بقلم : محمد شعير
المفترض أن هذا مقال رأي، لكنني اخترت هنا ألا أكتب رأيا، إنما هى فقط بعض الذكريات والآراء القديمة، الكاشفة، التي ربما تكون مفيدة في الجدل الدائر حاليا بعد إعلان (المسرح القومي) عن تقديم سيرة الشيخ محمد متولي الشعراوي في أمسية مسرحية في شهر رمضان المقبل، ضمن مشروع يحمل اسم (مسرح السيرة)، لتقديم سير شخصيات أثرت في تاريخ مصر، منها (نجيب محفوظ والشيخ الإمام محمد عبده) وغيرهم.
وهو الجدل الذي دعا الفنان (إيهاب فهمي) مدير المسرح القومي إلى إصدار بيان رسمي يوضح فيه أن لجنة القراءة طلبت إعادة الصياغة دراميًا، وأنه قد تم ذكر أمسية (الشيخ الشعراوي) خلال مؤتمر الإعلان عن خطة (البيت الفني للمسرح) كمثال للأمسيات ضمن المشروع، مما اعتبره البعض شكلا من أشكال التراجع أو إعادة التفكير في الأمر.
وسط تصاعد الجدل في الوسط الثقافي، كان السؤال الذي خطر لي كالتالي: (وما رأي الشيخ الشعراوي نفسه في تقديم أمسية مسرحية عن سيرته؟.. ترى هل يوافق؟!).
لا أحد يمكنه الإجابة بشكل قاطع، لأن الرجل الآن بين يدي الله، لكنني تذكرت.
تذكرت وقائع حوار صحفي طويل، قديم، عمره الآن ثلاثون عاما بالتمام، أجريته معه بينما كنت طالبا في كلية الإعلام، ونشر في جريدة (صوت الجامعة) عدد شهر فبراير 1993، وقد علق وقتها الكاتب الصحفي الأستاذ (إبراهيم عيسى) على الحوار في مقال بمجلة (روزاليوسف) أعاد نشره بعدها في كتابه (عمائم وخناجر) في ظل سخونة تصريحات الشيخ وإثارتها للجدل في قضايا عديدة، وحالة الشد والجذب التي شهدها الحوار، عندما اعترض (إمام الدعاة) أكثر من مرة على أسئلة (الطالب الجامعي الصغير).
دع عنك الآن الماضي والإثارة، الجدل والقضايا، فليس هذا هو الموضوع، لكن جزءًا صغيرا جدا من الحوار، كان لا بد – وسط الجدل الحالي الجديد – أن أتذكره الآن، وأقدمه هنا كما هو، دون رأي.
يومها؛ قلت بالنص ما يلي: فضيلة الشيخ الشعراوي شاعر قديم.. ما هو موقفك من الفنون المختلفة؛ الشعر والمسرح والأدب والنحت؟.
جاءني الرد: (الفن الجميل هو الذي يبدي محاسن الحياة ويظل يبديها فلا يبدي بعدها مقابح.. يعني الفن لكي يكون جميلا لابد أن يظل جميلا لا يسلم إلى قبح.. فالرقص مثلا يكون ساعتها جميل قوي ولكن بعد ذلك ماذا يحدث؟.. تهيج الغرائز).
عدت للسؤال: (طيب والمسرح يا فضيلة الشيخ؟)، عندئذ أجاب بسؤال استنكاري أو ربما تهكمي: (مسرح إيه إن شاء الله؟!)، حددت ما أقصده: (المسرح الهادف الذي يقدم فكرا معينا).. فأجاب.
قال: (طيب عال.. المسرح الذي يقدم الفوازير مثلا؛ ما هى الفوازير؟. أحجية عقلية تنشِّط الذهن لإدراك الحلول فيها، فما دخل ذلك بالخلاعة والرقص والتهتك الذي فيها؟.. إنما هي مجرد مناسبات إثارة الغرائز).
في الحقيقة، لم أفهم ما العلاقة بين المسرح والفوازير، وربما دار وقتها عقل الطالب الجامعي الصغير حول نفسه، وتساءل في داخله فاقدا الثقة: (أكان هذا حقا ما سألتُ عنه؟!)، لكنني أجلس في حضرة (الشيخ الشعراوي) فلا مجال أمام هيبته لجدل طويل، لذا انتقلت إلى سؤالي التالي،
قلت: (وفن النحت؟)، رد: (التماثيل حرام يا أستاذ).
ناقشت: (هناك رأي بأن سبب تحريم ذلك في الماضي هو عبادتها من دون الله سبحانه وتعالى، أما الآن فقد تقدم البشر ولا يمكن أن يعبدوها).
لكن الشيخ بحسمٍ أيضا رد.. قال: (احنا مالناش دعوة، فالحكمة انتُهي منها، واللي صنعوها في الأول كانت جميلة عندهم، وبعدين؟!).. عبدوها.. وإذا كان ربنا يمنُّ على سليمان: (ويعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل) فكان المراد بها أنها شيء جميل ولكن تطورَ الأمر بعد ذلك إلى عبادتها، وهذا باب اسمه سد الذرائع).
دعك الآن من شعور الشاب الصغير الذي يدرس في كلية الإعلام.. لا يهم، وفي كل الأحوال، لن تفعل هذه الإجابات في عقله، ونفسه، مثلما فعلت إجابة سابقة للشيخ في نفس الحوار عن سؤال آخر.
كنت سألته: (يوجد حاليا في الجامعة الاختلاط بين الجنسين، نود أن نعرف حدود العلاقة الواجبة بينهما).
وقتها ضحك الشيخ، وقال: (لأ ما تقوليش اختلاط وبعدين تسأل عن حدود العلاقة، لأن وجودهم مع بعض من الأول حرام).
وهنا كان لا بد للطالب الجامعي – بشكل شخصي – أن يسأل: (ألا توجد أية إيجابيات في الاختلاط، مثلا اكتساب الخبرة عن طريق الاحتكاك بين الجنسين؟).
وفي الحال، داهمني الرد؛ قال الشيخ بالنص: (إيجابيات إيه؟!).. الاختلاط كله سلبيات، واسألوا المشرفين على نظافة دورات المياه في الجامعة، ولن أقول أكثر من ذلك!).
وأنا هنا أيضا، بعد ثلاثين عاما، لن أكتب أكثر من ذلك، فالشاب لم يعد صغيرا، والجامعي أصبح صحفيا، لكنه برغم السنين لم يتخل أبدا عن كونه (طالبا).. طالب علم، يقرأ ويبحث، يرى ويسمع، ويناقش، يحترم تجارب الكل، يتفق ويختلف، بأسلوب ملتزم، دون تقديس لشخص، ما لم يكن نبيا معصوما، لكن في ظل مجتمع التراشق، والقصف المتبادل من الخنادق، يبقى من العقل ألا تزج بنفسك في أتون معارك العبث.
هل خالفتُ الآن ما بدأتُ به وكتبتُ رأيا؟!.. لا أعرف.. أيا يكن.. لكن السؤال يظل قائما: (.. وهل يوافق الشيخ الشعراوي على مسرحية تعرض سيرته؟!).