بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
اشتعلت معركة كبرى الأسبوع الماضى عندما أعلن المسرح القومى عن خطته التي تضمنت عرضا عن الشيخ (محمد متولى الشعراوى) ، ضمن مشروع جديد يحمل اسم (مسرح السيرة) يقدم من خلاله عروضا أو أمسيات حول بعض الشخصيات الأبرز في مصر في مجالات متعددة ، وبدأت المعركة من صفحات التواصل الاجتماعى التي كتب عليها البعض مستنكرا تقديم عرض عن رجل سجد لله شكرا لهزيمتنا عام 1967 – بنص حديثه في حوار صحفى – وتم وصفه بأنه عدو للفن وللفنانين ، وأنه عدو للمرأة و للأقباط ، وعادت إلى الواجهة كل الموضوعات المأخوذة على الشيخ كعلاقته بشركات توظيف الأموال التي نصبت على ملايين المصريين وأضرت بالاقتصاد المصرى ، وأيضا فتاواه ضد نقل الأعضاء والعلاج بيد أطباء غير مسلمين التي ناقضها بلجوئه للعلاج بالخارج.
وامتدت المعركة إلى ساحة البرلمان ، فقدمت النائبة فريدة الشوباشى طلب إحاطة لرئيس مجلس الوزراء ولوزيرة الثقافة في شأن ضعف أداء الوزارة في نشر الوعى و تساءلت مستنكرة في طلب الإحاطة : كيف يمكن توطيد شعور الانتماء لمشاهدى هذه المسرحية التي تتحدث عن شيخ قد حرّم الفن وأموال الفن إضافة إلى تحريضه على عدم وضع النقود في البنوك لأن فوائد البنوك حرام ؟، ولم تغفل النائبة عن ذكر واقعة السجود.
و في رد فعل سريع ، صرح للصحف الفنان إيهاب فهمى مدير المسرح القومى بأن أمسية الشيخ الشعراوى كان مقررا لها أن تعرض ليلة واحدة ضمن إمساكية شهر رمضان ، ونظرا لرفض النص من لجنة القراءة لضعفه فقد تم طلب إعادة صياغته، وأنه تم ذكره كمثال للأمسيات التي ستبدأ بالأديب العالمى (نجيب محفوظ و الإمام محمد عبده) وستضم قامات مصرية في كافة المجالات مثل: (أحمد زويل و زكى نجيب محمود وأحمد شوقى ومحمد عبد الوهاب وزكى طليمات وصلاح جاهين وصلاح عبد الصبور) وغيرهم.
وأعلنت الدكتورة نيفين الكيلانى وزيرة الثقافة، وقف الأمسية و تحويل الأمر إلى اللجنة العليا للبيت الفني للمسرح برئاسة الفنانة القديرة سميحة أيوب – حسب ما جاء بموقع تحيا مصر الإخبارى – وقالت خلال مداخلة هاتفية ببرنامج (حديث القاهرة) أن اسم الشيخ الشعراوى كان مطروحا على سبيل المثال وليس تأكيدا لأن عليه تحفظات كثيرة ، ولابد أن يكون هناك اختيار للشخصيات التنويرية المؤثرة وأن يكون لها أثر إيجابى من الناحية التنويرية لمكافحة الفكر المتطرف.
والحقيقة أن الرجل – حيا و ميتا – قد أثار جدلا واسعا و انقسمت الآراء حوله ، حتى بات عند البعض داعيا للتطرف، وعند البعض الآخر إماما من أئمة التجديد، ولكنى أعتقد أن الخلاف حول الشيخ ليس فقط بسبب بعض فتاواه ولكن في الأساس بسبب آرائه السياسية ، فكثيرا ما تناقضت مواقفه، فبرغم أنه صرح بأنه سجد شكرا لهزيمة مصر لأن الهزيمة أوقفت انتشار الشيوعية فيها – في اتهام صريح للزعيم عبد الناصر – فهو نفسه من كتب مقالا طويلا مليئا بالأشعار المؤلفة والمقتبسة في رثاء الزعيم نشره أثناء وجوده بالسعودية قائلا: لا أظن أن حياً فى هذا العصر يجهل ما فعل عبد الناصر من أعمال، وما خلق فيه من آمال.. إنه وهو ميت لا يزال وقود الأحياء، ولذلك يجب أن يكون ذكرنا له ولاء لا مجرد وفاء ، لأن الوفاء لما
ض مقدر فاندثر ، ولكن الولاء لحاضر مستمر يزدهر فيثمر (المصدر كتاب الشيخ الشعراوى و فتاوى العصر للصحفى محمود فوزى)، ثم يعود الشعراوى للهجوم على عبد الناصر في التسعينات وبعدها بأيام يزور قبره ليقرأ الفاتحة نتاج لرؤيا رآها – كما صرح لجريدة الأهرام في 30 مايو 1995 – قائلا قررت بعد كلمة عابرة قلتها في حق عبد الناصر من أيام أن أزور ضريحه، فلا يجب على الإنسان أن يسيئ الظن بفعل أحد وأن يترك سرائر الناس لله وحده (!!!).
و ليس هذا (التراوح) هو المأخذ الوحيد على الشيخ الشعراوى في ميدان السياسة ، بل كانت علاقته بالحكام دائما ملتبسة، فقد مدح الملك فاروق في قصيدة طويلة وشبّهه بالخليفة المأمون وشبّه والده الملك فؤاد بهارون الرشيد، ثم في عصر السادات وقف الشيخ الذى كان وقتها وزيرًا للاوقاف ، ليقول في مجلس الشعب فى 20 مارس 1978 (والذي نفسي بيده لو كان لي من الأمر شيىء لحكمتُ لهذا الرجل الذي رفعنا تلك الرفعة وانتشلنا مما كنا فيه إلة قمة ألا يُسألَ عمَّا يَفعل!)، ولم يعدم من المشايخ من يرد عليه بأن الله وحده سبحانه وتعالى من لا يُسأل عما يفعل، وأن السادات بشر و لا يليق أن يرفعه الشيخ تلك الرفعة، خاصة أن تلك الواقعة تمت بعد انحسار شعبية السادات بسبب انتفاضة الخبز في يناير 1977، وبعد زيارة السادات للقدس في نوفمبر من نفس العام والتي رفضها كثيرون حتى أن وزير الخارجية في ذلك الوقت (إسماعيل فهمى) اضطر للاستقالة اعتراضا على الزيارة.
أما الطرف الآخر في معركة الشعراوى والقومى، فقد أصدر بيانات وأدلى بأحاديث تمجد الشيخ وتنسب له كل الفضائل، فقد نشر مركز الفتوى بالأزهر الشريف ردا قال فيه إن الشيخ مثال للعالم الوسطى المستنير – برغم أن المعركة كانت حول مواقف الشيخ السياسية ولم تنل من مكانته العلمية – وتلك المواقف مباح فيها الأخذ والرد مدام الشيخ قد قبل الخوض في بحر السياسة، ولكن بعض الردود تجاوزت حدود مدح الشيخ إلى التهجم على خصومه مثل تصريح الشيخ (عباس شومان) وكيل الأزهر الشريف السابق الذى قال إن من يهاجمون الشيخ الشعراوي مثلهم (كأطفال) أردوا إتلاف ثمار نخلة عالية فسقطت أحجارهم فوق رؤوسهم، وظلت الثمار تعجب الناظرين وخالصة للآكلين!!
أما أغرب الردود فهو ما جاء على لسان أحد أعضاء المجلس الأعلى للشئون الإسلامية أن من يهاجمون الشيخ الشعراوي يعتدون على ثوابت الدولة وقوتها الناعمة الحقيقية ويعملون على تفريق المصريين، ومن يحترم الدولة لا بد أن يحترم رموزها، وإمام الدعاة على قمة هذه الرموز، ولا أعلم ماهى ثوابت الدولة تلك التي يتحدث عنها الشيخ، وكيف تكون تلك الثوابت مجرد (أفراد) وليست قيما مطلقة؟، ألا يحق لنا مناقشة آراء هؤلاء ؟، ألم يسمع بعمر بن الخطاب الذى ردت عليه امرأة وهو على المنبر واعترف أمام الجميع بخطئه؟
والحقيقة أن هذه المعركة تثير الكثير من الحزن والأسى لأسباب عدة ، أولها حالة التقديس التي لونت حديث كل من دافع عن الشيخ واعتباره فوق النقد والحديث عن دوره في مكافحة التطرف، وتناسى هؤلاء جهود علماء آخرين بذلوا أضعافا في سبيل مقاومة التطرف كالشيخ حسين الذهبى الذى دفع حياته ثمنا لمواقفه ضد الإرهاب عندما أعلن أن: الدين ليس فيه إرهاب لأن رسالات السماء دعت إلى التسامح والتعاون بلا إكراه ولا سيطرة على البشر، والإسلام أعلن ذلك صراحة فى قوله تعالى (لا إكراه فى الدين) وقوله (لكم دينكم ولى دين)، وقال لرسوله (لست عليهم بمسيطر).
وإذا جاء ذكر الشيخ الذهبى فيجب أن نذكر جهوده في مجال التفسير والتي لا تقل عن جهود الشيخ الشعراوى – و إن كانت أقل شهرة – والذى سبق الجميع في المطالبة بتنقية التراث من الإسرائيليات قائلا: على المفسر إعمال العقل فى التراث الفكرى والدينى، وأن يكون يقظا إلى أبعد حدود اليقظة، وناقدا إلى غاية ما يصل إليه النقاد من دقة وروية حتى يستخلص من هذا المركوم من الإسرائيليات ما يناسب روح القرآن الكريم ويتفق مع النقل الصحيح والعقل السليم.
ثانى الأسباب: أن من خاضوا المعركة ضد – أو مع – تقديم عمل عن الشيخ على المسرح غفلوا عن معركة أكبر وأهم هى الحفاظ على أضواء المسرح مضاءة، بعد أن أصبح مهددا بأن تطفأ أنواره من جراء إجراءات تتخذها وزارة المالية وتطبقها على المسرح الذى تختلف طبيعة الإنتاج فيه عن باقى قطاعات الدولة (تحدثت عنها في مقالات سابقة) وتصر على تطبيق تلك القرارات التي ستوقف الإنتاج المسرحى سواء على مستوى المسرح المحترف أو الهاوى، فعلى سبيل المثال اضطرت معظم كليات الجامعات أن تطلب من مخرجى عروضها – أو مهندسى الديكور – تحمل تكاليف إنتاج العروض على أن يتم إضافتها لأجورهم هربا من الإجراءات المعقدة التي تطالب بها وزارة المالية، مما أدى إلى اعتذار كثير من المخرجين عن العمل، وهذا سيفتح الباب لمن يهتم بالمكسب المادى قبل القيمة الفنية، وبذلك نكتب نهاية الصحوة التي يتميز بها المسرح الجامعى حاليا.
أما بقية الأحزان الناتجة عن تلك المعركة فلها حديث آخر…