بقلم المفكر الكبير الدكتور: ثروت الخرباوي
دون مقدمات أدخل معكم إلى الموضوع مباشرة، والحديث سيكون عن مسلسل (موضوع عائلي) الذي قلت عنه في ندوة قريبة بمعرض الكتاب إننا بمثل تلك الدراما الإنسانية نستطيع به وبمثله وبكل قوتنا الناعمة مواجهة الإرهاب، ورغم أنني منذ فترة انقطعت عن الكتابة لظروف خاصة، ولكن هذا المسلسل دفعني إلى التغلب عن الظروف الخاصة، ولمن شاهد المسلسل أقول أظنك استمتعت بعمل محترم وإنساني وكوميدي في ذات الوقت، وأقول لمن لم يشاهده إن هذا المسلسل عمل جميل مبدع أرشحه لكي تشاهده الأسرة المصرية، ووراء هذا الإبداع في التمثيل مخرج رائع، لم أكن أعرف من قبل أن (أحمد الجندي)، المخرج هو ابن الممثل الكبير الراحل (محمود الجندي)، وقد كنت أحب محمود الجندي عليه رحمة الله وأؤمن بقدراته ومواهبه، وشاء الله أن نلتقي أكثر من مرة، ودارت بيننا حوارات كثيرة عن جماعات الإرهاب ودور الفن في مواجهته، وقد حدث أول لقاء بيننا بعد انتهاء مسلسل (الخواجة عبد القادر)، واكتشفت يومها أن (محمود الجندي) لديه تنوع معرفي وثقافي وأنه متذوق للفنون والآداب، ولديه معرفة كبيرة بتاريخ ومنهج حركات الإرهاب.
ومن بعد دعاني لمسرحية قام ببطولتها اسمها (اللي بنى مصر) فذهبت إليها أنا وأسرتي، وكانت المسرحية تدور حول (طلعت حرب)، وماذا لو بعثه الله حيا من خلال تمثاله الكائن في ميدان طلعت حرب، وقد ضمت تلك المسرحية بعض المواهب التي تألقت وأصبحت نجوما مثل الفنان الموهوب حتى النخاع (هشام إسماعيل)، والموهوب (مدحت إسماعيل) الشهير (بمدحت تيخة)، وآخرين قدموا لنا عرضا رائعا، ومن بعد جمعتني بالفنان الراحل (محمود الجندي) عدة لقاءات أدركت منها وطنيته ونبالته، فلم يكن مني إلا أن كتبت مقالة في جريدة المصري اليوم بعنوان (اللي بنى مصر محمود الجندي)، وبعد سنوات كتبت هنا في (شهريار النجوم) مقالا عن محمود الجندي، والآن أكتب عن هذا الشبل (أحمد) الذي هو من ذاك الأسد محمود.
قلت لكم أنني سأكتب دون مقدمات ثم وضعت مقدمة طويلة، وهذا يُسمى بالالتفاف، ولكن كانت كل هذه المقدمة لأبين لكم مدى اعتزازي بالفنان الكبير الراحل (محمود الجندي)، ومن ثم استمرار الاعتزاز بإبنه النجيب (أحمد الجندي)، وقد شَهَدَت بنجابته وموهبته العديد من أعماله التي أخرجها مثل بعض أجزاء من مسلسل (الكبير قوي)، وفيلم (لا تراجع ولا استسلام) كانت شاهدا على صعود نجم الفنان الرائع (أحمد مكي)، ولذلك لم يكن غريبا على (أحمد الجندي) أن يتفوق في إخراجه لهذا المسلسل، وقدرته على إدارة فريق العمل من الممثلين تنبأ بمخرج كبير، وإن كنت أعيب بعض الإطالة في مواقف لا تستدعي الإطالة وكان يمكن اختصارها، وأظن أن موهبة الإخراج وحدها ليست هى التي تتحدث عن (أحمد الجندي)، ولكن يبدو أنه صاحب خيال خصب، فقد كان هو صاحب الفكرة التي دارت حولها أحداث المسلسل، وهى فكرة في منتهى الثراء والإنسانية، مليئة بالشجن، وفي ذات الوقت فجَّر من خلالها أحداثا كوميدية مبهجة وطريفة.
أدخل بكم الآن إلى من كتب السيناريو والحوار وهما (محمد عز الدين وكريم يوسف)، وتشهد لهما أعمالهما بقدراتهما على كتابة الأعمال الكوميدية ووضعا الإفيهات اللذيذة على لسان الممثلين، فهما في الحقيقة يمتلكان حسا كوميديا وخفة ظل بغير ابتذال ولا مبالغة، حتى قصة اعتياد (رمضان حريقة) وإبنيه على الجلوس في المنزل على راحتهم بالبوكسر، لم يكن فيها أي ابتذال بل كانت تلك المشاهد لطيفة وطريفة، ولكن أروع ما فعله (محمد عز الدين وصاحبه كريم يوسف) هو صياغة شخصية (رمضان حريقة) الذي قام بدوره الفنان (محمد رضوان)، و(آه منك يا محمد يا رضوان.. منهم لله الذين لم يقدموا لك أدوارا سابقة تفجر طاقاتك الكوميدية)، نعم لك العديد من الأعمال السابقة، فأنت لست جديدا على الساحة، ولكنك كنت تستحق أن تقوم بأدوار البطولة منذ زمن، وهبك الله خفة ظل، وتلقائية مذهلة، ووجه قادر على التعبير عن الموقف الذي تقوم به، وصوت مؤثر تقوم بتشكيله كما تشاء، وعند الموقف التراجيدي الحزين إذا بك تحرك مشاعرنا، نعم، فقد تحركت مشاعرنا معه وهو يعترف لزوجته (زينب) بخيانته لها، وتحركت مشاعرنا معه حينما رأينا عينيه التي احمرت بسبب دموعه التي حبسها فيها وهو يبث مشاعره الحميمة الراقية لإبراهيم ـ ماجد الكدواني ـ شقيق زوجته قبل أن يجري العملية الجراحية، هذا رجل يمثل بصدق، ويُصدق ما يقول.
ما هذا الجمال والرقي الإنساني، ويلٌ للمنتجين وأشباههم من رجال الفن، لقد قرروا علينا ممثلا واحدا في كل المسسلسات والأفلام، وكأنه لا يوجد أحدٌ غيره يستطيع أداء الكوميديا بخفة ظل، حتى أن هذا الواحد جعلوه نجما للإعلانات، وغاب عنهم أنه يوجد (محمد رضوان، وهشام اسماعيل ومدحت تيخة ومحمد شاهين) وغيرهم، وكما يقول العرب: (لله درك يا محمد يابن رضوان) لقد قدمت نفسك من جديد للساحة الفنية وإذا لم يجعلوك بطلا في أفلام ومسلسلات قادمة فتبا لهم جميعا، وثكلتهم أمهاتهم واحدا بعد الآخر.
أما (سماء إبراهيم) التي قامت بدور (زينب) زوجة رمضان وأخت (ماجد الكدواني) فلديها تلقائية مبهرة، هذه هى المرأة المصرية بشكل حقيقي، بعاطفتها الجياشة وضحكتها، ودموعها في الحزن والفرح، وغيرتها على أسرتها، وخوفها على إبنها، قامت (سماء إبراهيم) بكل هذا بعفوية وتلقائية وصدق، إنها قافلة متحركة من المواهب، أحببناها كلنا وتعاطفها معها وهى تخفي أحزانها عندما علمت بخيانة زوجها (رمضان حريقة) لها، أحببناها وهى تسعى بإلحاح إلى تقديم كافة أنواع الطعام لمن تحبهم، وهذا هو دأب المرأة المصرية التي تعرف أن أحسن طريق إلى قلب الرجل هو معدته.
هل سيتسع المجال بعد هذا أن أكلمكم عن (طه دسوقي)، هو شاب واعد عرفت أنه تخرج من كلية حقوق عين شمس، هو زميلي إذن، زميلي الذي تخرج من كليتي بعدي بثلاثين عاما، (طه دسوقي) موهوب فعلا، وأنا فخور أن حقوق عين شمس قدمت لنا (سامي مغاوري وتوفيق عبد الحميد وسامح حسين) وآخرين بعضهم تاه منهم الطريق ولو أنصفوا لأنفسهم لكانوا في القمة!.
نعود إلى (طه دسوقي) الذي قام بدور (حسن ابن زينب)، هذا الشاب الواعد الذي يريد أن يحقق ذاته من خلال الفن، يقدم في المسلسل (ستاند آب كوميدي)، وهذا بالمناسبة العمل الحقيقي لطه دسوقي، ويقبل ـ في المسلسل ـ أن يكون كومبارسا في أعمال فنية مختلفة، المهم هو أنه يريد أن يكون نجما فنيا كبيرا ذات يوم، وحينما تقابل مع (سارة) ابنة خاله (ماجد الكدواني) أحبها، كان طه دسوقي بسيطا جدا وهو يؤدي تلك الشخصية، لا تلحظ أي افتعال في أي موقف له، مُعبرا عن مشاعره وإحباطاته ويأسه وآماله ببراعة وتمكن وكأنه ولد أمام الكاميرا، هذا هو الشاب المصري الذي يريد أن يشق طريقه إلى النجاح، ولكن (سارة) ابنة خاله وهى الفنانة (رنا رئيس) فهي لم تولد أبدا أمام الكاميرا، ولكنها ولدت داخل الكاميرا ذات نفسها، وُلدت على خشبة مسرح، أو بين دفتي كتاب يشرح لنا ماهية التمثيل.
والحقيقة أيها السادة لقد انتهت عندي كلمات الإطراء والمدح التي تصادف صاحبها حقا، حتى أن قاموسي اللغوي بات عاجزا عن التعبير عن تمكن تلك الفنانة، هى في الحقيقة غول تمثيل، ويجب علينا أن نشفق على أي ممثل يقف أمامها، هى الإبنة لكل واحد من الآباء، والأخت لكل شاب، والصديقة المهذبة الودودة لكل صديق، وفتاة الأحلام لكل شاب حَبْيِب.
ولكن يا سيادة الأستاذ الذي كتب الحوار على لسانها، نقطة نظام يا حضرة الأستاذ ((كريم يوسف) أو يا أيها الأستاذ محمد عز الدين)، لقد فاتكم أن فتاة نشأت في لندن وعاشت عمرها كله هناك، واختلطت بالإنجليز عمرها كله، عندما تعود إلى مصر كان يجب أن يظهر تعثرها في نطق الكلمات العربية باللهجة المصرية، وأن يكون معظم كلامها بالمصطلحات الإنجليزية، وشيئا فشيئا يعتدل لسانها، ولكنها منذ أن نزلت إلى أرض مصر وهى تتكلم العامية المصرية بلكنة أبناء الذوات الذين يعيشون بيننا ولكنهم تعلموا في مدارس أجنبية، فكثير من أبناء طبقة الذوات لم يحتكوا بمصر الشعبية، فباتوا لا يعرفون معاني بعض الكلمات المتداولة في الشارع المصري إذ أنها لم يسمعوها من قبل في مجتمعهم – هذا يا أستاذ كريم ويا أستاذ محمد إخفاق في رسم تلك الشخصية – فليس بناء الشخصية يكون عن طريق تطورها الدرامي المرتبط بالأحداث، ولكنه أيضا يكون من خلال التفاصيل البسيطة، مثل اللهجة التي تتكلم بها، ولكم في شخصية (أحمد حلمي) في مسلسل عسل أسود المثل على اختلاط العامية بالانجليزية في لسان العائش في الغربة والعائد إلينا منذ زمن طويل غاب فيه.
وبعد أن ضربنا السلام لـ (رنا رئيس) التي شعرنا أنها ابنتنا جميعا نضرب السلام للفنان المبدع (محمد شاهين)، ذلك الذي أعاد لنا شخصية الشرير خفيف الظل ولكن بشكل عصري، فهو (خالد خال سارة)، وهو ذلك (الخال) الذي يريد الاستيلاء على ثروة ابنة اخته، لا يبالي بالمشاعر، ولكنه عندما يقع في الأزمات لا يجد أحد يلجأ إليه إلا ابنة أخته، (محمد شاهين) يا سادة هو قنبلة فنية ينبغي أن نستغلها جيدا، هذا فنان يجب أن تُصنع له أدوار، فهو يصلح لها جميعا، ويستطيع أداء أي شيء، وحينما أدى أدوارا كوميدية من قبل مثل دوره في مسلسل (الكبير قوي) نجح نجاحا كبيرا، وهو في الشر مرعب، وفي التراجيدي ينسيك نفسك، بمعنى أنك عندما تراه في أي شخصية ستنسى (محمد شاهين)، وسيكون الذي أمامك هو الشخصية التي يؤديها.
إلى هنا وانتهى المقال، ولكن أين (ماجد الكدواني – مارلون براندو الشرق؟)، كنت أريد أن أكتب مقالا كاملا عن (ماجد الكدواني) وحده بحيث لا يشاركه فيه أحد، ولكن هل يسمح لي بأن أكتب معه في المقال القادم عن (نور اللبنانية)، و(صولا عمر) بنت اللذينا، و(محمد القس) المرعب، و(لبني محمود) التي قامت بدور أم إبراهيم (الكدواني)، و(ياسمين وافي) التي قامت بدور (أم ليث) ؟، وهل يسمح لي بالكتابة رفق مقالته عن أغنية بنت أبوها التي غنتها (هنا) ابنة الرائع الراحل الكريم (إبراهيم يسري؟)، أظن كرم ماجد الكدواني سيسمح، فإلى لقاء في المقال القادم.