كتب: محمد حبوشة
يرتبط مفهوم الانتماء الوطني بمبدأ هام، وهو مبدأ الحفاظ على الهوية الوطنية، حيث إن الحفاظ على الهوية الوطنية أحد أهم عناصر الانتماء الوطني، بل هو من موجبات الانتماء الوطني باعتباره مرتكزا رئيسا للوطنية والمواطنة والانتماء للوطن، وكثيرون عرفوا الوطنية وخافوا من الانزلاق في حساسية التعبير عن مترادفاتها، فالشعور المتنامي الزائد عن الحد في الانفعال يخلط الأوراق بين الانفعال الحقيقي والافتعال الزائف، وكثيرون تشدقوا بحب الوطن، وهم ليسوا كذلك على أرض واقع وطن.. (فلا تنخدعوا بنظرات الحنين الزائفة في وجه من يتظاهر بالوطنية، وهو غير ذلك!)، هكذا قال أبو الأدب الأمريكي (مارك توين)، وهكذا عبَر عن حبه للوطن، ولأن مصر وطن يؤرقنا بقدر ما يسكن حنايا القلب والوجدان من حب وخوف عليه، فنحن حتما نتحسر على ضياع قوانا الناعمة التي تشكل الهوية الوطنية بفعل من يتحكمون في مصائرنا بفرط من أفعال احتكارية مشينة تنال من درامانا المصرية العريقة على مستوى الشكل والمضمون، وهم يتشدقون بالوطنية الزائفة، كما يبدو من تصرفاتهم الحمقاء بالتحكم في صناعة كانت عملاقا كبيرا في الأزمنة السابقة حتى نالها ما نالها من الاستهتار بسذاجة الأفكار وضعف الكتابة وتراجع مستوى الأداء والإخراج وغيرها من عناصر فنية تصنع الإبهار، حتى ألقت بنا في بحيرة آسنة لافكاك منها إلا بالوعي والرجوع إلى جادة الصواب.
كنا قد تفاءلنا قبل خمس سنوات من الآن بعدما طرحت (شركة إعلام المصريين) خطتها في الإنتاج الدرامي وتنظيم السوق وتخفيض أجور النجوم المبالغ فيها إلى حد الاستفزاز، وقالت إدارة (الشركة) وقتها أن سوق الدراما التليفزيونية في مصر كان متجها نحو الفناء، وخلال سنوات معدودة كان سينتهي تماما، وستضطر شركات الإنتاج إلى الإغلاق أو وقف نشاطها مؤقتا أو تخفيضه بصورة كبيرة بسبب عدم توافر السيولة المالية، وإذا راجعنا السوق خلال العشر سنوات الأخيرة وقبل تنفيذ استراتيجية (سينرجي) لوجدنا أن هناك شركات أصبحت غير موجودة تقريبا، ومنها (أفلام محمد فوزي، وكينج توت، الجابري، وفيردي، والباتروس، والشروق، فاين أرت)، وغيرها من شركات أخرى كانت واعدة، وحدها (العدل جروب) هى من صمدت في وجه تيار الاحتكار.
وفي هذا الصدد حرصت (المتحدة) حدثيا ممثلة عن (إعلام المصريين) على احتكار القنوات العارضة، لضبط الإيقاع بصفة عامة، لكن المتابع للدراما المصرية خلال الخمس سنوات الماضية سوف يشعر بغصة في القلب وشتات في العقل، جراء احتكار (الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية) لمجمل الإنتاج الدرامي وسيطرتها على السوق، وتحدثت تقارير وموضوعات صحافية عن سوء مستوى الدراما التلفزيونية في مصر ورداءتها، أو سرقة معظم الموضوعات المطروحة من دراما وأفلام أجنبية ثم تمصيرها، ما يؤثر بشكل كبير على الإبداع وحرفة الكتابة الدرامية والفنية في مصر، ونوهت تقارير صحافية أخرى إلى (التحكم والسيطرة) في الموضوعات المطروحة وكتابة السيناريو، تحت شعار حماية القيم، كنوع من الرقابة من المنبع، تشبه كثيرا الرقابة المسبقة التي كانت في العهد الناصري.
ولعله يبدو ملحوظا أن هناك أكثر من قصة وسيناريو تم رفض التعاقد معها من البداية، بالإضافة إلى منع أسماء نجوم بعينها من الظهور في الدراما خلال الفترة الماضية، مع رفض طرح أي موضوعاتٍ جدلية، وقد أثر ذلك بشدة على مستوى جودة القصص والكتابة للأعمال الدرامية، بالإضافة إلى أفكار درامية كثيرة مسروقة تفتقر إلى الخيال والابتكار، إلى جانب النمطية والملل الشديد الذي سيطر على معظم الأعمال المطروحة، والنتيجة توقف غالبية شركات الإنتاج الخاصة ليس جراء سيطرة (الحوت) القادم، ولكن بسبب الجشع والصراع والعشوائية التي شهدها سوق الدراما، فالمنتج يريد أن يكسب أعلى رقم، والممثل يريد أن يرفع أجره لعنان السماء، والقنوات تمارس عمليات الضرب تحت الحزام بين بعضها للحصول على أقوى المسلسلات وبأي سعر، حتى لو كان هذا السعر سيكبدها الكثير من الخسائر.
ثم دخلت هذه القنوات في حرب أخرى على الإعلانات لتنزل بها إلى سابع أرض، والمحصلة أن معظم القنوات بل كلها تقريبا خرجت من هذا المواسم الخمسة الماضية خاسرة، وتظل تعاني طوال العام من ويلات هذه الخسارة، حتى تضخمت الديون بصورة غير معقولة، وبسبب ذلك اضطرت بعض شركات الإنتاج للإفلاس، وكان سيعقبها إغلاق القنوات لامحالة في ظل الحالة العشوائية التي تسيطر على هذا السوق، وعليكم أن تعلموا أن تكلفة دراما رمضان في 2017 اقتربت من الملياري جنيه، بينما السوق الإعلاني بالكامل في رمضان لم يتجاوز المليار ونصف المليار خلال العام نفسه، وقد تقلص هذا العائد إلى النصف تقريبا خلال عامي (2018 و2019) بعد أن انسحب المعلن إلى المنصات الرقمية (الديجيتال)، كما أن أجور النجوم كانت تصل تقريبا لنصف ميزانية العمل ومنها مسلسلات (محمد رمضان، عادل إمام، الفخراني، يسرا، نيللي كريم، وأحمد السقا، وأحمد مكي)، وبسبب أجور بعض هؤلاء النجوم الخيالية وصلت ميزانية بعض المسلسلات إلى ما يقرب من 100 مليون جنيه.
(سينرجي) ممثلة لـ (الشركة المتحدة) كان عليها وبسرعة طرح استراتيجية جديدة وعاجلة طالما تمتلك معظم القنوات لحل الأزمة والإبقاء على هذا الاستثمار الذي يمثل دخلا قوميا للدولة المصرية، إلى جانب الحفاظ على القوة الناعمة التي تتميز بها بلدنا عن باقي الدول العربية، قبل أن تنهار الصناعة تماما، واعتمدت خطتها على تخفيض الإنتاج لأكثر من النصف، وتقليل الميزانيات بنفس القدر تقريبا بعد تخفيض ميزانيات النجوم التي تلتهم السواد الأعظم منها، وضبط السوق الإعلاني بين القنوات، تلك الاستراتيجية من وجهة نظري كان لابد أن تحدث وبشكل سريع، مع فتح سوق جديدة مثل ما حدث مع منصة (watchit) لزيادة الدخل.
خطة (سينرجي) التي قادها المنتج الكبير (تامر مرسي)، تفاعل معها البعض ورفضها البعض الاَخر، والبعض الآخر هنا ليس مقصودا به فقط شركات الإنتاج التي قررت التوقف لانتظار النتائج، ولكن أيضا النجوم الذين رفضوا التعامل مع هذه المنظومة والجلوس على دكة الاحتياط، والآن، وبعد نجاح المرحلة الأولى من الاستراتيجية بتقنين حجم الإنتاج، والميزانيات، والخروج من هذا المواسم أو تلك بأقل خسائر ممكنة، كان ينبغي على الشركة أن تفتح ذراعيها للجميع، دون أي ممارسات احتكارية، وتوفر الفضاء الصحي لكل الشركات والتيارات الفكرية، ودعوة كبار الصناع (مخرجين ومؤلفين ونجوم) لتقديم أعمال تليق باسم ومكانة مصر الفنية، وذلك بعد التراجع الملحوظ في الأفكار.
ولأن مصر الآن تخوض حربا فكرية واقتصادية، في سبيل الحفاظ على قوتنا الناعمة وتدعيمها أهم أسلحتنا في هذه الحرب، ينبغي إعادة النظر في قضية (الاحتكار) من جانب (المتحدة) وفتح الأبواب المغلقة أمام الشركات الخاصة من جديد، خاصة أن لها باع طويل في الإنتاج الجيد، في سبيل تفعيل نوع من المنافسة في صناعة الإنتاج الدرامي المصري الذي بدأ في التراجع، بينما دخلت المنافسة الشركة شركات عربية ودول أصبحت دراماتها الناشئة تسيطر على السوق التي كانت محجوزة للمصريين طوال سنوات طويلة، وذلك على جناح اختيار موضوعات ذات صبغة عربية تخاطب خيال الجمهور العربي بصفة عامة، خاصة على شاشات المنصات التي تعني باختيار نوعيات الموضوعات الجدلية التي تسعي للسيطرة على الجمهور العربي بعد سقوط الدراما المصرية في المحلية المفرطة، بعدما اعتمدت الإثارة غير المجدية والترويج للبلطجة والعنف وإهانة المرأة.
والمتابع لموسم رمضان 2023، سوف يجد تراجعا ملحوظا في مستوى الأعمال، ففي الوقت الذي تنافس فيها حوالي 30 مسلسلا (أنتجتهم الشركة المتحدة) فشل غالبيتها في التعبيرعن القضايا المصرية التي أصبحت غارقة في المحلية عدا مسلسلات (سره الباتع، تحت الوصاية، الكتيبة 101، رسالة الإمام، جميلة، عملة نادرة)، بينما نجد درامات عربية أخرى تفوقت علينا في التركيز على المضمون العربي الشامل (الزند، ليلة السقوط، ابتسم أيها الجنرال، سفر برلك) نموذجا، وحتى الدراما السورية في موضوعاتها المحلية التي شغلت المشاهد بموضوعات حول لبيئة الشامية (مربى العز، زقاق الجن، خريف عمر، العربجي)، نجحت هى الأخرى في استقطاب كثير من المشاهدين المصريين، وإذا اتجهت غربا في أفريقيا تجد (البيئة الليبية والجرائزية) تقدم أعمالا تستقطب جمهورها (السرايا 2، الدامة) وغيرهما من أعمال تتسم بالجودة على مستوى الصناعة التنافسية.
أذكر أنه عندما طرح الفنان الكبير (محمد صبحي) صرخة المدوية في نهاية سبتمبر 2021، عبر صفحته الشخصية على (فيسبوك)، والذي أشتكي فيه من احتكار الدولة الإنتاج الدرامي وقنوات عرضه، وهو ما أثاره الجمهور بشأن محتوى الفيديو، قضية احتكار الفن والرأي في مصر خلال السنوات الماضية، وتبدو القضية لدى صبحي وكأنه اكتشفها حديثا رغم أن القضية مطروحة بقوة من عدد من الفنانين منذ ثلاث سنوات تحديدا مع موسم الإنتاج الدرامي عام 2018، ففي هذا الموسم نشرت المخرجة كاملة أبو ذكري منشورا على صفحتها تشكو فيه من احتكار شركة واحدة وكيان واحد للإنتاج الدرامي وتسويقه وتحجيم حجم الإنتاج بعدد 18 مسلسلا وقالت إن هذا الاحتكار يجعل مليون شخص في مجال الإنتاج الدرامي عاطلا.
وحينها أيضا قالت النجمة المصرية الكبيرة (غادة عبد الرازق) إنها محاصرة في عملها وإنها لن تستطيع الظهور في موسم رمضان الدرامي، وعلق الممثل (شريف منير) حول ظهوره في رمضان من عدمه قائلا: (هم 15مسلسل فقط) بما يعني أن العدد غير كاف ليعمل المشتغلين في المجال الدرامي بعد سيطرة شركة (إعلام المصريين) على الإنتاج الدرامي في سوق الدراما المصرية كما وكيفا.
هكذا نجد أن الصرخة التي أطلقها (محمد صبحي) ليست الأولى بين العاملين في حقل الإنتاج الدرامي في مصر، وإن كانت لها جذور ظهرت تبعاتها لاحقا، استولت شركة (المتحدة) على الإعلام بقنواته بعد أن أجهزت هذه الشركة على قنوات ماسبيرو إنتاجه الدرامي منذ بداية الألفية الثالثة فصار ماسبيرو دراميا جثة هامدة منذ 2005، ثم أعقب ذلك على مدار الخمسة عشر عاما الإجهاز عليه إعلاميا، لقد قال (صبحي) في بثه إنهم يريدون إنتاجا لشركة واحدة وفكرا واحدا ورأيا واحدا لملاك الشركة يقصد (الشركة المتحدة حاليا)، والتي تعاقدت معه في العالم الماضي على تقديم بعض أعماله في محاولة لإسكاته، لكن مر موسم دراما 2023 دون ظهور أي عمل له للنور.
أما أبرز الظواهر التي تنال من جودة صناعة الدراما المصرية، فهو غياب الإنتاج الدرامي التاريخي والديني والسير الذاتية منذ خمس سنوات، تحت حجج التكلفة الضخمة، رغم إنتاج مسلسلات أخري تتكلف أكثر إنتاجيا ولكنها تصب في فكرة تجديد الوعي أو محاربة الإرهاب، حسب ما يرى صاحب القرار الإنتاجي في مصر، ويكفي أن أتوقف معك في موضوع الإنتاج الديني، والتاريخي عند بقاء مسلسل (شجرة الدر)، للكاتب المصري الكبير (يسري الجندي)، حوالي 15 سنة حتى الآن بدون إنتاج في قطاع الإنتاج، وتم سحبه منذ ثماني سنوات ولا يجد من ينتجه، ومما يستثير الغضب أنه لايقدم (محمد جلال عبد القوي ومحمد السيد عيد، محمد أبو العلا السلاموني)، وغيرهم كثر أية أعمال منذ أكثر من 10 سنوات، ذلك بعد غياب ورحيل (أسامة أنور عكاشة ومحفوظ عبد الرحمن وعبد السلام أمين، ويسري الجندي، محمد صفاء عامر، مصطفى محرم).
الأمر يحتاج إلى وقفة حاسمة لإعادة الدراما المصرية إلى جادة الصواب، بعد أن فقدت بريقها الذي كان، وليت الزمان يعود يوما وقت أن كان المسلسل المصري يحتل شاشات القنوات العربية بجدارة في مواسم رمضان، لكنه الآن لم يعد موجودا إلا قليل منه على منصة واحدة هى (شاهد) من إنتاج (mbc السعودية، والصباح، وجمال سنان اللبنانيين).. يالها من مفارقة تهدد صناعة الدراما المصرية في ظل غياب المنافسة، وهذا ما يستحق التناول من جانبا في حلقات قادمة.