بقلم : محمود حسونة
غادرنا عام 2022 بعد أن رسّخ داخلنا أننا قوم عاجزون إعلامياً، مفلسون فنياً، ضائعون فكرياً، تائهون قيمياً.
ودعت البشرية العام المنتهي غير آسفة عليه لما لحقها خلاله من أزمات وصراعات وانهيارات وفيروسات وأوبئة، واستقبلت العام الجديد بفرح وبهجة متمنية أن يكون أفضل من سلفه، ولذا تبارت الدول المختلفة في التعبير عن الأمل بهذا القادم المجهول، بأساليب مختلفة تنشر البهجة وتعمم روح التفاؤل، ونظمت الفعاليات والاحتفالات الضوئية من خلال الألعاب النارية وأشعة الليزر والنوافير الراقصة على أنغام صاخبة تارة ورومانسية تارة أخرى، وحرصت أجهزة الإعلام في كل دولة على نقل هذه الفعاليات لمشاهديها حول العالم، باستثناء إعلامنا الذي كان في واد والبهجة المصرية بالعام الجديد في واد آخر، ليندم كل من اعتمد على متابعة الاحتفالات عبر القنوات التليفزيونية، وتخيلنا أن مصر اختارت الانتقال الباهت من عام لآخر.
وبعد دقائق من الدخول في العام الجديد اكتشفنا أن مصر استقبلت العام بالابهار في أماكن مختلفة من خلال الفيديوهات التي نشرها الناس على مواقع التواصل الاجتماعي من أكثر من منطقة وعلى رأسها (برج القاهرة وممشى أهل مصر) وميادين عدة في قاهرة المعز، إلا أن إعلامنا عجز كعادته عن نقل مظاهر الفرح بالعام الجديد، بعد أن ثبتت قنواته كاميرات لها في مناطق محددة لم تكن على مستوى المناسبة، لتظهرنا أمام العالم الخارجي دولة باهتة وسط عالم صاخب، مقدمة مصر أمام الآخرين في صورة لا تتناسب لا مع واقع الاحتفالات بها ولا مع مكانتها الإقليمية ولا الدولية.
ومثلما رسّخ العام المنتهي لدينا العجز الإعلامي، أكد الإفلاس الفني، فبعد أن كان بعض كتابنا ومخرجينا يقتبسون أعمالهم الدرامية والسينمائية من مسلسلات وأفلام أجنبية، وهو ما عرّضهم للكثير من الانتقاد والاتهام بالسرقة، أصبح البعض اليوم يستنسخون، بل ينسخون عن أعمال أجنبية، وهي ظاهرة بدأت تنتشر لدينا منذ سنوات، ولكنها تفاقمت وزادت عن الحد خلال 2022، والسبب هو المنصات الإلكترونية التي تسعى لاستقطاب مشتركين لها عبر البحث عن المثير على الشاشات الغربية والتركية وأحياناً المكسيكية، ونسخه بنفس شخصياته ومضمونه وحواراته ومصطلحاته وديكوراته وملابسه وقيمه بصرف النظر عن ما إذا كان يتناسب مع طبيعة مجتمعاتنا ومع قيمنا أم لا؟
صحيح أنهم اليوم يشيرون في مقدمات أعمالهم أنها مأخوذة عن هذا المسلسل الأمريكي أو ذاك التركي، ولكنهم أصبحوا ينسخون العمل الخارجي كتابة بالحوار والألفاظ، وإخراجاً بموقع التصوير وزوايا الكاميرا والديكور، وأداءً باللفتة والإيماءة وتعبيرات الوجه والعينين.
السؤال الذي يطرح نفسه: هل تحولنا من أمة مبدعة نال أحد كتابها جائزة نوبل في الأدب، ونال فنانوها ومخرجوها وكتابها جوائز من مهرجانات مختلفة، ونجح بعض فنانيها وشبابها من الوصول إلى العالمية وحصد إعجاب الجمهور العالمي إلى أمة مفلسة مدعية مستنسخة ناسخة؟
الجواب، لم نتحول، ولكن الذي تغير فينا هو أن الفن في بلادنا العربية تولى أمره أناس لا يشغلهم مضمون ما يقدمونه بقدر ما يشغلهم الكم، أناس يبحثون عن السهل والرخيص بصرف النظر عن مضمونه، أناس لا يريدون التعامل مع القامات الإبداعية ويفضلون التعامل مع أنصاف المواهب الذين ينفذون التعليمات ولا يناقشون ولا يشغلهم سوى الحصول على الفرصة، أناس بعضهم يعملون وفق أجندة خارجية لتحويلنا إلى أمة ممسوخة، تابعة، منقادة، تلقي بقيمها من الشباك وتفتح الأبواب مشرعة لقيم الآخر التي تنتزعنا من جذورنا وتحولنا إلى شعوب بلا جذور يسهل اقتلاعها، ويسهل لها أن تتطاير قيمها في مواجهة العواصف الفكرية التي يريدون عبرها تغييرنا شكلاً وجوهراً.
خلال العام الأخير تبارى المصريون في استنساخ بل نسخ مسلسلات غربية تافهة ومبتذلة، نذكر منها على سبيل المثال: (الآنسة فرح، مجنونة بيك، قواعد الطلاق الـ 45، النزوة)، وكلها أعمال منقولة حرفياً حتى أنها تحمل نفس الاسم بعد ترجمته، ونفس الأبطال مع تمصير أسمائهم، وتبث إلينا سموماً تستهدف أبناءنا وأجيالنا الطالعة ونحن نائمون غافلون عاجزون.
الدراما اللبنانية والسورية تتنافس في استنساخ ونسخ التركي، الذي غزانا من قبل مدبلجاً واليوم يغزونا منقولاً ولا تغيير فيه
سوى تعريب أسماء أبطاله، ولعل البداية كانت مع المسلسل
الممل جداً (عروس بيروت) الممسوخ والمنسوخ عن (عروس اسطنبول)، وبعد نجاحه المأسوف منه، بدأ السيل التركي السخيف يتساقط على العقل والوجدان العربي بكل ما يحمله من رداءة في الحوار واسفاف في القيم، ومن أسوأ تلك الأعمال (ستيليتو) المعروض حالياً، ورغم أنني تناولته بالنقد سابقاً، إلا أن رؤيتي بنيتها على الـ 30 حلقة الأولى منه، ولكنه بعد ذلك
سقط في مستنقع اللامنطق واللامقبول واللادرامي، تفاهة إلى أبعد الحدود، ومط وتطويل غير مبرر.
عالمنا العربي مليء بالمبدعين العظام، ومكتبتنا العربية زاخرة بالروايات والقصص التي تصلح للتناول الدرامي، وتاريخنا به من الشخصيات والمحطات الحضارية ما يمكن أن يملأ منصاتنا وشاشاتنا لسنوات وسنوات، وكله مشرف لنا بما في ذلك المعارك التي خسرها أجدادنا بشرف وكرامة، والمعارك التي انتصروا فيها وتركوا لنا تاريخاً نفخر به وحضارة تعجز البشرية عن فك ألغازها، وللأسف أننا نترك كل ذلك ونهرول بفعل فاعل لتبني الأفكار التركية والأمريكية الهدامة والتافهة، وكأننا أمة مفلسة، عاجزة، ونحن أبعد ما نكون عن الإفلاس الفكري والعجز الفني.
mahmoudhassouna2020@gmail.com