بقلم : محمد شمروخ
أحدثت حلقة برنامج (على مسئوليتى) على قناة صدى البلد للزميل الإعلامي أحمد موسى مع الإذاعى الكبير الأستاذ (فهمى عمر)، أصداءً واسعة لتنوع الموضوعات التى خاضها الأستاذ فهمى بسلاسته المعهودة في سرد الأحداث التي عاشها أو عاصرها.
حقا كانت حلقة رائعة تجذبك جذبا لمتابعتها والعودة إليها مرارا على مواقع الإنترنت لتعيد الاغتراف مجددا من تلك الفيوض الهادرة التى يتحفنا بها الرمز الإذاعى الكبير.
وأفضل ما في هذا الحوا ر، أن الزميل المحاور ترك العنان لضيفه، فصال وجال عبر الزمن لينقل إلينا صورا حية نابضة عن الأحداث والشخصيات والمواقف.
غير أننى وبسبب المعرفة المباشرة والقرابة الوطيدة والحب الخالص للأستاذ فهمى عمر، تركت لنفسي العنان للتفكير في هذا النموذج الذي فتحت عيني عليه كإنسان وكمذيع وكقيادة إذاعية وكنائب شعبي وكرمز لمنطقة عريضة في جوف الصعيد، فهذا الذي جلس أمامنا على الشاشة يسرد ذكرياته وآراءه.. ماذا جنى من مكاسب بمقاييس العصر الحالى؟!
الإجابة: (لا شيء!).
هذا إذا ما اعتمدنا المعيار السائد في الحكم على المكتسبات!
ولكنها من جهة أخرى تصبح الإجابة عن السؤال في الوقت نفسه (كل شيء!)، ولكن بمعيار آخر!
فالحقيقة والواقع لمن يعرفه، أن (فهمى عمر) لم يضف لرصيده المادي؛ خلال رحلة عمل جاوزت السبعين عاما؛ شيئا يذكر أو يشار إليه بالبنان، منذ عمل شابا في الإذاعة المصرية في وقت تربعت فيه الإذاعة على عرش الإعلام وظل معها طوال عهدها الذهبي وأنجز مهامه الرسمية فيها وهى تبث في كل مكان في العالم تقريبا على مدار اليوم والليلة، خلال هذه الرحلة الممتدة، قابل وزامل وصادق، شخصيات بعضها كان له مع التاريخ ما كان والبعض عارك الأيام وعاركته.
ومع ذلك لم تزد ثروة (فهمي عمر) بل لم تكن ممتلكاته مما يطلق عليه ثروة، وكان ومازال بجانب دخله من العمل يعتمد على نتاج بضع فدادين ورثها عن أسلافه مثل أى صعيدى ارتبط بأرضه وحافظ عليها وتمسك بها ليس لقيمتها المالية ولكن لأنه ألقى فيها بجذوره واستمد منها انتماءه لبلده.
وليسمح لى الأستاذ العظيم أن أستنسخ من تاج العزة الذي توجته به تجاربه، تيجانا أخرى أضعها على كل رؤوس من اعتزوا بهذا النموذج الفريد المؤمن بقيمة الكلمة المنطوقة إذاعيا عبر الأثير، والتى اتخذت مكانها في إثراء الوعي وترسيخ الثقافة بجوار الكلمة المكتوبة والمقروءة في الكتب والصحف.
هناك من يعتبر النجاح أن يحقق ثروة طائلة، بيد أن هناك رجال يرون معنى النجاح ألا يحققوا أى ثروة! غير ثروة الكلمة.
وما أدراك ما الكلمة فإن الله خلق هذا الكون الواسع بكلمة منه!
قد يتعجب البعض من أنه لم يحقق ثروة مالية، معتمدين على تزييف معايير معنى النجاح واعتباره بنتائجه المادية التى تدفعنا للهاث وراء ما إذا أدركناه لم نجده شيئا، وهذا هو عين الضلال والخداع والخسران الكبير.
لقد نجح (فهمى عمر) كنموذج إنسان عفيف اليد واللسان لا يغتر بشيء ولا يمد عينه إلى ما تمتع به غيره، لأن معايير تحقيق الذات اختلفت عنده، فصار على خطى عظماء التاريخ الذين لم يلتفتوا لمثل تلك المعايير فلم تكن كثرة المال همهم ولا سطوة الجاه غايتهم.
فماذا ترك عظماء التاريخ لمن خلفهم، غير تجارب إنسانية عظمى من تعاليم وفكر وفن وأدب؟
لا أسمعن من يقول إن قوانين العصر تقيس النجاح بالمعايير النفعية، فالإرادة الحقيقية للإنسان أن يتجاوز هذا الذي يدعى بالعصر ولا يخضع له خضوع الخادم للسيد، فقيمة الإنسان الفنان المثقف الواعى، ولذة الاستمتاع بالفكرة والمعنى أكبر مما يجمعون.. لو كانوا يعلمون
ماذا لو انشغل الخال الكبير ككثيرين بتكوين ثروة – وبطرق مشروعة – ثم جلس يتأمل ما اكتسبه؟!
كان يمكن له أن يحقق الكثير، لكنه اختار الدخول من الباب الضيق، فوراء هذا الباب الضيق متسع لا يشعر به إلا من اجتاز هذا الباب.
كثيرون أجهدوا أنفسهم وغرتهم بهرجة الحياة فتنفسوها حتى أنستهم أنفسهم وأههليهم!
كم الذين فعلوا ذلك؟!
وكم منهم نالوا ما ناله (فهمى عمر) من حب واحترام الجميع؟!
كان نجاحه الحقيقي إنه قصد العزة ولم يأبه بـ (العز) فلم يملك إلا ما يضمن له أن يبقى عمره في كنف هذه العزة رافعا رأسه في شموخ لا يدرك لذته إلا من عفت نفسه عن اكتساب الدنايا.
لا مزارع على الطرق الصحراوية.. لا مصانع في المدن الصناعية.. لا شركات في الأسواق التجارية، لا مشروعات خاصة في أى مجال، إلا مشروع الكلمة!
لماذا؟!.. لأنه اهتم بالكلمة وجعلها مشروعه الأول والأخير، مثل أي إنسان عصامى يعتز بثقافته وفكره، كذلك هو لم ينس نصيبه من الدنيا ولكنه وهب غالب مجهوداته لتحقيق هذا النصيب، لتنمية منطقته التى ينتمى إليها أكثر من أى شيء آخر، فحقق في سنوات قليله ما عجز عنه غيره في عقود من السنين ومازالوا يعجزون!
حقا (فهمى عمر) لم يكن فقيرا، مع التأكيد على أن الفقر لا يعيب إلا المصابين بمركبات النقص، هو كذلك لم يكن من الأثرياء وحتى هذه اللحظة هو يسكن في شقة بالإيجار في حي المهندسين ولكنه كان لديه القدرة – وبالحلال – أن يكون صاحب قصور منيفة لو أراد، لكنه لم يختر ولم يكن له أن يختار هذا المعيار في النجاح والذي لا نعيب على أحد اختياره، ولكن نرفض رفضا باتا، أن يصير هذا المعيار الوحيد والمعتمد مقياسا للنجاح أو الفشل حتى ولو كنا نعيش بأزمنة ترى الإنسان الناجح هو صاحب المصانع والمزارع والمنتجعات والشركات والذي يكون ثروة تنوء بحمل مفاتحها العصبة أولو القوة.
الفشل الحقيقي للإنسان (لو كانوا يعلمون) أن يربح ما في العالم ولكن يخسر نفسه، نعم يخسر نفسه إذا جعل جل حياته لتحقيق أهداف الثراء الذي هو في نظر الغالب الأعم عنوان النجاح الوحيد!
مازالت أكرر لنفسي قائلا: أنت سمعت ورأيت بنفسك (فهمى عمر) يكتفى من مشواره في الحياة بما يكفل له معيشة لا تجعله في حاجة إلى غيره، ولعمرك هذا هو المكسب الحقيقي في الحياة.
ولنأخذ مجالا واحدا فقط من المجالات التى خاض غمارها ليحقق فيه الريادة، فإذا به يصير واحدا من الإعلاميين الرياضيين عبر برنامجه الشهير فى الإذاعة الذي كانت مصر كلها تنتظره للتعليق على المباريات، خاصة غير المذاعة على الهواء ولم يكن من وسيلة أيامئذ لمعرفة نتائجها إلا من خلال برنامج (فهمى عمر)، لكن هذا ليس هو المهم، فقد أرسى الخال الكبير مع فريق من مجايليه من النقاد الرياضيين في أجهزة الإعلام المختلفة قواعد النقد الرياضي، صحافة، إذاعة، تليفزيون.
ودشن أسلوب التحليل الرياضي الذي يبرز من خلاله جماليات الأداء الفنى في المباريات، بالموازاة مع ذلك نجده مع فريقه، ينشرون في الأجواء وخارج الملاعب أخلاقيات التنافس الراقي بين مشجعى الفرق الرياضية، وكذلك التعامل النموذجي مع نتائج المباريات مهما كانت، وهو أمر لم يكن بالسهل، فالثقافة الرياضية أكثر الثقافات انتشارا لدى الجماهير والأعمق تأثيرا على أخلاقياتها وسلوكياتها، بل وطرق تفكيرها، ولذلك كان نتاج جيل (فهمى عمر) من الآباء المؤسسين للنقد الرياضى تكوين وعي جماهيرى في غاية من الرقي والاحترام، مع بث قيم الروح الرياضية التى صارت دليلاً على العفو والتسامح حتى صار ينصح بالتخلق بها في غير ملاعب الرياضة، وهو أمر لابد من أن ينعكس على السلوك العام للمجتمع كله.
وها نحن قد رأينا بأم أعيننا نتيجة زوال هذه الثقافة مع توالى الأجيال، حيث تدنى النقد الرياضى واستسلم للعصبية الذميمة وطغت عليه المصالح الضيقة والصفقات المريبة وتسلل إلى الساحة كثير من المغرضين، فانهارت المنظومة الأخلاقية الحاكمة للإعلام الرياضي، وجاءت النتائج كارثية ووصلت إلى حدود يصعب علاجها، كما شهدت الملاعب والمدرجات انهيارات أخلاقية صاحبت الأداء والتشجيع معا، فانتشرت البلطجة حتى تفاخروا بها بين فريق من اللاعبين وفرق من المشجعين، بل صارت هى النموذج المعتمد في قطاعات الرياضة ما بين لاعبين وفنيين ونقاد ومسئولين، فرأينا الصدامات التى لوثت تاريخ التشجيع الرياضي بما يثقل على النفس تذكره أو ذكره أو التذكير به.
لقد أحسن الزميل أحمد موسى مع نهاية الحلقة الرائعة، بأن وضع قبلة على رأس الخال الكبير، فتلك القبلة كانت نيابة عن الملايين الذين شاهدوا الحلقة التاريخية وسمعوا ووعوا من (فهمى عمر) ما عهدوا منه ومن رموز جيله العظيم.
فكلنا كنا نود أن نقبل هذا الراس، امتنانا واعتذارا وتقديرا لنموذج انتصر لقيم نسيها الكثيرون فذكرنا بها الخال الكبير ذات مساء وعلى غير موعد لعلنا نقف وقفة أمام أنفسنا نلتقط الأنفاس ونستريح قليلا من عنت طريق أنهك أرواحنا التى طالما أرهقناها فيه صعودا!.