بقلم: محمد شمروخ
لماذا لم نعتبر (إبراهيم حمدى) إرهابيا مع أنه قتل عبد الرحيم شكري رئيس الوزراء؟!
يمكن أن يكون السؤال قد ثار في أذهان كثيرين وهم يشاهدون أحداث فيلم (في بيتنا رجل) وهو واحد من الأفلام التى تلتف حولها الأسرة فى سهراتها أمام التلفزيون، ومازال الفيلم يحتفظ ببريق أبطاله ومنهم خمسة نجوم شباك في في عصر السينما الذهبي، وصار الفيلم من كلاسيكيات الشاشة ووضع في قائمة أفضل 100 فيلم مصري.
والفيلم مأخوذ عن رواية كتبها إحسان عبد القدوس.. حين كتابتها في الخمسينيات وبعد إنتاجها فيلما في عام 1961، لم يكن هناك ذهن في مصر يمكن أن يخطر بباله مثل هذا السؤال بسبب ارتفاع موجات المد الوطنى التى جعلت كلا من القارئ والمشاهد والناقد لا يرفضون نموذج إبراهيم حمدى بل يرونه بطلا، لا سيما وأنه اغتال خائنا للوطن يجب أن يلقى هذا الجزاء مثل أى عميل للاحتلال الأجنبي!.
وإذا ما أسندنا الرواية جانبا وقفلنا التلفزيون، ثم فتحنا كتب التاريخ فسنجد من يكشف لنا حقيقة القصة التى كتبها عبد القدوس وأخرجها بركات فيلما، فقد كانت في أصلها عن حادث اغتيال أمين عثمان يوم 5 يناير 1946 ولم يكن صبيحة اغتياله يشغل منصبا رسميا منذ إقالة وزارة النحاس باشا التى جاءت على أثر (حادث 4 فبراير 1942 الشهير) وكان أمين وزيرا فيها حتى أقيلت في أكتوبر سنة 1944.
ولكن تم تغيير اسم أمين عثمان إلى عبد الرحيم شكرى، وجعلوه رئيس وزراء وليس وزيرا للمالية، والمقابل الواقعى لإبراهيم هو (حسين توفيق)، الشاب الوطنى المتحمس ابن الذوات ربيب مدرسة الفرير، فقد كان والده وكيلا لوزارة المواصلات ويحمل رتبة الباشوية، وكان حسين يشترك في مقاومة الاحتلال بطرق شبه عشوائية بالاعتداءعلى عساكر وسيارت الجيش البريطانى خلال سنولت الحرب العالمية الثانية، في ضاحية المعادى التى تقطنها أسرته.
وقد تحول هذا الوطنى العشوائي المندفع إلى عنصر تنظيمي تم اختياره لينضم إلى معية وطنية سرية أحد قادتها البارزين شاب اسمه أنور السادات سبق اعتقاله وفصله من الجيش بسبب اتهامه في قضية تخابر مع الألمان..
وتفاصيل القصة كتبها السادات في كتابه (البحث عن الذات).
المعروف أن سبب اغتيال أمين عثمان المباشر، تصريحه الشهير بوصف العلاقة بين مصر وبريطانيا بأنها علاقة (زواج كاثوليكي لا طلاق فيه ولو تركتنا بريطانيا فيجب ألا نتركها).
وأمين ربيب مدارس فيكتوريا كوليدج وأكسفورد، تزوج البريطانية الليدى كاترين جريجورى واختار العيشة الأوروبية الفارهة نموذج حياة، لم يمارس أى عمل سياسي إلا من خلال كونه موظف كفء دؤوب يحوز ثقة رؤسائه، فقد كان متفرغا لنجاحاته العملية في وظائفه التى تولاها، حتى انتهى وزيرا في حزب الوفد، الذي كان كثير من رموزه قد خلعوا الجلاليب الزرقاء والصديري، ولبسوا الأسموكنج والردنجوت، ودخنوا البايب والسيجار بدل الجوزة والسجارة اللف.
إن شئت الدقة ليس التصريح وحده يمكن أن يكون سببا، فقد لعب عثمان دورا خطيرا في الاتصالات المكوكية ما بين رئيس حزب الوفد مصطفى باشا النحاس وبين السير (مايلز لامبسون) سفير بريطانيا العظمى في القاهرة، الذي حاصر قصر عابدين بالدبابات، ليجبر ملكها (الولد الصغير كما يصفه) على تكليف النحاس زعيم الأمة ليضمن الإنجليز بذلك استقرار الجبهة الداخلية لمصر التى كان تهددها قوات المحور مع توغل القائد الألمانى الشهير روميل في صحاريها حتى وصل العلمين موشكا على احتلال القاهرة!
ولأن القاعدة الساذجة (عدو عدوى صديقي) أثرت على موقف الجماهير، خرجت المظاهرات تهتف (إلى الأمام يا روميل) ليهرع الإنجليز بتولية النحاس لحين تدبير أمورهم على الجبهة الغربية مع روميل.
وبعد أن استقرت الأمور، عاد فاروق ليقيل وزارة النحاس، وهنا تظهر رواية (غير معتمدة) عن سبب مقتل أمين عثمان، بأن فاروق كان وراء هذا الاغتيال بواسطة حرسه الحديدي انتقاما منه لدوره في 4 فيراير الذي ذل فيه ملك مصر داخل قصره، كما تردد أن الإنجليز بجهزون عثمان ليشكل الوزارة رغما عن أنف الولد الصغير!
عموما لم يهتم الفيلم ولا الرواية بهذه الأحداث التى لابد من سردها لنتلمس الأسباب التى أدت إلى القبول الجماهيرى لكليهما، بل وللحادث الحقيقي، فلم يحزن الشعب المصري على مقتل أمين عثمان، وفي نفس الوقت أظهر تعاطفا قويا مع المتهمين في القضية وفي مقدمتهم مرتكب الحادث (حسين توفيق)، كذلك أنور السادات المحرض الأول والذى لم تثبت إدانته فخرج منها براءة، بينما حكم على حسين بالسجن 10 سنوات، غير أنه تمكن من الهرب مرة أخرى.
وكان حسين قد لجأ في رحلة هروبه الأولى إلى منزل أسرة عادية، ليستوحى إحسان أحداث روايته مع تغيير ما يلزم، إذ أن سرد الوقائع بشكل مطابق، يحول الروائي إلى مؤرخ، والرواية إلى بحث تاريخى!.
والمفاجأة أن إحسان كانت تربطه بحسين علاقة صداقة وطيدة ويتبادلان الرسائل، وكتب عبد القدوس عنه مقالا يبرز إعجابه به كنموذج معبر عن جيله، بل وساعد إحسان صديقه الهارب على الاختفاء.
وقبل هروبه للخارج، أرسل حسين رسالة لإحسان بأنه مسافر ليحارب الصهيونية!
ولو جئنا لبطل القصة الواقعية، فلا تدرى لماذا يبدو السادات غير مهتم بشخصية حسين توفيق، سوى بأن اندفاعه الوطنى سيضمن نجاح خطة الاغتيال، وفي الوقت نفسه يكون بقية أعضاء الجمعية بعيدا عن المشهد، فقد كان فيهم عناصر وطنية خطيرة، ومنهم محمد إبراهيم كامل (الذي تولى وزارة الخارجية في عهد السادات واستقال احتجاجا على معاهدة السلام).
وربما اغتاظ السادات منه، لأن حسين بعد مراوغة وبحيلة ماكرة من المحقق أدلى باعترافات وصفها السادات كأنها من جهاز تسجيل، فأرشد عن كل أعضاء الخلية الباقين وعددهم 25 سواه!
كما لم يمت (حسين) كما مات (إبراهيم) بعملية فدائية في نهاية الفيلم، فقد أكمل رحلة هروبه إلى سوريا وهناك لم يتخل عن طبيعته المتهورة، فتآمر لاغتيال أحد قادة الجيش السورى (نجيب الشيشيكلي) فألقى القبض عليه وصدر حكم بإعدامه، ولكنه أفلت بأعجوبة إذا قامت ثورة يوليو وتوسط عبد الناصر للعفو عنه، فعاد ليعيش في مصر من جديد.
ولكن عاوده حنينه لهوايته القديمة، فاشترك في سنة 1965 في محاولة لاغتيال جمال عبد الناصر ناكرا للجميل، غير أنه ووشي به وألقى القبض عليه.
ولما كان السادات وهو يومئذ من كبار رجال الدولة، نصح شمس بدران القائم على التحقيق بإغراء حسين بالكشف عن التنظيم السري مقابل بأن يكون شاهد ملك!.
وقد كان.. فأدلى حسين باعترافات كاملة كاشفا كل شركائه!
كما لم يعتبروه شاهد ملك، فقضى حياته في السجن بصدور حكم بالمؤبد!
ولما مات عبد الناصر رفض الرئيس الجديد ورفيق الكفاح القديم أنور السادات التماسا بالعفو عنه!
فيما يبدو لم ينس اعتراف حسين عليه في قضية أمين عثمان، لكن الرئيس مبارك (كتر خيره) وافق على خروجه ليرحل مهملا منسيا من الجميع في سنة 1983 بعد قضاء شهور ربما جلس فيها مع عائلته أمام التلفزيون ليشاهد معهم في فيلم السهرة (في بيتنا رجل)!
ومع ذلك مازال السؤال معلقا لماذا لم نعتبر إبراهيم حمدى إرهابيا؟!
ربما من أجل عيون (زبيدة)، لم نرد أن نفسد الحب بالإرهاب!.