كتب: محمد حبوشة
يختلف الناس حول الأعمال الفنية وخاصة المتعلقة منها بالتمثيل والغناء، فتجد أن منهم من يرفضها جملة وتفصيلا، ومنهم من يطلق العنان لقبولها دون قيد أو شرط بذريعة أن الفن ينبغى أن يتمتع بحرية فى التعبير، وأن الإبداع ينبغى ألا يقيد بقيود، وكلا المسلكين من وجهة نظرى غير منطقي وسليم، فإطلاق العنان لقبول الفن بكل صوره وأشكاله – حتى إن تجاوز الذوق العام واخترق الخطوط الحمراء فى تقاليد المجتمع وأعراف الناس، بل فى الدين كذلك بدعوى حرية الإبداع – لا تقره الأعراف السليمة، ولا تقبله الفطرة السوية، ناهيك عن رفض الأديان له، كما أن رفض الفن جملة يعد مغالاة تخالف الراسخ عقلا وتنافى الثابت دينا.
لذلك، فإنه ينبغى على صناع الأعمال الفنية – وبخاصة المسلسلات الدرامية في موسم رمضان – أن يحرصوا على ما يتقبله الذوق العام من موضوعات ومشاهد لا تتضمن إسفافا فى الألفاظ أو كشفا للعورات، أو عنفا عبر قوة مفرطة ترسخ للبطل أو الـ (هيرو) الذي يقلده الشباب، فمهمة الفن هى العمل على الرقى بالذوق العام، وتسليط الضوء على النماذج المشرفة والجوانب المضيئة فى المجتمع، وتناول القضايا والمشكلات المجتمعية، بهدف العمل على انتشار الجانب النافع الجيد ومحاولة علاج وتقويم الجانب الضار القبيح وتقديم الحلول له، وذلك من خلال استعانة مؤلف القصة أو كاتب السيناريو بالخبراء فى المجال الذى تقع فى دائرته المشكلة أو الظاهرة التى سيتناولها فى عمله الفنى.
إن الفن لا ينبغى أن يكون معول هدم لقيم المجتمع ومبادئه وتماسك بنائه الأسرى ووحدة نسيجه الوطنى، مثلما حدث ويحدث الآن في لوحة رمضان عبر مسلسل (جعفر العمدة) الذي يضرب عرض الحائط بكل القيم والمعاني الإنسانية السامية، فهاهو البطل أو الـ (هيرو) يقوم بفرض سطوته وإظهار بطولته على حساب كل من حوله، سواء كانت زوجاته التي يكيل لهن الإهانة من حلقة لأخرى وكأنه يثبت رجولته بفعل درامي رجيم، فضلا عن فرط القوة والعنف الذي يمارسه تجاه كل من حوله سواء توجيه الإهانة لشقيقه الأكبر (سيد) الذي لعبه ببراعة مطلقة الفنان (أحمد فهيم)، والذي فاق أداءة التراجيدي أداء (محمد رمضان) بمراحل، وكذلك إفراط كبير في القوة تجاه شقيق زوجته (كارم فتح الله/ أحمد عبد الله) الذي ضربه ضربا مبرحا، وكأنه يرسخ للبطل الذي لايقهر دون وضع أي نوع من الاحترام لصلة القرابة.
المتتبع لسيرة (محمد رمضان) سوف يلحظ أنه من النجوم الذين يدعون صعود سلم الشهرة بمعاناة – حسب تصريحاته الدائمة – لكن الحقيقة أنها مجرد ضربة حظ، يتنفس الصعداء بعدها، ويرفل في النعيم، وكل هذا مجرد استراحة قصيرة، ليخوض المعركة الحقيقية التي يتحول فيها إلى لاعب سيرك للأبد، ومن ثم فعليه السير على حبل مشدود بحذر ومرونة وثبات، وإلا سيكون السقوط المروع، والخروج من لعبة النجاح، فهو لايدرك أن النجوم على القمة دائما (في مهب الريح) تتقاطع مصائرهم مع السلطة والنفوذ والسياسة وأصحاب الثروات، وهنا مكمن المخاطر والعثرات والأزمات.. وهذه قصص نجوم وأبطال (في مهب الريح) في عصر (السوشيال ميديا) بإرادتهم أو رغما عنهم.
لو تم الدفع له لكي يقدم عملا فاشلا بحسب مراده في إشباع رغباته الجامحة نحو البطولة التي تفتك بغرمائه، لما نجح محمد رمضان في الوصول إلى هذا المستوى من الفشل الذريع في الأداء الذي نراه للعام الخامس على التوالي في (جعفر العمدة)، فقد فشل في تقديم شخصية يتفاعل معها الجمهور أو حتى يتعاطف معها السنة الماضية، وليست المشكلة فقط في الحبكة الدرامية، التي أرادت أن يكون في (جعفر العمدة) المقهور بخطف ابنه رغما عنه، والشجاع ونصير الغلابة والعاشق وصاحب قلب الأسد فحسب، ولكن جاء أداء (رمضان) هزيلا، وظني أنه سيخرجه من المنافسة تماما، حتى ولو استعان بمخرج أكثر فسادا منه مثل (محمد سامي) الذي فصل له (جعفر العمدة) على مقاسه الخاص، كما فعل من قبل في مسلسل (الأسطورة)، وكأنه يقدم ملحمة درامية مع أن القصة تحكي مجرد سيرة لرجل أعمال يتمع بالنفوذ والسلطة اللتين تبرران له الإفراط في القوة والعنف.
لجأ (محمد رمضان) إلى تغيير (تون صوته) في محاولة لإثبات رجولته المزيفة، وإظهاره من جديد كبطل أسطوري يمثل القدوة لشباب متعطش للبطولة حتى ولو كانت زائفة، بعد تعرضه للانتقاد بسبب عري كليباته وتطبيعه ونفي صفة الشذوذ التي لحقته وغيرها من موبيقات ارتكبه خلال الصيف الماضي، وكان (جعفر العمدة) فرصة عظيمة ضاعت بسبب النص المكتوب والسيناريو للأسف بطريقة ساذجة شوهت تجربة مسلسل راسخ في الذاكرة المصرية (عائلة الحاج متولي) التي قدمها الراحل العظيم (نور الشريف) بعذوبة وصدق، وضرب أروع الأمثلة في احترام العائلة، رغم أنه كان رجلا مزواجا، إلا أن الرحمة والإنسانية في تعامله مع زوجاته كانت غالبة على نزواته وحبه للنساء، لكن (رمضان) في هذه الدراما الشعبية الجديدة سار على نهج (عادل إمام) في إهانة المرأة في غالبية أعماله.
قبل عدة أيام وأنا في طريقي لشراء (فول للسحور) لاحظت تجمعا شبابيا يزيد على الخمسين في خناقة على طريقة (محمد رمضان) في أعقاب حلقة ضرب (شقيق زوجته)، حيث يقول أحدهم بعد أن ضرب شاب آخر ضربا مبرحا كاد أن يفضي به إلى الموت (أنا جعفر العمدة ياض)، وهو ما قوبل بالتصفيق الحاد من جانب الحاضرين، وهو نوع من التقليد الأعمي لـ (هيرو) الشباب حاليا، ومن هنا لابد من مناقشة ظاهرة (رمضان) التي تؤثر سلبيا على أجيال من الشباب الضائع على مستوى الهوية، وعليه، فإننا فى أشد الحاجة إلى استعادة ذاك النوع من الفن الهادف المرتبط بواقع الناس حقيقة وليس اختلاقا، الفن الدافع والمحفز على إتقان العمل وزيادة الإنتاج، وترسيخ الانتماء وحب الوطن والتضحية من أجله، الفن المحصن من التطرف والمخدرات، والمحارب للفساد والبيروقراطية.
وما أحوجنا الآن أكثر من أي وقت مضى إلى الفن الذى يعزز قيم الحق والعدل والنخوة والشجاعة والإحسان، وغيرها من الصفات الجميلة التى يمتاز بها الشعب المصرى، وليقتد القائمون على هذه الصناعة اليوم بالأعمال الجادة الهادفة التى كان يتابعها ويلتف حولها كل أفراد الأسرة كبارا وصغارا دون ملل أو خوف من كلمة نابية أو مشهد عرى (كما استعرض ذلك رمضان في أحد المشاهد) عندما خرج إلى الصالة عاري الصدر، أو عنف ينعكس على سلوكه المقزز في توجيه الإهانات لكل من حوله، هى كارثة بكل المقاييس عندما نشاهد إقبالا كبيرا على من يضرب كل القيم الإنسانية ويقدم نموذجا بطوليا فاسدا أخلاقيا.
صحيح أن البشرية تشهد اليوم أكثر من أي وقت مضى كثيرا من مظاهر السقوط على كل المستويات، وتراجع في قيم ومكتسبات فلسفية كثيرة، وقد أصبحت تطبيقاتها القانونية والأخلاقية والسياسية اليوم في محل اختبار حقيقي أمام موجات التافهين الذين أصبحوا مسيطرين على قمرة القيادة، ودفة السفينة البشرية المعاصرة، ولقد غدت تجليات مثل هذه النظرية واقعا، لا على مستوى النخبة السياسية الحاكمة فحسب، بل أصابت حتى المجال العام فنيا وأدبيا وثقافيا وذوقيا، فغابت كل الأفكار والقيم الجميلة، والإبداعات الإنسانية فكرا وفلسفة وقانونا وأخلاقا وفنا، واكتظ المشهد العام بهبوط مريب للقيم الإنسانية النبيلة والخلاقة، لتحل محلها كل رداءة وسقوط في كل شيء.
هذا ما يتجلى اليوم في كل شيىء يقدمه (محمد رمضان)، وفي كل تفاصيل المشهد من حولنا في كثير من الأعمال الدرامية الهزيلة، فقط ما عليكم سوى أن تجيلوا النظر من حولكم، وتلمحوا التفاهات التي تحاصرنا، وفي كل شيىء نلمحه ويجول من حولنا، فأصبح الإنسان سلعة رخيصة الثمن من وجهة نظره القاصرة، في زمن التفاهة والانحطاط، وتكاد تتلاشى القيم النبيلة في عالمنا اليوم، وفي القلب من عاصفة التفاهة الراهنة يقع (رمضان)، ويقدم نفسه وذاته وحاضره ومستقبله بأحط أنواع التفاهات والانحطاط، ففي عصر التفاهة لم يعد أحد يفرق بين مصلحته ونقيضها، فهو يعمل ضدا حتى مصلحته الخاصة، في ظل شيوع حالة السطحية والتفاهة الحاكمة للأفكار والأذواق والأنساق والأنماط المعاصرة للتفكير والقرار.
لايرى (محمد رمضان) فنه سوى أنه وسيلة تجارية لجلب الأموال أو استثمارها فى ما لا طائل منه، وينسى تماما أن يكون أداة إيجابية نافعة ترقى بالذوق العام وترسخ للقيم والمبادئ وتتناول المشكلات المجتمعية بمهنية ومسؤولية بغرض المعالجة الحقيقية وليس من أجل الربح المادى، ولن يقوم الفن بدوره كما ينبغى دون الاستعانة بالخبراء والمتخصصين فى الظواهر المتناولة، وعدم اعتماد المؤلفين وكتاب السيناريو على خيالهم ووجهة نظرهم فقط، والأهم من ذلك عدم التذرع بأن هذه الصناعة تقوم على رغبات المشاهد وما يستهويه، أو التحجج بأن (الفن مرآة الواقع)، لأنه لا يعقل ولا يتصور أن تكون الأعمال الفنية التى تم إنتاجها فى السنوات الأخيرة معبرة عن حال المجتمع أو ما يمكن أن يمثل (ظاهرة) حقيقية تقتضى تناولها فنيا.
وأخيرا: هل أصبح مجتمعنا يقر أو يستهويه هذا الابتذال والإسفاف اللفظى والسلوكى الذى أصبح السمة البارزة فى معظم الأعمال الفنية التى يقدمها (مضان) وتعرض على شاشات التلفزيون الذى لا يكاد يخلو منه بيت الآن؟، وهل يستخدم الناس فى مجتمعنا أو يستسيغون تلك الألفاظ البذيئة أو الممارسات اللاأخلاقية التى أصبحت (عادية) فى التعامل بين الممثلين الذين أصبحوا قدوة ومثلا أعلى للأطفال والشباب اليوم؟!