سراج منير: المقامرة صاحبة فضل علي، وكانت وراء دخولي الفن
كتب : أحمد السماحي
تحدث الفنان الكبير سراج منير في مجلة (الكواكب) في العدد الصادر يوم 20 يناير عام 1953 عن كيفية دخوله عالم الفن، الجميل أنه تحدث عن ارتفاع سعر الجنية المصري مقابل سعر المارك الألماني، وأنه يساوي عشر أضعاف هذه العملة، وهذه المعلومة البسيطة تجعلنا نردد أغنية الفنان عبدالمنعم مدبولي: (يرحم زمان وليالي زمان، الناس يا متهني يا فرحان، والدنيا كانت وردة، ولسه مخترعوش أحزان).
والآن إليكم نص ما جاء في مقال سراج منير عن كيفية دخوله عالم الفن: (كنت في ألمانيا أتلقى أصول الطب في أعرق الجامعات هناك، كان هذا في سنة 1924، وكانت أسرتي تغدق على أغداقا هائلا، وكان سعر المارك الألماني سعرا تافها نظرا للتضخم النقدي الذي ساد ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، وكان المبلغ الذي ترسله لي الأسرة يساوي عشرة أضعافه حين يتحول إلى عملة ألمانية، ومادام المال متوفرا في يد طالب في بلد أجنبية فلابد أن يجد وسيلة ينفق بها الزائد، وكان أن تعلمت لعب القمار، تعلمته ليلة بعد ليلة وأسبوعا بعد أسبوع.
وانتقلت من نادي لثان لثالث حتى ذاع صيتي، وكنت أتقدم في القمار بسرعة لا توازيها إلا السرعة التى أتقهقر بها في كلية الطب، وكنا أنا وشلة أصدقاء من الألمانيين والمصريين (بارتيتة)، وانقطعت (البارتيتة) على مر الأيام للمقامرة، حتى صارت الحرب سجالا بين أفرادها، بحيث لم يقبل واحد منا أن يكف عن محاولة تسجيل نصر في كل ليلة.
وفي أحد الليالي حدث في النادي هرج ومرج ولم يكن هذا الهرج والمرج يعنياني في قليل أو كثير، ولم أكن أكلف نفسي عبء رفع عيني عن الورق لأنه كل دنيا المقامر، ولكنني هذه المرة وجدت نفسي أرفع عيني لأجد رجلا ضخما قد ثبت على عينيه (مونوكلا) وقد وقف يحدق في ويراقب حركاتي، وقالي بالألمانية : أنت منير؟!
قلت: نعم
قال: أنا (فريتز لانج) لابد إنك سمعت عني؟!
وكنت سمعت عنه فعلا لأن (فريتز) كان أكبر المخرجين في ستديوهات (أوفا) الألمانية، واستطرد يقول: (نحن نخرج فيلما فيه شوط عن نادي للمقامرة، وأنا أحب أن أختار الكومبارس من الطبيعة والحياة، لذا جئت للنادي لأختار مقامرا عنيدا، يستطيع أن يؤدي الدور، وقد سألت عن المقامر الأول فقيل لي أنه أنت، ووقفت أراقبك فسررت وأرجو أن تحضر لي باكر في الاستوديو).. ألقى (فريتز) عبارته الأخيرة بلهجة الأمر وصافحني وانصرف وعدت إلى الورق.
كان الفيلم بطولة الممثل الألماني المشهور (فلي فريتز)، وكان اسمه (الجواسيس)، وقد ترددت كثيرا قبل أن أذهب إلى الاستديو، ولكنني قلت لنفسي في النهاية إذهب أنها تسلية، وأرشدني (فريتز لانج) إلى ما سأفعله، ووجدتني أنفذ ما يقول بكل دقة، ولم يعد (الشوط) الذي ظهرت فيه إلا مرة واحدة مع أنه كان يعيد (الشوط) مع بعض الممثلين عشرات المرات، وهنأني الرجل بعد أن انتهيت من دوري.
وكنت في طريقي للخروج من الاستوديو حين رأيت شابا مصريا يقف مع (فريتز لانج)، وكان هذا الشاب هو الأستاذ (محمد كريم) المخرج، وكان قد ذهب لألمانيا ليدرس الإخراج فتعرفت عليه وأخبرت صديقة لي عن الدور الذي قمت به في فيلم (الجواسيس)، وكانت تعرف جيدا طريقة (فريتز) في اختيار الممثلين، وأنه لا يختار إلا المشهورين واللامعين ففغرت فاها دهشة وقالت مستحيل!.
وأكدت لها إنني مثلت بالفعل، فلم تصدق إلا أن جاءت ليلة العرض الأولى للفيلم فأصطحبت صديقتي معي وذهبنا إلى دار السينما وقفزت من مقعدي سرورا حين ظهر إسمي في الإعلان، وتتبعت الفيلم وأنا أترقب (الشوط) الذي ظهرت فيه، ومضى ربع ساعة، فنصف ساعة، وانتهى الفيلم دون أن أرى نفسي، وخرجت وأنا أجر أذيال الفشل والكسوف، وإن كان بعض الكسوف قد زال حين تذكرت أن اسمي ظهر في إعلان الفيلم.
وعلمت بعد ذلك أن المخرج حر فيما يفعله، وأن له أن يحذف ما يرى حذفه دون أن يناقشه أحد، والذي حدث أنه استغني عن منظر القمار نهائيا.
وحدث أن عدت إلى مصر دون أن أكمل علومي، وفي هذه الأثناء كان الأستاذ محمد كريم قد عاد إلى مصر وتعاقد مع الأستاذ يوسف وهبي على أن يخرج له فيلم (زينب) الصامت لحساب شركته، وقابلني الأستاذ كريم وكنا تعرفنا في ستديو (أوفا) كما أسلفت، فطلب إلى أن أقوم بدور البطولة في فيلم (زينب) وقبلت طبعا وبهذه الطريقة ظهرت في السينما.
وكان الأستاذ يوسف وهبي بحكم أنه منتج الفيلم يحضر إلى الاستديو ليراقب العمل، فتعرفت عليه، وعرض علي أن أنضم لفرقة رمسيس فوافقت وهكذا بدأت مشواري في التمثيل وكان القمار هو السبب في دخولي الفن.