كتب : أحمد السماحي
كثيرا ما تكون الكوميديا أسلوبا راقيا لتناول أخطر المشاكل بشرط عدم تفريغ القضية من محتواها الحقيقي وتمزيق جوهرها ودلالاتها الاجتماعية لصالح بعض (الإفيهات) الكوميدية التى تتناول مشاكلنا بأسلوب تهريجي، فالاعتراض على أسلوب الكوميديا نفسها ووجهة نظرها النهائية فى القضية التى تعالجها، ومن المسلسلات الاجتماعية المتميزة التى عرضت مؤخرا وتناولت العديد من القضايا المهمة لكن بأسلوب كوميدي راقي مسلسل (العيلة دي) تأليف أماني التونسي، وشارك في الكتابة ياسمين رفعت، وإخراج المتميز أحمد خالد أمين.
عالج المسلسل مجموعة من القضايا الاجتماعية الموجودة حاليا والتى نعاني منها جميعا، مثل تفكير الشباب في الهجرة إلى الخارج للعمل بحثا عن المال، مشكلة العنوسة وتأخر سن الزواج، ومشكلة البطالة آفة هذا العصر وكل العصور، وكان من أهم القضايا التى ناقشها قضية غياب الأب عن أسرته لسنوات طويلة، هذه القضية التى لم تقترب منها الدراما كثيرا، رغم إنها سببا في كثير من الكوارث الاجتماعية التى تحدث لنا منذ سنوات طويلة.
فالأب هو (البطل) في نظر أبنائه وبناته وزوجته، اختر أي طفل فقيرا كان أو غنيا، راضيا عن أبيه أو ساخطا واسأله أن يختار من بين كل الناس بطلا يتبعه ويطيعه ستجده يختار بالفطرة أباه بطلا له، حيث في ظل قيادته تحل كل المشكلات وتنسجم كل التناقضات ويخرس بحسمه كل الأصوات، صحيح أن الأم تطعم وتحن وتعطف ولكن الأب هو الذي يضع المثل الأعلى والقدوة ويقلده الابن دون أن يعرف أو يدري ويرى فيه رمزا لرجولته المقبلة، وترى فيه البنت نموذجا لما يجب أن يكون عليه عريسها ومن تحبه، أما الزوجة فحاجتها للأب لا تقل عن حاجة أولادها بل حاجتها للأب ملحة حتى لو كان مريضا أو عجوزا أو بلا عمل، ومن هناء يأتي المثل القائل: (ضل راجل ولا ضل حيطة)، أو ذلك الذي تقوله الزوجة صارخة في حال موت زوجها: (يا سبعي!).. فعلا الأب هو السبع وهو الأسد وهو القادر وهو العمود الفقري الذي يصلب حيل العائلة ويجعل منها كلا متماسكا، هو في النهاية الرمز للكيان الواحد.
ناقش مسلسل (العيلة دي) مشكلة غياب الأب (دويدار) وعودته لعائلته بعد سنوات طويلة من العمل في الخارج، بعيدا عن أسرته المكونة من أولاده (هشام، ودعاء، وداوود، وديشا) والزوجة (دلال عبدالواحد) وأمه الجدة (دهب)، حتى أنهم تعودوا على غيابه وتقطعت الخيوط تماما وبالذات الخيوط التى تربط الأبناء به، فلم يعد يربط بينهم وبينه إلا تلك الهدايا التى يحضرها لهم من الخارج، لدرجة أن أصغر أبناءه (ديشا) كان في طفولته ينادي شقيقه (هشام) باسم بابا!.
فجأة قرر (دويدار) العودة إلى مصر والاستقرار مع عائلته بعد سنوات من الغياب، مما أزعج زوجته (دلال) لعدم إخبارها بقراره النهائي لترك العمل والاستقرار في مصر، وعدم تفكيره في تأمين مستقبل أولادهما، وتبدأ المشاكل بعودة (دويدار) من الخارج وتدخلة في حياة أبناءه ونقده الدائم لهم.
وهو الأمر الذي سبب لهم توترا شديدا خاصة وأنه كان فظا غليظا معهم في البداية، وقبل أن يتعرفوا على حقيقة مرضه بالقلب بعد تعودهم لسنوات على وجود الأم فقط، التى كان من حسن حظهم متعلمة وتعمل في إحدى المصالح الحكومية، وفي نفس الوقت تراعي بيتها وأولادها بل إنها قامت مقام الأب، وحمت أسرتها من السقوط والانهيار، واستطاعت النجاة بأسرتها وصد أمواج عاتية كثيرة مرت بها كان من الممكن أن تهلك هذه الأسرة وتعمل على ضياعها، وقد سمعنا وشاهدنا وقرأنا مئات من الأسر المصرية ضاع أبنائها بسبب غياب الأب.
نجحت المؤلفة (أماني التونسي) في رسم أحداث صغيرة متعاقبة نرى من خلالها شخصيات من لحم ودم، تحب وتنفعل وتذهب للعمل، وتكشف المؤلفة بذكاء طباع أبطالها وكيف يتصرفن تجاه الأحداث، وكل الشخصيات تقف على أرض صلبة لهذا صدقناهم وعشنا معهم أحلامهم وانكساراتهم، وشعرنا أن هذا ليس مسلسلا تلفزيونيا نشاهده كل ليلة، لكنه كان بمثابة واقع يحكي قصص الشقة التى أمامنا والتي فتحت فجأة على مصراعيها وشاهدنا ما يحدث فيها، فكل الشخصيات التى شاهدناها نعرفها جيدا ونصادفها يوميا بخفة ظلها وتعبها وحبها للحياة وسعيها اليومي في سبيل توفير لقمة العيش.
ومما ساعد على ترسيخ هذه الصورة الواقعية المخرج المتميز (أحمد خالد أمين) الذي نجح في خلق إيقاع وجو خاص بالمسلسل مشحون بالمشاعر الإنسانية، قدم من خلاله العديد من المشاهد المختزلة المؤثرة التى تقول الكثير وتهيئ المتفرج لتلقي شحنة ممتازة من العواطف والانفعالات التى تعيشها هذه الأسرة الصغيرة التي تشبه في ملامحها ومشاكلها كثير من الأسر المصرية التى تكافح وتتعب وتسعد وتشقى وتحلم وتأمل في غد مليئ بالسعادة والابتسام.
كنت أتمنى فقط من (أحمد خالد أمين) أن يغوص أكثر في الشارع الذي تعيش فيه أسرة (دويدار) ويقدم مشاهد سريعة للجيران والأهل والأصدقاء بعيدا عن البواب وزوجته حتى تكتمل هذه اللوحة الواقعية الرائعة، وإن كان قدم بشكل سلس وبسيط أسرة الجار (مكرم) وزوجته (ليلى) وأكد من خلالهما حميمية العلاقة بيننا وبين أخواننا المسيحيين بشكل طبيعي ودون تزييف أو إدعاء.
والجميل في (أحمد خالد أمين) أنه عرف كيف يختار أبطاله، وعرف كيف يهيئ وجوها شابة لتسير على طريق النجومية المرسوم أمامها، وما بين هذا وذاك عرف كيف يروي قصة اجتماعية لها مذاق خاص تقول الكثير، وفي نفس الوقت مليئة بالكوميديا.
قدمت النجمة الكبيرة وفاء عامر دور الأم (دلال عبدالواحد) بفهم وحب وذكاء، ورسمت أبعاد الشخصية بمهارة شديدة، وعرفت كيف توازن بين القلق والاندفاع، بين خيبة الأمل والدهشة، بين اليأس والأمل، وحملت على أكتافها مسئولية التعبير عن شريحة كبيرة من نساء مصر العاملات اللاتي مازلن يعتبرن أنفسهن المسئولات الوحيدات عن بيوتهن وأزواجهن وأولادهن، دون أن يؤثر ذلك على أداء واجبهن الكامل في العمل وتحمل شتى أنواع المسئوليات، إنه دور يحسب لها ضمن أدوارها الكثيرة المبدعة التى قدمتها في السنوات الأخيرة على مستوى الأداء الذي يخاطب المشاعر الإنسانية بفهم وعقل واع عبر لغة جسد فائقة الجودة.
أما الدمرداش الشهير بـ (محمد ثروت) فكان البسمة التى كنا ننتظرها يوميا، حيث قدم واحدا من أفضل أدواره الكوميدية، وكان واعيا بكل أبعاد دوره وإمداداته، وقدم أداءا متزنا بعيدا عن (التهريج، والاستخفاف)!، وإن كنت أخذ عليه بعض المبالغات والصوت العالي في قليل من الحلقات التي اتسمت عموما بأجواء دافئة تعكس ما افتقدناه كثيرا في حياتنا العصرية الحالية.
وقدم النجم (إسلام إبراهيم) دور الشاب (هشام) الذي تتكسر أحلامه ومشاريعه أمام عيونه، وتكاد تهزمه الحياة في أسرته لكنه لا يستسلم لكل هذا ويغير من نفسه ومن عمله، ومن طريقة تفكيره، ويقابل ما يصادفه بالسخرية اللاذعة، ويتألق في تقديم أكثر من مشهد، خاصة مشاهد المواجهات بينه وبين والده، أو بينه وبين زوجته، وأستطاع أن يفجر الضحك من قلب التراجيديا التي تحكم حياته طوال الوقت، ومن هنا يمكنني القول أن (إسلام) هو النرجسة النقية التى تعطر جونا الفني اللاهث الأنفاس بالكثير من العبق والعطر والصفاء، إننا لا نملك تجاهه إلا الحب والإعجاب والترقب.
ونجح (يوسف عثمان) في تقديم دوره بشكل متميز للغاية وشق لنفسه طريقا متميزا في الأداء من خلال شخصية الدكتور الصيدلي (داوود)، حيث عبر بصوت هادئ عن هموم الشباب المقبل على الزواج في ظل تعقيداتها المادية التي تتكسر على صخرتها تلك الأحلام الوردية المفعمة بالرومانسية النقية.
(ريهام الشنواني أو دعاء) كانت دافئة ومختزلة في حركاتها ومعتمدة اعتمادا رئيسيا على التعبير الداخلي عن انفعالاتها، لكن عاب تجسيدها لجوئها إلى بعض المبالغة أحيانا، مما تسبب في إفساد كثير من المشاهد التي كان يمكن أن تكون (ماستر سين) الحلقات.
قدم (إسماعيل فرغلي) شخصية الأب (دويدار) بضعفه الإنساني وغربته الحائرة، لكنه لم يقنعني كثيرا في دور الأب العائد بعد سنوات من الغربة، إنه كان يفتقد الأداء الاحترافي الذي يعكس الشخصية من الداخل وألا يعتمد على الخارج فيها، وكنت أفضل أن يلعب درو (الأب) نجم لديه مخزون أكبر من الذكريات عند جمهور المنازل، مثل (خالد زكي، صلاح عبدالله، سامح الصريطي، محسن محيي الدين، حمدي حافظ) وغيرهم من النجوم.
وكانت النجمة (إنعام سالوسة) في لعبها دور الجدة (دهب) التى كانت تعمل في شبابها كـ (كومبارس) نسمة رقيقة دافئة طوال الحلقات، وقدمت أداءا جميلا، خاصة المشاهد التى جمعت بينها وبين (محمد ثروت، ووفاء عامر، وأحفادها خاصة (ديشا) في براعتها في صناعة مواقف ومفارقات كوميدية غاية في الروعة من فرط سخريتها.
ولم يستفد المسلسل جيدا من نجومية وتواجد النجوم الكبار (سلوى محمد علي، علا رامي، ضياء الميرغني، محمد أبوداود، ياسر علي ماهر) فلم اتاحة مساحات أكبر يمكن من خلالها تحقيق استفادة كاملة، خاصة أن مواهبهم أكبر كثيرا من الأدوار التى أسندت إليهم والتي حصرتهم في زوايا ضيقة لاتليق بهم.
أما باقي الفنانيين (سارة نور، أمينة البنا، نور بدر الدين، عبد الرحمن حسن، هايدي رفعت، إيمان يوسف، مؤمن هشام، ساندي مراد، مجدي البحيري، سمير بدير، ياسمين سمير، غادة طلعت، مها حسن، خالد جواد)، فقد عاشوا أدوارهم بعفوية دون استثناء، وكانوا عناصر فاعلة في الأحداث التي ترسخ للكيان العائلي الذي يتعرض لتيارات وعواصف تكنولوجيا هذا الزمان، خاصة السوشيال ميديا التي أصبحت هوسا لدي هذه الأجيال من الشباب.