جرائم الشرف التي كانت تحدث في تلك الحقبة الزمنية، وقد زاد من الإثارة اختيار حي (زقاق الجن) الدمشقي مسرحا للأحداث – الحي المعروف في دمشق – كان يشاع حوله كثير من الحكايات الشعبية، عن الجن الذين يسكنون البساتين المحيطة فيه ويخطفون الأطفال، لكن الجن غاب عن حكاية المسلسل، وحضر عوضا عنهم قاتل يستهدف الأطفال.
يتمحور المسلسل حول شخصية (أبو نذير/ أيمن زيدان) وعائلته التي تعاني من ظلمه وجبروته وتحكمه في حياة كل فرد منها بقبضة حديدية، وبه أيضا ترتبط خيوط حكاية القاتل مختطف الأطفال وقاتلهم انتقاما لأبيه من (أبو نذير) الذي ظلمه، ومن أهالي الحارة الذين سكتوا عن ظلمه، والقاتل الصامت يبقى بعيدا عن دائرة الشك، بسبب اعتقاد الناس أن الأمر مرتبط بالجن وبشخصية (ناجي/ سعد مينة) الملقب بـ (أبو عين بيضا)، فالعيب الخلقي يجعل الناس يظنون أن الجن يتلبسه، ولا سيما أنه غير معروف النسب.
ومن خلال شخصية (ناجي) يطرح المسلسل قضية التنمر، التي كانت غائبة عن الدراما الشامية أيضا؛ فالمشوهون مدانون ومهانون وضيوف دائمون لدى الشرطة التي تشك بأمرهم عند حدوث أي مصيبة، ولاسيما أن
معظم الخطوط الدرامية في المسلسل مترابطة، وتقودنا إلى (أبو نذير)، بما فيها حكاية (ناجي) فهو ابن (أبو نذير) الذي رماه صغيرا أمام باب الجامع لأنه كان مشوها، وفي أثناء مشاهدتي التي استمتعت من خلالها بأداء بارع من جانب كل فريق العمل (صغيرا وكبيرا) وخاصة أن كل الشخصيات لها جذور في الماضي، بمن في ذلك شخصية الخادمة (ثريا/ صفاء سلطان) التي تغلغلت في عائلة (أبو نذير) لتنتقم منه أخيرا.
لكن ظل سؤال يراودني طوال الحلقات: هل مسلسل (زقاق الجن) فيه شيء من الحقيقة؟!، خاصة أنه مكان يبدو أنه بث في يوم من الأيام جام الرعب في قلوب أهل دمشق، ويقال أن لعنته مستمرة حتى يومنا هذا!، وما شدني وأثار اهتمامي هو عنوان المسلسل (زقاق الجن)، وما أطلق العنان لذهني للبحث والتقصي هى قصته الغريبة والمرعبة، والحقيقة أن للجن في دمشق: حكايات طويلة لا تنفذ ولا تنتهي، في عصرنا الحديث ومع تطور البناء والعمران وتطور العلم وزيادة الناس المتعلمين والمثقفين ونبذ الماورائيات والخوارق، باتت حكايات الجن والعمار من الغرائب والنوادر وقلما تجد من يؤمن ويصدق بها.
جواب هذا السؤال لا يمكن أن يكون (نعم) قطعا ولا يمكن أن يكون (لا) قطعا، فبطبيعة الحال إذا ما أردنا البحث في تاريخ مدينة تعد من أقدم مدن العالم والعاصمة الأقدم فيه، وإذا ما أردنا التفحيص والتمحيص بشكل تجردي ومسهب سنجد أن شيئا من الغموض والكثير من أساطير الماورائيات يحف ذلك التاريخ رغم ما كتب فيه وعنه، ويقال أن الدمشقيين القدماء – أو بعضهم – كانوا قد ألفوا الجن وتعايشوا معهم بصورة طبيعية وعادية، بل وصل ذلك التعايش والاعتياد إلى الحد الذي جعل الجن يقطنون ويتكاثرون بجوارهم، ويوما بعد يوم أصبح للجن زقاق خاص بهم وقد سمي لاحقا بزقاق الجن.
وما جذبني في هذا المسلسل الذي شهد مبارايات مذهلة في الأداء الاحترافي، اعتماده على كادر تمثيلي هو الأفضل بالمسلسلات السورية التي عرضت في رمضان 2023، الأبرز كان (أيمن زيدان) الذي قدم شخصية بحضور آسر، فيها كل ملامح الشخصيات الأيقونية التي تعيش في الذاكرة طويلا، بالإضافة إلى (أمل عرفة وشكران مرتجى) اللتين قدمتا أفضل أداء لهما منذ سنوات طويلة، و(صفاء سلطان )التي أثبتت للعام الثاني على التوالي أن احتسابها على نجوم الصف الأول صحيح مئة بالمئة، وكذلك المبدع الكبير (عبد المنعم عمايري) الذي نجح في كراهيتنا لشخصية (أبو عزو) الشرير الانتهازي بالغ القوة والجبروت بأداء ناعم يشبه الحية في التوائها وبث فحيح سمومها في كل من حولها، وحتى الممثلون الشباب وأؤلئك الذين أدوا شخصيات ثانوية معظمهم قدم أدوارا لافتة.
إلا أن المشكلة الكبرى في العمل، أنه ينتهي بشكل خاطف، من دون أن تحدث معظم مشاهد المواجهات الأخيرة مع (أبو نذير)، التي تم التحضير لها بشكل جيد؛ فالمشاهد الأخيرة يظهر فيها (أيمن زيدان) صامتا مكسورا، ويبدو واضحا أنه قد تم اختصارها قدر الإمكان، وقد تحدث كثيرون أن السبب وراء ذلك هو رحيل شقيقه (شادي زيدان) المفاجئ (أدى شخصية ابنه نذير في المسلسل) أثناء التصوير، لكني أستشعر أن هذا هو نوع من التمهيد لجزء ثان على غرار مسلسلات البيئة الشامية، وذلك على الرغم من أن (زقاق الجن) ربما خرج عن الإطار التقليدي لهذه النوعية من المسلسلات التي فقدت بريقها خلال السنوات القليلة الماضية.
قصة مسلسل (زقاق الجن) ركزت بشكل أساسي حول (أبو نذير/ أيمن زيدان) الرجل المتسلط الذي يدير امبراطورية عائلية بالقسوة والبطش والترهيب زارعا الرعب في قلوب أفرادها، ثم تتسع لتشمل حارة كاملة تواجه خطرا غامضا يتمثل في اختطاف الأطفال وقتلهم قبل أن يشمل الخطر الكبار مع قتل المختار (أبو فهد/ أيمن بهنسي)، فتتوجه الأنظار إلى منطقة (بساتين الجن) القريبة من الحارة والتي يتوارى فيها عدد كبير من المطلوبين للعدالة، ويقطنها أيضا ناجي (سعد مينة) مع المشعوذة (أمانة والي) التي تولت تربيته منذ أن عثر عليه لقيطا، وتتراوح اتهامات الأهالي لناجي بين المسؤولية المباشرة عن الجرائم وبين التسبب بها عن طريق لعنة مرتبطة به.
لكن الإسقاطات والرسائل التي يحفل بها المسلسل لا تلبث أن تطل برأسها من دون أن تفسد شيئا من متعة الحكاية، فإن كان الكاتب يقدم عملا اجتماعيا له بعد تربوي يحاول من خلاله إلقاء حجر في مياه راكدة منذ مئات السنين، ونقض معتقدات بالية وممارسة دوره في محاولة الارتقاء بالوعي عن طريق الفن، فإنه لا يفعل ذلك عن طريق الوعظ والخطابة والتلقين، بل يتقن صنعته ويستوفيها حقها ويمتلك أدواتها عارفا أنها بغير ذلك لن تكون ممتعة ولا مؤثرة، فشخصيّة (أبو نذير) ترمز للجهل والتسلط ووهم احتكار المعرفة وهوس القيادة والسيطرة، وفي الشخصيات المحيطة به يكمن الضعف والهوان والرضا بالانقياد لغير العقل تحت عناوين مختلفة.
وفي هذا الصدد هناك الابن الأكبر (أبو تيسير/ شادي زيدان)، المستسلم بشكل كامل أمام عقليّ أبيه المريضة إلى حد الامتناع عن حماية ابنته (ملك) من الذبح بسكين جدها لجريمة موهومة لم ترتكبها متسلحا بفهم خاطئ للدين الذي يكرم الآباء ويدعو إلى احترامهم وطاعتهم، وهناك الحفيد (تيسير/ رامي أحمر) الذي يسير على خطى جده ويتقمص شخصيته حالما بوراثة سطوته عن طريق التحول إلى نسخة أخرى منه، و(مجدي/ سليمان رزق) الحفيد الآخر الذي كبر وتزوَّج ولم يستطع التخلص من التبول اللا إرادي يوميا في فراشه بعد طفولة قاسية شهدت احتجاز جده له في غرفة الفئران مما يسبب ألما كبيرا لوالدته ومعاناة هائلة لزوجته (لوريس قزق).
وهناك الابن الثاني لأبو نذير (أنور/ وائل زيدان) المحروم مع بناته من التنعم بالرخاء الذي تعيشه العائلة لأنه تمرد على كبيرها واختار العمل كـ (مشخصاتي) خلافا لإرادة والده، وهناك أيضا (أم تيسير/ شكران مرتجى) التي تحاول جاهدة إنقاذ عائلتها ومواجهة الأب الظالم من دون أن تصيب نجاحا، فضلا عن عدد كبير من الشخصيات التي تأخذ دورها في هذه الحكاية على مستوى البناء الدرامي وعلى مستوى الرسائل التي تحملها للمشاهد، وطني أن هذه الحكايات لاتهدف إلى التسلية والامتاع فقط بقدر ما تحمل دعوة في قالب درامي جذاب إلى التوقف عن تخويف الأطفال والعبث بصحتهم النفسية وصناعة أشخاص غير أسوياء، وإلى اتباع تعاليم الدين بطريقة لا تفرغها من مضمونها الرحيم، بل تتوافق مع ما جاءت لأجله وهو الخير والصلاح.
وتأكيدا على هذا المفهوم جاءت شخصية (ناجي الأعور) الذي يلاحقه الأطفال بعبارة (أبو عين بيضا)، وهنا يريد الكاتب أن يدعونا إلى التوقف عن التنمر وعن توريثه لأولادنا، ومن خلال الجرائم المتتالية يريد منا أن نتوقف عن الارتماء في أحضان الخرافة ونسبة كل شيء إلى الجان واللعنات والسحر لتنجو (الشياطين البشرية) بأفعالها الشريرة والشرسة التي لاتغتفر،
ومن خلال قصة (ملك/ دوجانا عيسى) وابن عمتها (عربي/ وليد حصوة) اللذين قررت العائلة تزويجهما، قبل أن ينشب خلاف شخصي بين (أبو نذير) ووالده (أبو عربي/ جمال العلي) أطاح بهذه الزيجة وسحب الحديث عنها من التداول، كما لو أنها لم تكن لتواجه (ملك) خطر الذبح بسكين جدها وأشقائها بتهمة التواصل مع حبيبها من وراء الجدار، ومن هنا تبرز في ذهن المؤلف فكرة الدعوة إلى إعادة النظر في تعريف مفاهيم العار والشرف و(جرائم الشرف).
في حديث له يؤكد الكاتب (محمد العاص) هذا الاتجاه في قراءة رسالة العمل، معتبرا أن عالم الجان المذكور في القرآن الكريم وغيره من الكتب السماوية لا يمكن لأحد إنكار وجوده، ولكنهم (تاركيننا بحالنا) بينما نحن من لم نتركهم ولم نترك بعضنا فنسبنا إليهم كل ما نقترفه من شرور وآثام، ويرى (العاص) أن رسالة العمل التي ظهرت أكثر مع اقترابه من حلقاته الأخيرة هى الدعوة إلى الحب والسلام والاهتمام بالتربية والتوعية في البيوت قبل المدارس، لأن الخلاص من الخراب الذي نعيش فيه لا يمكن له أن يكون بغير بناء الإنسان أولا.
وعلى الرغم من عدم ميلي بشكل أو بآخر إلى هذه النوعية من مسلسلات التي تمزج العنف بالخرافة، إلا أنني لابد لي أن أوكد على براعة فريق التمثيل وعلى رأسهم العملاق (أيمن زيدان) في ذهابة نحو مناطق غير مأهولة في الشر المطلق بعينين معبرتين قادرتين على بث الرعب في نفوسنا، حتى في لحظات صمته الموحش وعلو صوته وانفعاله المحسوب بدقة متناهية، وعلى نفس الوتر الحساس عزفت المبدعة (أمل عرفة) على أوتار المشاعر الإنسانية بدقة متناهية عبر صوت ناعم يقدر على انتزاع لحظات من البكاء المر على حال الضحايا من الأطفال والكبار من أهل الحارة، وكذلك كانت (شكران مرتجي) بارعة في إظهار مشاعر الاحتواء والخوف على أبنائها الذين تراهم يضيعون أمام أعينها بفعل شيطاني رجيم من جانب الجد (أبو نذير).
أما الأداء المخيف الذي يصل إلى حد المتعة بمداد كوميدي فيحسب للرائع (عبد المنعم عمايري) الذي يستطيع في كل دور يقوم به أن يعبد طريقا مغايرا لايشبه سابقه، ولعب دور (أبو عز) مازجا بين أسلوب (دونكيشوت) الذي يحارب طواحين الهواء و(زوربا اليوناني) في خفة ورشاقة مذهلة، ورفاقه ذات التألق (سعد مينا) في اتقان شخصية (ناجي) على مستوى لغة جسد تذهب في بلاغتها نحو الإبداع في التجسيد الحي، وعلى دربهما جاء أداء كل من الشقيقين (وائل وشادي زيدان)، ليضربا مثلا في الشقاء المر والقدرة والتحمل على مواحهة الصعاب والهموم وتجمعهما معا صفة الإنسانية في أروع صورها.
لعبت النجمة المتألقة (صفاء) دور الحرباء والحية معا في التلون ووضع السم في العسل، وممارسة الإغراء بينما الشرر يتطاير من عينيها الآسرتين لكل من ينظر لوجهها لأول مرة، امتلكت (صفاء) جسدا مطواعا يحتمل الشر والغواية في وعاء واحد يقطر حقد وضغينة مفرطة، إلى حد التقزز المقيت لشخصية (ثريا) الخادمة اللعوب القادرة على الإيقاع بفرائسها بحرفية شديدة وأبرزهم (أبو نذير) قاتل جدها وعمها والسبب الرئيسي في تشريد أهلها، وعلى شكلة نفس الأداء تأتي (أمانة والي) في قائمة الإبداع الحقيقي في تجسيدها لشخصية (أم ناجي) الساحرة والمشعوذة بفرط من خبرة كبيرة تؤكد عمق موهبتها التي تجلت في كثير من الأعمال بقالب كوميدي خالفته هذه المرة على جناح التراجيديا القائمة على المفارقة.
لفت نظري أيضا في طاقم العمل التمثيلي كثير من الممثلين الآخرين الذين يشار لهم بالجودة مثل الفنانة (إمارت رزق) التي قدمت دور (صبحية) في ثوب مختلف عن أدوراها السابقة على مستوى إبراز المشاعر الداخلية والخارجية بعفوية لا تخلو من شر مبطن بغلاف جمالها الناضج إلى حد كبير، وكذلك (روبين عيسى) في دور (أم عربي) التي لعب دور الأخت الحنون بفطرية ونعومة آسرة، وبالطبع لابد لي من الإشادة بالمثل الشاب (رامي أحمر) في دور (تيسير) بتكنيك عالي الجودة، ما ينبئ عن موهبة كبيرة يمكن استغلالها في أدوار أكبر حجما، لأنه يحمل زادا كبيرا من العطاء المهني الذي لم يكتشف بعد، وكذلك الحال مع (حسن خليل) الذي لعب دور (مروان) بشكل احترافي يكشف أيضا عن موهبة كبيرة، أما الممثل (حمادة سليم) فتلك قصة أخرى في القدرة على التحول من المجذوب إلى الواعي في احترافية مذهلة تؤكد موهبته الحقيقية.