بقلم المفكر الكبير الدكتور: ثروت الخرباي
عن نفسي أقر وأعترف أنني لا أحب أفلام الرعب ولا قصص الرعب ولا أي شيء بينه وبين الرعب صلة، ولكنني في ذات الوقت أقر بحبي لقصص الرعب القديمة المنتشرة في الثقافة الشعبية المصرية، فهي خفيفة ولطيفة ومليئة بالتشويق والإثارة، وعلى سبيل المثال تعجبني جدا تلك القصة الطريفة التي قرأناها في (ألف ليلة وليلة) عن ذلك الفتي الذي وجد في طريقه قصرا كبيرا، وحينما دخله وجده غاية في الجمال، ووجد فيه وصيفة طاعنة في السن، أخبرته أنه الآن في ضيافة القصر، وأن هذا القصر به مائة غرفة، فليدخلهن جميعا واحدة بعد الأخرى، وليستمتع بما فيهن من متع الدنيا، ولكنها حذرته من غرفة واحدة عليه ألا يدخلها وإلا أصيب بما لا يُحمد عقباه، ولكن الفضول دفعه لدخول تلك الغرفة فإذا به يقابل فيها الجنيات والعفاريت، ويالطيف الطف يارب.
ورغم أنني لا أحب قصص الرعب الغربية التي جاءتنا محمولة على السينما الأمريكية إلا أنني شاهدت عددا كبيرا منها منذ السبعينيات، ثم توقفت عنها في آواخر الثمانينات بأوامر من الطبيب، ورغم توقفي هذا إلا أن النفس الأمارة بالسوء كانت تدفعني دفعا لمشاهدة بعض أفلام الرعب بين الحين والآخر، فضلا عن استمراري في تلك العادة السخيفة المتمثلة في قراءة قصص الرعب المثيرة لمؤلفين غربيين وأهمهم في نظري هو الكاتب والمخرج الإنجليزي المبدع صاحب الخيال الخصب (ألفريد هيتشكوك – Alfred Hitchcock) فقد كانت قصصه عبارة عن قطعة فنية فائقة الجودة تمتعك قبل أن ترعبك.
وإذا أردت أن يصيبك الرعب حقا فلك أن تشاهد الفيلم الأشهر لهيتشكوك، ذلك الفيلم الذي أطلقوا عليه (سيد أفلام الرعب) وهو فيلم (سايكو – Psycho) الذي تم ترشيحه لأربعة جوائز أوسكار، وتدور أحداثه المرعبة داخل فندق صغير تتعرض فيه البطلة المسكينة لرعب قاتل، وسبحان الله، لماذا غرف الفنادق هى التي تثير خيالات مؤلفي أفلام ومسلسلات الرعب من أبناء العم سام؟!.. يبدو أن طبيعة الحياة في بلادهم الباردة تجعل للفنادق قيمة عند الإنسان الغربي، أما المنازل عندنا فهي صاحبة السيادة عند الشخصية المصرية بصفة خاصة والعربية بصفة عامة، لذلك تدور الكثير من قصصنا الشعبية المرعبة المنقولة لنا جيلا بعد جيل في المنازل المهجورة، والمنازل المسكونة التي يسكن فيها الجان مع الإنسان، والقصور القديمة التي تصفق نوافذها فجأة من رياح غريبة، وتقابلنا شخصيات مرعبة في أدبنا الشعبي مثل النداهة، والجني المتخفي في صورة إنسان ولكن رِجله مثل رِجل التيس، وقصة أمنا الغولة، وأبو رجل مسلوخة.
الرعب الغربي يختلف تماما مع الرعب المصري، إذ لم يقف الرعب الغربي عند الأرواح والأشباح ولكنه دخل إلى الكائنات الميتة الممسوخة والتي أطلقوا عليها الزومبي، ولكن الرعب المصري ذو نكهة خاصة، خاصة وأن المواطن المصري مرعوب أصلا ولا يحتاج إلى من يرعبه، يكفيه رعب الأسعار فهو وحده كفيل بالقضاء على ما تبقى له من أعصاب، لذلك وقفتُ قليلا عند مسلسل (الغرفة 207) تأليف المرحوم أحمد خالد توفيق، وإخراج محمد بكير، وبطولة ريهام عبد الغفور ومحمد فراج، فهو بهذه الحيثية مسلسل مصري، نعم، مصري، ولكنه بنكهة غربية، وله مذاق يشبه مذاق الكافيار المخلل الذي لا علاقة له بالطرشي البلدي، فهو والحق يقال مسلسل صُنع في الغرب، وقام المؤلف بتمصيره ولكنه لم يعطه الذائقة المصرية، ومع كل الاحترام والتقدير للمخرج، والامتياز في الأداء للفنانة ريهام عبد الغفور المتألقة دائما والفنان الرائع محمد فراج وفريق الممثلين كلهم، إلا أن الذائقة الغربية ظلت تصاحبني طوال حلقات المسلسل، فهو قريب الشبه بدرجة كبيرة جدا من الفيلم الأمريكي الغرفة 1408 المأخوذ من قصة للمؤلف الأمريكي ستيفن كينج – Stephen King التي كتبها عام 1999.
قصة الراحل أحمد خالد توفيق تعتبر التوأم المصري لقصة ستيفن كينج، ولكن القصة الغربية ذات عيون زرقاء وشعر أصفر، والقصة المصرية ذات ملامح نيلية، ولكنهما في كل الأحوال توأم، ونقاط التشابه بينهما كثيرة، رجل شغوف بمعرفة سر هذه الغرفة في القصتين، وهذا الرجل الشغوف مثقف جدا في كلتا القصتين، وهاتان الغرفتان المرعبتان سبق وأن حدثت فيهما أحداث يشيب من هولها الولدان، موت وجنون والعياذ بالله، ونادرا ما ظفر نزيل فيهما بالنجاة، وفي فيلم (1408) تكون النهاية احتراق البطل مع الغرفة المرعبة، ولكنهم وجدوا بعد عرض الفيلم أن المشاهدين أصيبوا بحالة إحباط فغيروا النهاية وجعلوا البطل ينجو بنفسه، وفي قصة الغرفة 207 يتفق (عم مينا) الله يرحمه ويحسن إليه، ومديحة ومصطفى على حرق الغرفة ليتخلصوا من لعنتها.
ويالتك الصدف الغريبة، فالساعة في الغرفة 1408 تتحرك أحيانا بالعكس، أي أنها تعود بالزمن إلى الوراء، وساعة الغرفة 207 تدور أيضا بالعكس، وغير ذلك من أوجه التشابه، ومع ذلك لا ينبغي أن نقول إن هناك اقتباس من قصة ستيفن كينج، ولا من قصة قصر ألف ليلة التي دخلها الفتى الذي حدثتكم عنه فوجد فيها العفاريت، فالكاتب لا يكتب دائما بمعزل عن الثقافة التي اكتسبها، والخيال الذي امتد إليه فكره، فالخيال كما تعرفون لا يسبح في الفراغ، ولكنه مهما كان يصطدم بمرئيات الكاتب ومعارفه، ومن الواضح من خلال أسلوب الراحل أحمد خالد توفيق أنه كان خاضعا لتأثير ستيفن كينج، وكان قد أشار إليه في الغلاف الخلفي للقصة، كما أن بعض العبارات الحكيمة التي كتبها كاتبنا الراحل تتشابه مع غوص ستيفن في شخصية البطل في قصته، وكذلك شخصية الغرفة التي يدخلها كل الأصناف من البشر ثم يتركون فيها جزءً من شخصياتهم، وهو الأمر المتعلق بالصلة بين المكان والإنسان.
ولذلك نستطيع أن نقول إن كاتبنا الراحل أحمد خالد توفيق هو ستيفن كينج الشرق مع الفارق طبعا، أو أن كاتبنا الراحل هو الذي يقولون عليه المثل القائل “هذا الشبل من ذاك الأسد” أما سبب هذا فهو أن خيال كاتبنا الراحل تأثر بشكل كبير بخيال أدباء الرعب في الغرب، ذلك أن خيالنا الروائي والقصصي منذ بدايته الحقيقية في أوائل القرن العشرين لم يعرف أدب الرعب إلا حديثا جدا، أما في بلاد الغرب فقد أنتجوا قصص الرعب منذ آماد طويلة، ولأنهم أصحاب خبرة في الرعب اخترعوا شخصيات مرعبة مثل (دراكولا) مصاص الدماء، تلك الشخصية التي اخترعها الكاتب الأيرلندي برام ستوكر، ووضعها في قصته الشهيرة (دراكولا – Dracula) في آواخر القرن التاسع عشر، وكذلك شخصية (دكتور جيكل ومستر هايد) التي وضعها الكاتب الأسكتلندي روبرت لويس في الهزيع الأخير من القرن التاسع عشر في قصة بذات الإسم، وهلم جرا، ثم أخذت قصص الرعب والأشباح والأرواح تترى، وأخذت السينما في بلاد الغرب تلك القصص لتحولها إلى أفلام، والغريبة أن الرعب لم يكن في تلك القصص فحسب ولكنه كان في الموسيقى التصويرية لتك الأفلام، فعندما يدخل البطل إلى الغرفة المسكونة تتحرك أوتار الموسيقة بشكل متلاحق تجعلك لا تستطيع التقاط أنفاسك.
ولكن من أغرب ما يقابلنا أن قصص الفنادق المرعبة وغرفها تكررت كثيرا في الأفلام الغربية، أمريكية أو فرنسية أو إنجليزية أو ألمانية، وهناك العديد من تلك القصص تدور داخل غرفة بعينها بالفندق الملعون، منها على سبيل المثال الفيلم الأمريكي No Tell Motel (لا أقول الفندق) وهو من تأليف وسيناريو كاتب قصص الرعب الأمريكي TJ Cimfel (تي جيه سيمفل) وكذلك فيلم (الهوية) المأخوذ من قصة كتبتها أجاثا كريستي عام 1930 وهو بطولة الممثل الأمريكي الشهير جون كيوزاك، ولو أخذت أعدد لكم عدد القصص الغربية من كل بلاد أوروبا فضلا عن أمريكا والتي تدور أحداثها داخل غرفة مرعبة في فندق أو داخل فندق لما وسعنا المقام، فهذا يحتاج إلى كتاب عن أدب رعب الفنادق، وإذا كتبنا هذا الكتاب سنعرف أننا تأثرنا جدا بخيالاتهم، وأفكارهم، وحبكاتهم القصصية، لدرجة أننا يمكننا القول أن أدب الرعب عندنا ما هو إلا أدب مستورد تم تجميده في ثلاجات الغرب ثم أرسلوه إلينا لنكتبه عندنا، إذ للأسف ليس عندنا أدب طازة من الفرن المصري، وسنظل زمنا نتعكز على أدب الرعب الغربي، وعلى رأي العندليب عبد الحليم حافظ عندما قال: (وليس لييي في الأمر حيييلة)!