بقلم: محمود حسونة
(جعفر العمدة) و (حضرة العمدة)، مسلسلان من دراما الموسم الرمضاني المنتهي، يلتقيان في الاسم، ويتنافران في كل ما عداه. عندما تم الإعلان عن عرضهما توقع كثيرون أنهم سيشاهدون نموذجين للعمدة في قريتين مصريتين بينهما نقاط اتفاق ونقاط اختلاف، وقد تكون نقطة الاختلاف الجوهرية أن الناس سترى الفرق بين أسلوب إدارة القرية عند العمدة الرجل والعمدة المرأة، ومع بدء العرض اتضح عدم صحة التوقعات، وأن ما يجمع بينهما هو الاسم فقط، في حين يفرق بينهما الكثير.
من بين الفروق الكثيرة بين (جعفر العمدة) و(حضرة العمدة)، أن العمدة في الأول لقب عائلة، وفي الثاني منصب، وأن الأول حامل اللقب رجل وفي الثاني امرأة، وسلطة العمدة في الأول منتزعة بالقوة، وفي الثاني شرعية، والأحداث تدور في الأول في حي شعبي عريق وفي الثاني في قرية وهى المكان الطبيعي، وأن العمدة الأخير يسعى لتغيير المظاهر القروية السلبية بالحوار والحكمة والموعظة الحسنة بينما جعفر يفرض قيمه على الناس (بالدراع) وينصّب نفسه حَكماً بينهم بسلطة القوة، و(حضرة العمدة) ينتصر للمرأة ويدعو لتمكينها متفائلاً بأنها تستطيع أن تحقق ما عجز عنه الرجل في إدارة القرى والكيانات الاجتماعية، في حين أن العمدة الثاني يهينها ويقدمها مصدراً لمتعة الرجل تنتظر دورها في طابور زوجاته.
جاء (جعفر العمدة) مكثفاً في أحداثه جاذباً في حبكته محدَداً في القضية التي يناقشها مشوقاً في تسلسله الدرامي رابطاً مشاهده به من دون سماح له بالهروب منه حتى آخر حلقة، بصرف النظر عن مستواه الفكري الذي يختلف الكثيرون معه ولكنهم يستمتعون به، وعلى العكس من ذلك جاء (حضرة العمدة) الذي نتوافق مع بعض ما يطرحه من أفكار ولكن بعضنا انصرف عن مشاهدته بعد بضع حلقات، فهو يترك لمشاهده مساحة الانعتاق منه وعدم متابعته وقتما يشاء، لأنه مفكك درامياً، متشعب القضايا، فقد أراد أن يقول كل شيء ليخرج للناس وكأنه لم يقل شيئاً، بل ولم يكن مذكوراً على خريطة التنافس والأعلى مشاهده، وكان مجرد رقم في العدد الكبير الذي تضمنته قائمة العرض الرمضاني.
تناولت هنا الأسبوع الماضي (جعفر العمدة)، وكان لزاماً علي أن أستكمل الثنائية المتنافرة شكلاً ومضموناً. الكاتب الصحافي (إبراهيم عيسى) الذي صال وجال في مجال الصحافة والإعلام التليفزيوني، والذي أثار الكثير من الجدل بقنابله الفكرية التي يفجرها من حين لآخر سواء بهدف جذب الانتباه أو بهدف تحريك المياه الراكدة في بئر الفكر الديني أو استفزاز المجتمع، تخيل أنه يمكنه أن يستكمل صولاته في مجال الدراما والسينما، وأنه يمكنه أن يملأ الفراغ الذي تركه عمالقة التأليف أمثال (وحيد حامد وأسامة أنور عكاشة)، وقدم من قبل أعمالاً تم تناولها من قبل النقاد سواء مديحاً أو هجاءً أو مجاملةً، وهذا العام يقدم مسلسل (حضرة العمدة)، في إطار الانحياز الرسمي لتمكين المرأة ومنحها بعضاً من حقوقها المسلوبة وإشراكها في إتخاذ القرار، وهى فكرة تناولها هذا العام بمعالجات متنوعة عدد من المسلسلات، منها (عملة نادرة) و(ستّهم) وأهمها (تحت الوصاية).
ابراهيم عيسى، قدم مسلسل (حضرة العمدة)، برؤية رئيس تحرير صحيفة محلية تصدر في قرية (تل شبّورة) وتتابع أخبار أهلها، وتمنح كل ظاهرة سلبية في القرية مساحة ضئيلة من وقت المسلسل لتمر عليها مرور الكرام، وتنتقل سريعا من ظاهرة لأخرى، من ختان البنات، إلى هجرة الشباب وغرقهم في عرض البحر، إلى استغلال السوشيال ميديا لتشويه وابتزاز الفتيات، إلى ذبح الفتيات في الشوارع من شباب يرفضن الارتباط بهم، إلى نشر حبوب الهلوسة والمخدرات بين الشباب، إلى الاتجار بالمخدرات، إلى التنقيب عن الآثار والاتجار فيها، إلى اضطهاد المسيحيين ومحاولة حصارهم ومحاولة منعهم من ممارسة شعائر دينهم، إلى استغلال منابر المساجد لنشر التطرف، إلى فرض الحجاب على التلميذات الصغيرات بما في ذلك القبطيات، إلى توظيف الأموال والاتجار بأحلام الطامعين في الثراء السريع، إلى ملاحقة الفنانين وتحريم ابداعاتهم، إلى توغل الفكر الاخواني بين أهل الريف وبقاء ذيول الجماعة في القرى يمارسون الترهيب الديني وتكفير المختلف عنهم.
قضايا كثيرة كل منها يستحق مسلسلاً، ولكن يبدو أن المؤلف أراد أن يمنحها المشروعية ليشير من خلال مسلسله أن هذه هى أمراض القرية المصرية، بل لعله يتخذ (تل شبورة) رمزاً لمصر ليشير إلى أن هذه هى الأمراض التي لا تزال تستوطن في المجتمع المصري وتستلزم الثورة عليها وتغييرها، وليس (إبراهيم عيسى) وحده من يدرك أن ما أشار إليه في مسلسله هو الأمراض التي تعاني منها قرانا ومدننا، ريفنا وحضرنا، بل معظم إن لم يكن كل المصريين يدركون ذلك، وبالتالي فإن المسلسل لم يأت بجديد ولو كان وضع إحدى أو قليل من هذه القضايا في إطار درامي محكم لكان قد أتى بجديد وقولب بعض مشاكلنا في قالب درامي جاذب، يمتع المشاهد ويفضح الفساد ورموزه المجتمعية.
قد تكون أهم إيجابيات المسلسل هو إصراره على أن مشاكلنا لن يتم حلها إلا برؤى علمية، ولذا اختار أن تكون (صفية الفارس) عمدة (تل شبورة) أستاذة في الجامعة الأمريكية، أي أنها صاحبة مستوى علمي وتعليمي رفيع، وإن كان ذلك نظرياً حيث لا يمكن أن تقبل أستاذة في الجامعة الأمريكية أن تترك مركزها العلمي لتحل مشاكل قرية إلا إذا كانت إرادتها تحقيق التغيير بين أهلها وناسها ليمتد منهم إلى باقي المجتمع.
وأهم إيجابيات الإخراج لعادل أديب هو تصوير كثير من مشاهد المسلسل وسط الأراضي الزراعية، ونقل البيئة الحقيقية للأحداث؛ وأهم سلبيات المسلسل هو اختيار (روبي) لأداء شخصية العمدة، والتي قدمتها كما لو كانت تلميذة تقرأ نصاً من كتاب القراءة في المرحلة الإعدادية، بينما تفوّق بعض الفنانين أداءً ومنهم (أحمد رزق وصلاح عبدالله وأحمد بدير وإدوارد) وتفوق على الجميع (محمد محمود عبدالعزيز).