فادي أبي سمرا .. حضور قوي ومميز في الدراما اللبنانية
بقلم : محمد حبوشة
هنالك قاعدة أساسية أكد عليها خبراء المسرح تقول: (إذا كان فن الممثل هو جوهر المسرح، فهو كذلك، فطرة يمارسها الناس في حياتهم اليومية، عندما يكبرون، فيصبح آلية من آليات الدفاع عن النفس وتحصينها من التابو الاجتماعي، وتحقيق الهوية الخاصة بالفرد، والعيش والتأقلم الاجتماعي والإنساني مع الآخرين، والظهور بشكل يناسب شخصياتنا ضمن الجماعة، فالناس في سلوكهم اليومي وشؤونهم الخاصة، يكذبون عادة، ليس بالمعنى السلبي فحسب؛ بل بالمعنى الإيجابي غالبا، يقلدون ويتمثلون، قليلا أو كثيرا، شخصيات أخرى تناسبهم، محاولين إخفاء شخصياتهم وأهدافهم وأسرارهم ودوافعهم الحقيقية، بدءا من مظهرهم ومكياجهم وسلوكهم البسيط، مرورا بمشاعرهم الأصلية الحميمة المعقدة، وصولا إلى غاياتهم العميقة وأهدافهم الكبرى الخاصة بهم، لدرجة أن الناس كلهم، إن لم نقل جلهم، يحتاجون إلى طبيب نفسي، لذلك، قيل إن الحياة مسرح كبير وإن الناس محض ممثلين يقومون فيها بأدوارهم!) فهل ثمة فرق بين التمثيل في متاهات الحياة وفن التمثيل على خشبة المسرح؟
الإجابة هنا عند ضيفنا النجم اللبناني المتألق مؤخرا في الدراما اللبنانية (فادي أبي سمرا) فهو يؤكد أن نوع الإبداع الذى نؤمن به هو خلق وميلاد كائن جديد وهو شخص الممثل ممزوجا بالدور، إنها عملية تشبه ميلاد كائن بشرى جديد وإذا تتبعنا كل ما يحدث فى نفس الممثل خلال الفترة التى يعيشها فى دوره أقررنا بصحة ذللك؛ فكل صورة درامية وفنية يتم إبداعها على المسرح هى شئ فريد من نوعه ولا يمكن أن يتكرر، وذلك ما يحدث فى الطبيعة سواء بسواء ، ويأتي هذا عند (أبي سمرا) انطلاقا من أن لكل فن – كما نعلم – أداة وموضوع ومادة يستخدمها المبدع في إبداعه؛ وهى مستقلة عنه تماماً؛ فالريشة هى أداة فن الرسم، والألوان والزيوت والخيش مادته، أما فن النحت، فأداته المطرقة والإزميل والمبرد والقالب وغيرها من أدوات الحفر والتسوية، أما مادته فهي الحجر والخشب والصلصال والشمع، والقلم هو أداة الكتابة (قبل الكومبيوتر)، والمادة هى الحبر والأوراق.. وفي الموسيقى الآلة الموسيقية هي الأداة، والنوتة هى المادة…الخ
ونحن لا نستطيع طبعا – كما يعتقد أبي سمرا – استخدام أداة في مكان أخرى، كأن نعزف بالأزميل على العود، أو ننشر الخشب بقوس الكمان، وهذا ينطبق كذلك على المادة، فلكل فن مواد خاصة به ولا يمكن استخدامها في فن آخر، أما موضوع الفن فهو واحد في الفنون كلها، وهو الإنسان في همومه وشجونه وصراعه مع الطبيعة ومع أخيه الإنسان، لذا فيرى (فادي) أن فن التمثيل وحده هو الفن الذي يكون فيه جسد الممثل هو الأداة، وهو المادة، وهو الموضوع معا، هذه هى أولى خصائص فن التمثيل، كما أن هذا الفن يتميز عن باقي الفنون الأخرى، بأنه فن جماعي مركب، تحيط به وتخدمه فنون أخرى، وهو الفن الوحيد كذلك الذي يولد ويموت في كل عرض مسرحي، لأنه عرض حي (مباشر) ولأن أداء الممثل يتغير بين مرة وأخرى، كما أن الجمهور يتغير بدوره كل مرة.
يعني (فادي أبي سمرا) دائما وكأن كل مشهد يجسده مشهد ينبع من شيء جوهري جداً، في الصوت، في الشخصية التي يؤديها حين تلتقط نبرتها الداخلية، حجر زاوية عواطفها وما يعتمل فيها يأخذ في صقله، يصقل حجر الزاوية هذا ويطور الشخصية، وفي هذا يقول: أنا بصراحة أحببت التمثيل، جربت في الكشاف وكنت صغيرا مرة ومثلت مرة أو مرتين، كان يستهويني هذا الفن لكن ولا مرة أحسست أنني يمكن أن أحترفه إلى حين قلت لا، أريد أن أدرس المسرح وأدرس التمثيل وكان قراري أن أدخل إلى معهد الفنون الجميلة.
ولذا يرى (فادي أبي سمرا): (أن المسرح هو الركيزة الأساسية للتمثيل بشكل عام، وهو ما يمدك بالتمكن من الإحساس بالشخصية وأن يعيشها المؤدي ويصدقها هو نفسه قبل المشاهد، وإن اختلفت الأدوات بين الخشبة والشاشة)، ويضيف: (في المسرح على الممثل أن يرفع صوته ليصل لكل الناس، وحركة الجسم كبيرة وطاغية، لكن في التلفزيون والسينما يجب أن تفكر فيه، الإحساس هو نفسه ولكن يجب إسقاط كل الأدوات التعبيرية الأخرى والتغيير فيها، فلماذا أصرخ والميكروفون موزع بجسدي، هنا الناس تسمعنا وليس نحن من نُسمع الناس)، وقال: (إن السينما طبيعية وواقعية أكثر من التلفزيون، حيث يكون هناك أحياناً مبالغة)، وتابع: (لذلك عندما انتقلت من المسرح إلى السينما، ومن السينما إلى التلفزيون نقلت معي الأدوات السينمائية التي كانت طاغية في البداية على أدائي، والمخرجون الذين عملت معهم أخذوا وقتاً معي لأتمرن على طبيعة التمثيل الدرامي وكانوا يقولون لي أداؤك سينمائي كثيرا).
يستند (فادي أبي سمرا) في تعريفه للدراما إلى كتبت ودراسات، وربما مجلدات كثيرة عن الدراما؛ تعريفها، نشأتها، ماهيتها، وظيفتها، طبيعتها، بوصفها ركنا من أركان الحياة وسليقتها؛ قبل أن تكون حجر الأساس في فلسفة الفن والإبداع بأنواعه، بعضهم يقول ببساطة: إن الدراما هى المسرحية أو الدراما (بالإنجليزية) أو أي نوع من النصوص الأدبية التي تؤدى تمثيلا في المسرح أو السينما أو التلفزيون أو الإذاعة، وبعضهم يعدها مجموعة من الأحداث المتناقضة أو المأساوية المتلاحقة التي يعيشها فرد أو جماعة أو بلد، ويدعي آخرون أنها مفهوم جديد جاء على أنقاض التراجيديا والكوميديا الخالصتين، ونشأ في أواخر عصر النهضة والتنوير(فولتير، ديدرو، روسو) بعد أن تراجع قانون الوحدات الثلاث الأرسطي الصارم، على يد شكسبير ثم مولير وأمثالهما من المجددين، وجرى تحديثه في العصور اللاحقة (تشيخوف، إبسن، سترندبيرغ). كما بتنا نسمع في العصر الراهن مصطلحات مثل: شعر درامي، مسلسل درامي، لوحة درامية، موسيقى درامية، دراماتورج، منسق درامي… إلخ.
والآن، ماذا يعني هذا كله؟ هل التمثيل هو الدراما، أم فن الإتقان والمهارة والجمال، سواء كان فعلا أو أداء أو تقليدا أو تقمصا أو تجسيداً؟ والجواب عند (فادي أبي سمرا): نعم، هو ذلك كله، مثل أي فن آخر، يحتاج إلى المهارة الفنية والإتقان، لكن كي نميزه من بقية المهن الحرة التي تتوخى الإتقان وتعنى بالجمال، ولا تخلو من المهارة (النجارة والحدادة والسمكرة والخياطة والحلاقة)؛ فلا بد أن نضيف إليه المعنى (أو الغاية العليا لهذا الفن)، والمبنى (المقدرة على البحث، وإعادة خلق الشخصيات والنماذج البشرية)، بعيداً عن الابتذال والاستسهال والتقليد والتكرار الذي يعتبر آفة فن التمثيل بخاصة، وألد أعداء الإبداع بعامة، والذي يطلق عليه مصطلح (كليشيه – cliche) أو (ختم: كليشة) بالعربية الدارجة، كما تعني: (التقنية) بالفرنسية، والطابع أو القالب بالتركية، وكل ما له علاقة بالأقوال المأثورة والعبارات والأفكار والصيغ المبتذلة المكررة، وهي في المسرح لا تعني إلا شيئا واحدا هو: النمطية والاستنساخ الأعمى، إن لم نقل التنفيذ السهل للأفعال الصعبة، وهذا هو الفرق بين المهارة الفنية في الإبداع والمهارة التقنية في الحرفة.
إن أخطر شيء يمكن أن يواجه الممثل – بحسب مفهوم أبي سمرا – هو تجسيد الحالات المتكررة كثيرا في الحياة وفي الدراما، مثل: الاعتراف بالحب، الخوف، السرقة، التحية، الدهشة.. فكيف نحصن أنفسنا من الوقوع في (الكليشة) والتقليد، وكيف نبتكر تعبيرات جديدة لهذه المشاعر/ الأفعال؟ هذا هو سؤال الفن، ولذلك، يدعونا فن التمثيل إلى التفكير العميق الخلاق، بعيدا عن كل ما هو سهل ورقيع، واستنباط أو خلق حالات وأفكارا إبداعية جديدة، نابعة من الموقف والظرف المعطى، وطبيعة الشخصيات والأحداث الموجودة في النص؛ لا أن نختار المعروف والمستهلك لدينا ونقذفه في وجه المشاهد!
إن المدهش والممتع في الممثل المسرحي المجتهد (فادي أبي سمرا)، هو قدرته على عرض وإضافة أفعال بشرية، وتوليد مشاعر إنسانية محددة وواقعية بالتأكيد (سلوك/ فعل)، بواسطة مهاراته الفنية، وضمن ظرف حياتي معطى، ولأنه من الممثلين الموهوبين، فإنه يمتلك القدرة على فهم وخلق طبيعة بشرية حقيقية، وتوليد مشاعر وأحاسيس صادقة، وإعادة إنتاج شخصيات وأنماط إنسانية لا حدود لها؛ ينبشها من الحياة العادية، ومن خزانة الذاكرة الانفعالية، ويجسدها أمامنا، بإتقان ساحر، مضيفا إلى تلك النماذج البشرية التي نعرفها نموذجا جديدا): طبائع نموذجية، في ظروف نموذجية (كما عرف إنجلس الواقعية)، وهو ما ترجمه عمليا في مسرحياته التي قدمها على مدار رحلته الطويلة.
يعرف (فادي ابي سمرا) الذي ولد في بيروت، أنه واحد من أشهر الممثلين والمخرجين في لبنان، وقد حصل على الماجيستير في قسم الفنون المسرحية والذي ناله من الجامعة اللبنانية، وقد حصد العديد من الجوائز عن فيلمه الأول والذ صدر باسم (بيروت الغربية)، وكانت بداية مسيرته الفنية من خلال كتابته وتقديمه للعمل الفني (رسوم متحررة) والذي قد تم عرضه على قناة المستقبل، إضافة إلى مشاركته في العديد من الأعمال التلفزيونية، ومن أعماله المسرحية (جنينة الصنايع، في انتظار دوغو، أباجور) لكن الظروف الصعبة التي يعيشها المسرح والسينما دفعته نحو التلفزيون، ومع أنه غير نادم على وجوده على الشاشة الصغيرة وسعيد بالجماهيرية التي منحته إياها، لكن عشقه للمسرح والسينما ثابت، حتى أنه يراهن على نجوميته التلفزيونية التي يرى أنها سترافقه كما جمهورها إلى هذين القطاعين عندما يستعيدان عافيتهما، ومن أفلامه (بيروت الغربية، باب الشمس، طالع نازل، دخان بلا نار، والوادي، لمياء خوندة، وأخيرا في فيلم (بيروت هولدم).
عهدناه ممثلا بارعا في السينما وعلى خشبة المسرح، لكنه فاجأنا بعد تجاربه المسرحية لأكثر من ربع قرن بظهوره القوي والمميز على الشاشة الصغيرة في مسلسل (نص يوم) ومن بعده أبهرنا أكثر فأكثر بأدائه المبدع في مسلسل (الهيبة – العودة) إنه (هولو) كما أصبح الناس ينادونه بعد مشاركته الدرامية في (الهيبة) حتى أصبح اسم يتردد على مسامع جميع من شاهدوا هذا المسلسل، نظرا لما تحمله الشخصية التي يجسدها من حقد وشر وضغينة، ولدوره المحوري وحضوره القوي والمميز في العمل، (أبي سمرا) تقمص دوره في الهيبة لدرجة أن المشاهدين لم يكتشفوا أنه الممثل نفسه الذي جسد دور المحقق (نزار) في مسلسل (نص يوم) وعلى الرغم من كره متابعي المسلسل لشخصية (هولو) إلا أنه كان يتلقى المئات من الرسائل التي تشيد بما يقدمه في العمل وهذا دليل كاف على مدى نجاحه في تقمص الشخصية وتقدير الناس لقدراته التمثيلية.
ولأن (فادي أبي سمرا) من المعحبين بالأساس بـ (عادل أدهم) الذي يعتبره من الممثلين الذين أُحبهم وأُحب طلته، وكذلك الرائع (توفيق الدقن)، ولذلك فكل هؤلاء لا أقول أنهم لم يكونوا في بالي، كانوا في بالي زائد في الحياة أنا اختبرت ورأيت الكثير، زائد عدد الأدوار التي أديناها وخلافه، وبالتالي بنيت هذه الشخصية لـ (هولو) في هذا المسلسل (الهيبة) بهذه النفسية، من هذه الذاكرة، من هذه العلاقات التي أقمتها وبنيتها على امتداد سنوات طويلة، زائد من خبرتي في المسرح وأنا اشتغلت طويلا في المسرح وفي عدة أدوار فبالتالي كل هذه الأشياء مهدت لتجسيد (هولو) على هذا النحو.
في كل مرة يطل فيها الممثل (فادي أبي سمرا) في عمل درامي يسرق انتباه المشاهد تلقائيا بحضوره وأدائه المميزين، ورغم أن غالبية أدواره تنبع من شخصية الرجل الشرير أو القاسي، فإن ذلك لا يسرق من وهجه كممثل، فمتابع أي عمل يشارك فيه ينتظره بحماس كي يستمتع بحضوره الأخاذ، وكما في (2020، صالون زهرة، للموت، باب الجحيم، شتي يا بيروت، وأخيرا في (من .. إلى)، فإن (فادي أبي سمرا) تقمص شخصية الشرير والرجل العنيف والنصاب بأسلوبه الخاص، أعطى لكل شخصية سمتها الخاصة وقولبها على طريقته، فاختلفت أدوات الشر في كل منها، ولعله في دور خليل العسل في مسلسل (من .. إلى) يجسد دور رجل عصابات يتعامل مع الناس بفضل سلطة بناها لنفسه من المال والسلاح.
وفي النهاية لابد لي من تحية تقدير واحترام للنجم اللبناني المتألق (فادي أبي سمرا)، صاحب المسيرة التمثيلية الحافلة بالأدوار المميزة واللافتة لكنها قد تكون، أي الشخصية، الأكثر شهرة وانتشارا بالمعنى الجماهيري العريض، ابن المسرح هو، الخشبة ملعبه الواسع الأثير، أدى على منصة العروض أدوارا وشخصيات حفرت في ذاكرة المتفرجين ولاقت استحسان النقاد والمهتمين وكذلك حاله مع السينما الجادة التي نجح في أن يكون واحدا من وجوهها المتميزة الدائِمة، واسما مطلوبا من المنتجين والمخرجين لبراعته في بناء الشخصيات وفي أدائها، فهو الفنان الطالع من جوف الحروب اللبنانية وأهوالها، وابن الجيل الذي ذاق المرارات قبل أوانها علمته الحياة أضعاف ما تعلمنا إياه الجامعات والكتب، وهو انعكس على كافة أعماله خاصة في الدراما التلفزيونية التي تألق فيها مؤخرا.