بقلم الأديب الكبير: حجاج أدول
في الحلقة الثانية من مقال (يا مسافر وحدك.. لست وحدك) أستكمل قائلا: ونتفق مع الأستاذ الدكتور سعد شعراوي وأضيف: أحيانا كان عبد الوهاب يبدع موسيقى ويطلب من حسين السيد أن (يولف) عليها كلمات مناسبة! فهل هذا مقبول؟، أقول نعم مقبول فرغم أن الفن انطلاقات شعورية ساحرة من نفوس مبدعة، إلا أن الفنون أيضا في نفس الوقت هى فنون احترافية.. فنون بها الصنعة، وكلما كان الفنان يمتلك مع فنه الفطري صنعة عالية، يكون عطاءه أحلى وأحلى، ولنا في أغنيتنا (يا مسافر وحدك) عبرة.. إذن الفنان الصنعة لديه متواجدة باحترافية، ولأنه فنان مفطور، فهو قادر على الارتقاء بالصنعة لتشارف حدود الفن، أو تدخله فتكون فنا حقيقيا مبهرا.
وهذا حدث مع الثلاثي الفني الغنائي (عبد الرحيم منصور وأحمد منيب ومحمد منير)، فكم في سهرات خاصة جمعت تلك الأهرامات الثلاثة الفنية، يستمع عبد الرحيم لأغنية نوبية من تلحين أحمد منيب والتي يغنيها هو ومنير بكلمات نوبية، بالطبع لا يفهمها عبد الرحيم، فيُوَلِف عليها كلمات بالعامية المصرية، ليغني منير تلك الأغنية بلغتها العامية الجديدة وبخلفية شجنة النوبية، فتكون الأغنية إبداعا رائعا جمع بعض معطيات الفنون المصرية!
وهنا أشطح لاستطراد سريع: منيب نوبي من أقصى الجنوب عاش في النوبة الأصلية، أي قبل غرق 1965، كما عاش في أقصى الشمال بالثغر السكندري، ثم استقر في قاهرة المعز، عبد الرحيم منصور صعيدي من محافظة قنا ثم استقر بالقاهرة وهناك التقى بمنيب ومنير وغيرهما، وشاركهما في أغان رائعة، وأيضا ثلاثتهم أعطونا الأغنية الرائعة والتي حتى الآن يطلبها الشباب وهى (حدوتة مصرية).
وعبد الرحيم خلال معارك حرب أكتوبر أبدع مع بليغ حمدي ووردة (وأنا على الربابة بغني)، وأيضا (بسم الله، الله أكبر بسم الله) وغيرهما، وتلك الأغنيات مع غيرها أيضا، خلال فترات الهدوء القتالي، كانت تسعدنا وتشجعنا وتريحنا نفسيا ونحن جنود في تلك المعارك المجيدة، ولب هذا الاستطراد.. أن التعددية الثقافية عطاء لا خصم.. عطاء لا خصم أقولها وأكررها للنفوس المريضة التي تصر على إبادة الثقافات الداخلية بحجة الوحدة!، ونلاحظ هنا أن وردة الجزائرية شاركتنا في الأغاني والأناشيد فكانت إضافة جزائرية مصرية.
أي أن التعدد العربي يضيف لك بلد ولا ينتقص منه، ألم يعطي فريد الأطرش وفايزة أحمد وغيرهما، ألم يعطوا لمصر وغيرها عطاءات فنية إضافية؟، ألم تصل تلك العطاءات لبلديهما أيضا؟ وفيروز وهي في لبنان، ألم تعطنا في مصر وغير مصر عطاءات تبين جمال التعددية الثقافية؟، أليست فيروز والرحبانية اللبنانية هم من قدموا الأغاني الموجعة للقدس؟، أضيف: ليتنا اهتماما بأفريقيا الجنوب، لنضيف منها ونضيف لها فنونا وآدابا هى القوى الناعمة التي تقربنا من بعضنا، وتضيف لنا متعا فنية وعمقا اقتصاديا نفعيا.
نعود للثلاثي الفني
يقول فاروق أبا اليزيد وهو شقيق الأكبر لمحمد منير أن الثلاثي (عبد الرحيم منصور، وأحمد منيب، منير) حققوا نجاحا بوجودهم سويًا، ولولا وجود (منيب) في هذه المرحلة لما حقق (منير) نجاحًا، ولا حقق (عبد الرحيم) نجاحًا ولوجود السد المنيع الكبير أمامه الشاعر عبد الرحمن الأبنودي، وعن الكيفية التي كان يعمل بها الثلاثة قال فاروق أبا اليزيد: إن منير كان يغني الأغنية باللغة النوبية أكثر من مرة، بلحن أحمد منيب، في الوقت الذي جلس فيه (عبد الرحيم) ليستمع، في أحد المرات، بعدما أخذ (عبد الرحيم) شريط التسجيل، اتصل به في السادسة صباحًا، ليقول (لقيتها، لقيتها)، وكانت هى كلمات الأغنية التي كتبها (قول للغريب، حضنك هنا، دربك قريب من دربنا)، وهى أغنية نوبية طبعا من تلحين أحمد منيب.
سطوة الفن
وعبد الرحيم منصور على نفس منوال أغنية (يا مسافر وحدك) وضع الكلمات على لحن جاهز، واللحن فعلا كان جاهزا من قبل، وهذا ما ستأتي سيرته حين نتكلم عن أصل الأغنية اليونانية.. هنا عبد الرحيم كان يضع كلمات عربية بلهجة مصرية على لحن لأغنية نوبية، ليس على لحن خام، وبالطبع اللحن خام واللغة ليست لغة عبد الرحيم، كما أن اليونانة ليست لغة حسين السيد، ولا ننسى أن تلك الأغاني النوبية يغلب عليها السلم الخماسي الجنوبي.. أقول: يغلب عليها، فبعد التهجيرات النوبية بدأ السلم السباعي يدخل الفنون النوبية الموسيقية، عبد الرحيم كتب أيضا كلمات عربية على أغاني نوبية ليست من تلحين أحمد منيب، على وجه المثال أغنية (الكون كله بيدور) هى أغنية نوبية غناها المطرب النوبي (صالح عباس)، ومطلعها (أسمر شيروتو.. وو دِسي بناتي كو) وأغنية (إيوو شمندورة) وهى أصلا أغنية نوبية بنفس الاسم غناها المطرب النوبي (عبد الله باتة)، ونعلم أن (الشمندورة) هي علامة مائية تطفو بجوار مناطق خطرة في النهر، لتتفاداها المراكب.
هنا عبد الرحيم كما أنه فنان كبير، فهو أيضا فنان صنايعي محترف متين، استطاع أن يصل بالصنعة للإبداع مثلما فعل حسين السيد وغيره، عبد الرحيم منصور مبدع كبير لا يمكن إغفاله، فله أغاني ألفها منه لنفسه مع الثنائي منيب ومنير، ومن أشهرها ما جئنا بذكرها من قبل (حدوتة مصرية) وكتب للكثير من المطربين والمطربين، أشير هنا لأغنية (على قد ما حبينا) لعلي الحجار وتلحين بليغ حمدي، وأنا أعشق هذه الأغنية.
نقول أن الفن له مليون وجه، وكل فرع من الفنون له ألف وجه، ووجدنا هنا نوعية من الفن تتماهى مع كل ما هو جميل وتستطعمه لتعطيه جمالا إضافيا، أي لا تنتقص من قديمة، بل تزيده بهاء ولمعانا، وعبد الرحيم منصور هو فارسها الأوضح في الكتابة، فالكوكتيل الذي يبدعه حساسا علما بأن أقل فلتة تفسد النكهة.. كان عبد الرحيم مع الفارسين (منيب ومنير) هم الجوقة الأهم في هذه النوعية من الأغاني، ثلاثتهم صحبة ثلاثية الأبعاد أمتعتنا وأبهجتنا.
ويجب علينا أن نعطي مؤلف أغنية (يا مسافر وحدك) المبدع بعض من حقه، ففي هذا المقال الذي طال لا يوجد متسع لهذا العلامة الفنية حسين السيد.
حسين السيد وُلد في 1916، ورحل في 1983، ووسامته أتت من تداخل مصرية أباه وتركية أمه، ولذا رغب أن يكون ممثلا، لكن الأقدار قررت أن يكون كاتب أغاني، وفي هذا المجال الذي دخله بالمصادقة، ثبت نفسه علامة عميقة لامعة في مجال كتابة الأغاني، وأكثر أغانيه لحنها له محمد عبد الوهاب، علما بأن أغانيه قاربت أو وصلت للثلاثمائة!، ولحن له أشهر الملحنين وغنى له أشهر المطربين غير عبد الوهاب، مثل فريد الأطرش ومحمد فوزي وعبد الحليم وشادية والمطربات من أصول عربية مثل صباح وفايزة ووردة، وأيضا لوديع الصافي.
ومن موهبته العميقة الفسيحة، كتب الأغاني العاطفية التي صعب على أن أحصيها، كما كتب أشهر أغاني الأطفال مثل (ذهب الليل) والأغنية التي عاشت وتعيش وستعيش معنا وهى (ماما زمانها جاية)، وكتب الأغاني الحوارية ثلاثية الأداء لفرقة (ثلاثي أضواء المسرح) وأشهرها (كوتوموتو) إلخ، وفي الأغاني الدرامية كتب مثلا (فاتت جمبنا) وكتب الدويتو مثل ما غناه عبد الوهاب مع وراقية إبراهيم (حكيم عيون)، وفؤاد المهندس وصباح (الراجل داح يجنني)، وكتب أيضا (أبجد هوز حطي كلم) لنجيب الريحاني وليلى مراد، والأغنية كانت ختام الفيلم الجميل الرائع (غزل البنات) وفي نفس هذا الفيلم كتب حسين السيد أغنية (اتمختري يا خيل)، والأغنية الرائعة (عاشق الروح) وغيرها.
أما أناشيده الوطنية التي كتبها ولحنها وأداها محمد عبد الوهاب، فهى فاترة وتم تصنيعها لمسايرة المناخ الزاهق وقتها، وربما عبد الوهاب الداهية قرر المشاركة في الزفة حتى لا يحسب مع غير المتوافقين مع السلطة، ورغم كل هذه التنويعة من الملحنين والمطربين الذين تعامل معهم حسين السيد، إلا أن قولا صحيحا قيل عن حسين السيد: أنه المؤلف الملاكي لمحمد عبد الوهاب! هذا لأن معظم أغاني حسين السيد ذهبت لعبد الوهاب.