كتب: محمد حبوشة
لم يكذب سقراط يوما حين قال إن (الدرما محاكاة لفعل إنسان) وأيضا لم يكذب من قال إن (الفن هو انعكاس للمجتمع)، لأنه يخدم قضايا المجتمع بالأساس، وهو ما حدث مع نوعية الدراما التى تقدم حاليا والتى تشكل فى مجملها تعبيرا صادقا عن حالات إنسانية واقعية تعيش بيننا، وفى القلب منها قضايا الأسرة التى تتغير بتغير الظروف والأزمان، وغيرها من حكايات تغوص فى أعماق النفس الإنسانية على جناج النقد لظواهر سلبية تضرب عضد الأسرة فى مقتل، ولأن الأسرة تعد هى النواة الأساسية فى بناء المجتمع؛ فعليها يعول تقدم هذه المجتمعات وتخلفها، فالأسرة السوية التى قوامها الحب والتفاهم والاحترام؛ مصدر خصب لنشء صالح يسهم فى تنمية المجتمع وتطوره، وقيادة مستقبله نحو الأمن الشامل والاستقرار والطمأنينة والرخاء.
ومعروف أن الدراما الاجتماعية تستدعي على الدوام أسئلة مقاربة، ليس لجهة نسبة مشاهدتها، كما الحاجة لامتدادها على الخارطة الدرامية، بل لما ينطوي عليه خطابها الدرامي من موضوعات جاذبة، أو طاردة لما يمكن أن نسميه هنا بثقافة المشاهدة، لعلها تشكل بعيدا عن نزعات الترف والاستهلاك، الحاجة لثقافة جمالية، لا تعوض بؤسا بعينه، بقدر ما ترتقي بالواقع وأسئلته، لتصوغ وعيا جماليا ورؤيويا، معادله صورة تعكس الواقع وتفارقه في آن واحد، دون أن تجعل من شخصياته أنماطا جامدة لا سيما في الأعمال التي تمثل ألفة مع المتلقي ويلتقي معها مزاجه النفسي وأفقه الفكري.
ولأن النص الدرامي لم يعد لذاته، بقدر ما يذهب ليؤلف مع مشتركات أخرى حساسية تعبيرية تتكئ على الواقع، لكنها تفارقه لتقدم برهات ارتطاماته، كما تتبدى في المخيلة الدرامية بالانطلاق من ما تمثله أعمال درامية هي قيد انتظار المتلقي، من استعادة معنى المغامرة الفنية، لاسيما ما انطوى منها على (تجريبية) واعية لأدواتها، وعلى الأخص الجانب التقني – السينمائي – استجابة لحداثة الشرط الفني المتغير، وهو ما لم أجد له شبيها من قريب أو بعيد في مسلسل (أولاد عابد) الذي أراه ينتمي لتيمة مكررة من زمن فات.. فقط يذكرك بدراما الثمانيات والتسعينات من القرن الماضي.
قصة سماح الحريري في (أولاد عابد) قديمة للغاية وإعادة تكرار ممل لمسلسلات تم معالجتها قضية (الإرث) من قبل، والقصة هنا لاتتكأ على عناصر الجذب والإبهار، بل جنحت نحو ممل واضح لأحداث مفاعلة تنم عن خيال قاصر من جانب مؤلفة برعت في اللون الاجتماعي من خلال أعمال سابقة، وعلى الرغم من وجود فعلي للمخرج (أكرم فريد) فإن ذلك لاينفي هذا جودة أداء طاقم التمثيل – على الرغم من أسلوب المط والتطويل وتكرر التيمة – فقد حاول الممثلون بشق الأنفس أن يعوضوا ضعف القصة وترهلها وعدم منطقية أحداثه، تغوص أحداث المسلسل في خبايا عائلة (عابد المصري)، وهو المكان الذي يعيش تحت سقفه ثلاثة أجيال متعاقبة، (عابد) رجل الأعمال الثري وصاحب مصانع ومعارض السيراميك الأشهر في مصر، وهو رجل بنى امبراطوريته بنفسه، مزواج وأنجب أربعة أبناء من زيجات مختلفة، وهو ما كان ينبغي له أن يخلق أجواء من الحساسية في ما بينهم تصل إلى حد التكالب على جمع المال من ناحية والتقرب من الأب للحصول على امتيازات ومنافع إضافية من ناحية أخرى، ربما حاولت (سماح الحريري أن تشعل المواجهات بين الإخوة والزوجات، عندما يقرر عابد تخصيص نصف ثروته لإحدى بناته، ويتحول البيت الكبير إلى جحيم، لكنها أخفقت في استمرار الأحداث بالسخونة اللازمة.
يبدو من وجهة نظرى أن هذا (الجحيم) مفتعل إلى حد كبير، فهذا المسلسل يتناول جزئية في غاية الأهمية، وهى أن النبتة الطيبة تؤتي ثمارا طيبة، لكن حينما يكون الإنسان على خلاف هذه الصورة، سنكون أمام صراعات عائلية جمة، وهو ما حصل مع (عابد) الرجل المزواج وزير النساء، وهو صاحب أحد أشهر المصانع في مصر، تشرح الأحداث أن (الأبناء كبروا على المصلحة والطمع، كل منهم لديه جانب مكتسب من الشر، قد يؤدي به إلى الانتقام ممن يقف في طريقه، على خلاف الأحفاد الأكثر اعتدالا ونضجا ووعيا)، وهذا بالطبع كفيل بصناعة دراما مثيرة، لكن تبقى الحسنة الوحيدة في هذا المسلسل وجود فنانين شباب بعضهم ما زالوا في المعهد، كانوا بمثابة فاكهة هذا المسلسل لجهة خفة الظل والالتزام وهم مبشرون بأن يكونوا في مصاف النجوم في المستقبل، فضلا عن الإنتاج المميز لاستوديوات mbc، التي لم توفر جهدا لتقديم العمل بمواصفات إنتاجية أكثر من جيدة.
وأعود لفريق التمثيل الذي يحوي أجيال متعددة تجتمع تحت سقف واحد، تعيش صراعات دراميّة ومواجهات ومفاجآت، فيضم العمل كوكبة من الممثلين المخضرمين والشباب منهم رياض الخولي، آيتن عامر، محسن محى الدين، مي الغيطي، إيهاب فهمى، انتصار، محمد رضوان، صفوة، نادين، رباب ممتاز، سامية الطرابلسي، تتيانا، جمال عبد الناصر، مصطفى غريب، أسامة عبد الله، عفاف مصطفى، كريم العمري، چنى صلاح، مصطفى رشدي، إبراهيم كمال، أحمد باهر، مازن جمال)، وبمشاركة (عايدة رياض، جميل برسوم) وآخرين.
وللحقيقة أقول أنه قد برع (رياض الخولي) في الأداء إلى حد الذهول، ولهذا أعتبره عملاقا في الأداء الدرامي الصعب وورقة رابحة للمخرجين الباحثين عن الأبداع التمثيلي الحقيقي، فهو على حسب خبراء التمثيل: يتمتع بجسد مرن ومطواع ومعبر، يمكنه من تقديم المراد منه بكل براعة وخصوصية، كما أنه يستطيع الإلمام بمختلف العواطف والمواقف والدوافع الإنسانية حتى تصبح تأديته لأدوار وشخصيات مختلفة ممكنة ومنها بالطبع شخصية (عابد المصري) الذي أداه بلغة جسد فائقة الجودة، وعكس المشاعر الداخلية للشخصية بإبهار، ولا ننسى أن الممثل الجيد، ينمي حواسه في ملاحظة الآخرين، وتذكر طريقة تصرفهم في هذا الموقف أو غيره، وهو ما تجلى في أداء رياض الخولي الذي تغلب على ضعف القصة بأداء عذب يؤكد موهبته الطاغية في الأداء الاحترافي مهما كان ضعف الورق.
إيهاب فهمي، الذي تخصص في أدوار الشر اللذيذ، والذي أحبه الجمهور المصري في دواره الأخيرة، يعزف هنا في (أولاد عابد) على أوتار أخرى، حيث قدم دور الزواج الذي انسحب من العائلة وراح يهيم في معترك حياة الصوفية هروبا من المسئولية الاجتماعية، ومن ثم جسد شخصية (رياض) بطريقة تظهر براعته كممثل وتشير إلى موهبته الحقيقية، فهو ممثل يتلون كالأفعى، لكن كل ذلك تم بأعصاب هادئة للغاية وعادة ما يغلف المشهد بابتسامة تعكس تلقائيته واحترافية في الأداء الصعب، وحرفية التمثيل عند (إيهاب فهمي) هى مقننة وتتسم بالعفوية والتلقائية الخالية من أي مبالغة في الأداء، وهو ما بدا لنا في القدرة على التحكم في فن الإلقاء، وذلك بأقل ارتفاع في الصوت لايزيد عن حده الطبيعي حتى يصبح نشازا كما هو الحال مع الصورة.
محسن محي الدين، ملامحه الهادئة ووسامته التي ساعدته على دخول مجال التمثيل، والقيام بدور البطولة منذ بدايته وخاصة شخصية الشاب المدلل الذي يتميز بخفة الدم، لم تنسه أنه هنا يقوم بدور شرير في ثوب حمل وديع، فقد جاءت عينيه معبر للغاية ومعايشته لشخصية (أدهم) وتقمصها يبدو لي في كل حالاته أنه لا يفقد الفكرة الرئيسية، ويبقى طوال الوقت مسيطرا على ذاته وتسعده حالة الإبداع التي تظهر في أثناء تفاعله مع الشخصية، فضلا عن السيطرة على الذات و إيصال ما وراء النص، كما يملك القدرة على موازنة القدرات الإبداعية الداخلية مع إمكانات التعبير الخارجية وتوزيعها بشكل صائب، ويعني هذا استخداما ذكيا وواعيا للفن وانسجام المشاعر والأفكار، كما بدا من جانبه في إظهار الجانب التراجيدي في اتساق تام مع الأحداث والصراع على الأرث.
انتصار، كتلة من الموهبة التي تفيض حبا وتألقا من عمل لآخر، قدمت شخصية (جميلة) بطريقة شعبية فائقة الجودة، تخلط الكوميدي بالتراجيدي في ثوب غريب وعجيب، وهى بنظري واحدة ممن يملكن المهارة الخاصة في الأداء الاحترافي الذي يتمتع بالذكاء العاطفي، فضلا عن موهبتها الطبيعية التي تساعدها في القدرة على الأداء الصعب، وذلك عن طريق الانغماس بالكامل في الشخصية، وتدخل تحت جلدها، وربما يكون هذا الأسلوب الأكثر شيوعا للبكاء في الشخصية ناتجا عن كونها ممثلة منشغلة بالكامل هى أو نفسها في الدور، فعندما يختبر الممثلون بنشاط لوحة المشاعر الخاصة بشخصيتهم ويتعاطفون معها بصدق ينجحون في العادة، كما فعلت (انتصار) في شخصية (جميلة) التي تميل في غالبها إلى جانب التراجيديا الإنسانية مخلوطة بحس كوميدي لاذع أكسبها بريق خاص وأخاذ في (أولاد عابد).
أيتن عامر، تحمل بين جوانحها مكونات الممثلة المتميزة في الأداء، تتوزع حركاتها وسكناتها بين المرونة الجسدية والصوت المعبر والحركة والتعبير الخيال والإحساس بالصدق كما بدا في شخصية (هيام) الطماعة والجشعة، بأداء متماسك، وتجلى ذلك بعناصر مؤثرة ومثيرة من خلال معرفتها لأبعاد الشخصية وتحليلها كالبعد الطبيعي والنفسي والاجتماعي بحيث يأتي أداءها بمهارة مقنعة للمتلقي، ويبدو لي أنها تدرس الشخصية التي تحاول أن تقوم بها جيدا، وتعرف أين موضع شخصيتها بالنسبة للظروف الزمانية والمكانية وظروف الشخصية التي تسبق أحداث الشخصيات الأخرى ومواقفها.
وعلى الرغم من براعة هؤلاء الخمسة بالإضافة (جميل برسوم، ومحمد رضوان، وعفاف مصطفى)، فضلا عن فريق الشباب وخاصة منهم (مصطفى غريب) الذي يملك حسا كوميديا رائعا ينبغي الانتباه إليه وتوظيفه بشكل يناسب حجم موهبته، فإن هنالك من أخفقوا كثير في أدائهم وعلى رأسهم (صفوة) التي لاتملك أية مقومات لوقفها أمام الكاميرا، وكذلك أسلوب التشنج المتكرر في أداء (نادين) التي اعتادت هذه الطريقة في أدائها، أما (مي الغيطي) فهي أضعف حلقة في هذا المسلسل، حيث يخلو أدائها من الحرارة التي أبدتها في أعمال سابقة، فقد كانت ممثلة مبشرة كما ظهرت في عدة أعمال في أدوار صغيرى، لكنها هنا باردة للغاية، ملامحها جامدة، ولا تجيد التلوين بالصوت والإحساس بمشاعر الشخصية، رغم أنها منحت مساحة لابأس بها.