بقلم: محمد شمروخ
رصد التغيرات الاجتماعية ونقدها والتأريخ لظواهرها من أجل الأهداف فيما يقدمه فن التمثيل، لا يكتفى بهذا، بل تبدو الحرفية الفنية في عمليتي التنبيه مع التوجيه، بدون الإخلال بالسياق الدرامى باتخاذ ذلك المظهر الدعائي الفج الذي يخرج النص عن إبداعيته في كثير من الأحيان، والعديد من الأفلام والمسلسلات ارتبطت بحياة الأسرة المصرية لإجادتها في هذه الناحية.
ومن بين تلك الأعمال الراصدة، كان فيلم (الدنيا على جناح يمامة) الذي غاص فيه الأستاذ (وحيد حامد) في النفسية الجمعية للمجتمع المصري من خلال شخصيات الفيلم، والذي كان قبل إنتاجه سينمائيا مسلسلا إذاعيا في عام 1987 يأخذ بآذان المصريين ساعة الإفطار في رمضان على ما أذكر، مع أصوات أبطاله وفي مقدمتهم محمود عبد العزيز ونجلاء فتحي.
وبعد حوالى عامين من نجاح المسلسل الذي يمكن أن تصادف إعادات له متكررة على موجات الإذاعة المصرية، تم إنتاجه فيلما سينمائيا ببطولة نسائية لميرفت أمين، ثم عرض على شاشة التلفزيون لينضم إلى القائمة المفضلة لأفلام الأسرة المصرية.
ومن المشاهد التى نبهت فكرى وأهاجت شجونى وركبتنى الهم، مشهد زيارة (رضا سواق التاكسي) لشقة خطيب زبونته المليونيرة الزاهدة (إيمان) فاشتبك مع ساكنها الذي حل محله ولا يدرى شيئا عنه، ففي الطريق وقبل الزيارة، عندما طلبت منه الصعود إلى إحدى شقق منزل للسؤال عن الخطيب المفقود، أخبرها رضا بأن طرق باب أى شقة بدون معرفة أو مبرر كاف، يمكن أن يحدث مشكلة كبرى – وهو ما كان بالفعل – لكن (إيمان) لم تكن حيئنذ تتوقع أن تكون حدثت كل تلك التغيرات في المجتمع خلال 16 سنة فترة غيبتها خارج البلاد، فقد قالت له بحزن شديد أنها قبل أن تغادر مصر كانت كل العيون بتحرس بعضيها وكل أبواب الشقق مفتوحة في أمان.
ولم يصور حال التغير الاجتماعى الخطير الذي طرأ على الحياة المصرية حوار مثل هذا الحوار الذي تشعر فيه بفداحة ما حدث للمصريين، بعد أن صار كل باب عليه عين سحرية.
………………………………..
هذا طبعا قبل انتشار ثقافة الإنتركم على أبواب العمارات!
………………………………..
وبرغم أن مشهد المشاجرة التى نتجت عن مغامرة رضا بدق جرس باب الشقة الكائنة في درب الجماميز في قلب حى السيدة زينب، انتهى كوميديا بالأداء العبقرى للفنان الراحل العظيم محمود عبد العزيز، إلا أنه كان يحمل من المرارة ما لا يحتمله قلب ويكشف صورا بشعة لكائنات منتسبة للآدميين وتحمل جنسية البلاد!
فماذا حدث للبيوت المصرية؟!.. ولماذا تباعدت على ما كان من قربها؟!.. وكيف صار الناس غرباء وراء الأبواب المتقابلة؟!.. في المدينة الواحدة والشارع الواحد والعمارة الواحدة وأحيانا في البيت الواحد!
كان هذا المشهد معبرا عما كان من واقع في نهاية ثمانينيات القرن العشرين، وفي قلب حي شعبى أصيل من الحياء التى تمثل روح مصر الأصلية.
والآن لم يقتصر الأمر على القاهرة ولا المدن الكبرى فحسب، فحتى في الأرياف بالوجه البحرى وفي نجوع عمق الصعيد، أغلق الناس أبوابهم في رابعة النهار وهى التى لم تكن لتغلق إلا مع نهايات الليل!
فكيف صار الناس بكل هذا الجفاء والتباعد؟!
………………………………..
قريبا كنت أصلى الجمعة في أحد المساجد بشرق القاهرة، فسمعت خطيب المسجد يتحدث عن استفحال هذه الظاهرة وشكا هو شخصيا من أنه عندما يلقى جيرانه صدفة عند مدخل العمارة التى يسكن بها أو أمام الأسانسير، لا يبادرونه بالتحية ويردون على مبادرته بالتمتمة أو بالإشارة مع إشاحة الوجه!
………………………………..
لا تنكر أن هذا يحدث معى ومعك كثيرا، فقد اكتشفت أننى لا أكاد أعرف من هم جيرانى وحتى عندما ألتقى مع احدهم وجها لوجه، لا أعرف هل هو من السكان أم من الزائرين!، بل ويبدو أحيانا أن أجواءً من الريبة ترفرف عل الوجوه، ورأيت بعيني ذات مرة ملامح الفزع على وجه طفل بسبب ظهور أحد الجيران عند هبوطه سلم جراج العمارة، بالرغم من أن الوقت كان نهارا والمكان مضاء إضاءة كافية، والعجيب أن السيدة التى ترافق الطفل وهى غالبا أمه، أمسكت بيده وانتحت جانبا وقطبت جبينها في ضيق لمصادفة اثنين من الجيران في مدخل الجراج، ولم يبد على جارى الذي أعرف اسمه بالكاد، ما يبرر هذا الفزع من الطفل ولم يبدي أى رد فعل سوى أنه تجاهل الموقف وكأنه اعتاده أو كان له ما يبرره.
مشهد آخر في أسانسير العمارة، عندما صرخت فتاة فزعا وكادت تستغيث عندما هممت بفتح باب الأسانسير عند هبوطه الدور الأرضى حيث كانت تهم بالنزول، فتسمرت في مكانى من العجب وشرعت لأهدأ روعها، لكنها هرولت خجلة لأنها فيما يبدو أنها أدركت أن الموقف لم يكن يستحق.
هذا، غير ملامح الصلف والتظاهر بعدم سماع من الكثيرين في كل مكان تحية “السلام عليكم” أو صباح الخير.
وكدت أجرى استطلاعا بين أصدقائي ومعارفي، فإذا بالأمر يبدو كقوانين اجتماعىة يخضع لها الجميع، في مقرات العمل، في السنترال، السجل المدنى، البنك، السوبر ماركت، في أماكن انتظار السيارات:
(لا تبدأوا أحدا بالتحية ولا تفشوا السلام بينكم)
(لا يبادرك بمثل ذلك إلا متطفل أو متسول أو سيء النية)
(تجاهلوا بعضكم بعضا واتركوا الصمت عبر عن صلفكم)
(لا تبتسموا في وجه أحد إلا من أجل منفعة أو درءا لمضرة)
(تجهم في وجه أخيك، ما استطعت حتى تجعل لنفسك قيمة)
(تباعدوا.. تنجوا، تباغضوا تسلموا)
وزاد من فداحة هذا (التفاصل) الاجتماعى وانتشاره حتى بين سكان المنزل الواحد وبين زملاء العمل الواحد، بل تجده في أماكن خدمية بطبيعتها تعتمد على ضرورة حسن معاملة الزائر كالفنادق والمولات والمتاجر، فهناك موجات من الأنفة الكريهة غير المبررة وهذا ما نتج عن كثير من العوامل وترسخ في الوعي الجمعى، لاسيما إثر تلك الدعاية السوداء التى أعقبت الانتشار الغامض لفيروس كورونا، مع الأمر مباشرة بالتباعد الاجتماعى وتجنب الاقتراب وحظر التلامس ومنع المصافحة حتى بين الآب وأبنائه والجد وأحفاده، حتى رأينا ذلك المشهد (السخيف) لجدين بريطانيين مصابين بالكورونا يحبسان دموعهما من وراء حاجز زجاجى، في أكبر مهرجان للجنون شمل الكرة الأرضية كلها.
ثم إذا بفيروس كورونا يختفى وتختفى معه كل دعوات التباعد، لا لسبب إلا لأن التباعد قد رسخ قيم التفاصل بين الناس وماتت الحميمية وتجنب النس بعضهم بعضا دون حاجة لدعاوى صحية أو إجراءات احترازية، بعد أن ثبتت في النفوس هذه التعليمات الخبيثة وتحول كوكب الأرض إلى معازل عملاقة، فكأن الدنيا كلها صارت بالفعل على جناح طائر، لكنه ليس يمامة ولا حتى كان غرابا يبحث في الأرض، بل صارت الدنيا على جناح طائر بغيض ابتعث ليعلم الإنسان كيف يأنف من أخيه ولا يوارى سوأته ولا يكون من النادمين.
هذه تداعيات مشهد واحد عبر بكل صدق عن مدى انتشار ظاهرة (التجحيش) ما بين الناس، فهناك شخصيات (جحشية) أكثر غباءً من الرقيب متولى (مدرب الكاراتيه في قوات حفظ السلام) الذي كاد يفتك برضا لمجرد سؤاله عن ساكن قديم ومنطقه يقول: (هى البلد ترسى على حالها أسبوع يا مدام لما هتقعد 16 سنة؟!).