بقلم الناقدة السينمائية : ناهد صلاح
رائع جدًا أن تجلس وأنت تنظر إلى كل هذا العبث المحيط بك، متحديًا، ناقمًا وربما محذرًا، ثم ترتاح ملامحك وتصبح في النهاية ساخرًا ولعلك أيضًا مبشرًا، وأنت تبتسم كما لو أن كل شيء أصبح على ما يرام، أو كأنك أنقذت عصفورًا قبل أن تسحقه دبابة، وتقول: (جميلة جدًا كل هذه الفانتازيا)!
هذا بالضبط ما يحدث لي حين أعاود مشاهدة فيلم (يد إلهية) للمخرج الفلسطيني (إيليا سليمان)، الفائز بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان السينمائي عام 2002، ليس لأنه فيلم كما إنتاج مخرجه عمومًا، مثير للفرجة والتأمل، لكن لأن مساحة العبثية فيه محفزة على التماهي معه، بقدر مرواغته والتداخل المخاتل بين المأساة والملهاة، الرصانة والهزل، حيث تزيد الإشارات الرمزية لترسم صور للحياة المعلقة بين سماء وأرض فلسطين، بحرفية لعبة الأكروبات وجرأة اللعب في خضم الاحتلال والواقع الفلسطيني الذي يفيض بالمفارقات الساخرة.
رائعة قصة الحب فيه وتفاصيلها التي تتجاوز فكرة الطيش أو الحكمة، حين يفلت أطرافها من حواجز مأساتهم والعدو الذي حوّل الوطن إلى منفى، فالكل محاصر خلف الحواجز في ظل احتلال مجنون، حتى الحب محاصر في حدود سيارة لا يمكنها العبور، بينما ينجح في ذلك بالون عليه صورة ياسر عرفات، تنهمر عليه رصاصات الجنود الإسرائيليين، لكنها السماء وما أوسعها، يطير فيها البالون حتى يستقر في سلام على قبة الصخرة.
الحب يتسرب بهذا الحس الساخر متتبعًا جملة على قصاصة ورق تقول: (أنا مجنون عشان بحبك)، إنه جنون المجروحين الذين ليس أمامهم سوى باب واحد للفرار، هذا الباب كما اختاره الفيلم هو التهكم والضحك بمكر على واقع هو في حد ذاته أمثولة مُركزة للعبث.
يمضي (إيليا سليمان) في براري هذا الواقع بخفة لاعب يهبط ويصعد بجمهوره للوصول إلى نقطة معينة، توضح المعاناة التي يعيشها الفلسطيني كمتأمل متمهل، ينقل من تجارب الحياة اليومية والعادية ما يثير الفضول، ويعتبر نقطة الانطلاق لتأملات لا تنتهي بقدر كبير من الرهافة والرمزية، كأنه استكشاف سينمائي لحياته في بلده، وناسه الذين تحولوا إلى جزر منعزلة، مثل واقعهم الجغرافى والسياسى الحافل بدلالات تمنح الفيلم عمقًا، لا يضاهيه سوى نزعته العبثية التي تفجر ضحكات مبللة بالدموع، بما يدفع المتفرج للنظر بطريقة مختلفة نحو كل ما اعتبره من قبل أمرُا مفروغُا منه، ذلك عبر مشاهد خلت تقريبًا من الحوار، فبدا المخرج وهو كاتب السيناريو أيضًا أنه لا يفاوض على فكرته بالكلام، أو كما قال في أحد حواراته الصحفية: (لا أحب الحوارات الكثيرة، وأسعى دائمًا إلى محاربة الثرثرة).
للصمت أبعاد أخرى بالفعل في هذا الفيلم السريالي الذي يتناول الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي بطريقة غير نمطية، إنه ليس صمتًا حتى الخرس، بل هو صمت له حدود، نفهمه ونراه مُسيّسًا وفيه احتجاج وغضب وحزن، إنه مقصود وله إيقاعه كأنفاس ودبيب أقدام شخوص الفيلم، وحتى نظراتهم وحركة أعينهم.. صمت خادع ومسرف في جماليته، تضيق وتتسع مساحته حسب منحدر الحكاية، فيأت كل مشهد بمزاج واستقلالية ليحفز مخيلة المتفرج ويعده ليكتشف الألم مع الضحكة، ثم يتهكم مع بطله الصامت (يجسده إيليا سليمان) وقد يتفاعل معه بنفس التعبير الكوميدي الذي يرتسم على وجهه نحو كل ما يدور حوله.
في مشهد كأنه وحي من مقطع في قصيدة (الأرض) لمحمود درويش، يلتهم بطل الفيلم حبة مشمش، بينما يقود سيارته في صمت وينظر أمامه بوجه جامد لا يكشف عما يختلج بصدره أو عقله، ثم يلقى ببذرة المشمش من نافذة سيارته فتنسف دبابة العدو التي تجاوزها توًا، إذ ظل المشهد صامتًا حتى امتلأ بصوت انفجار الدبابة، يكاد صوت (محمود درويش) يتسلل في هذه اللحظة (لم يستخدمه الفيلم) على خلفية المشهد الذي تشتعل فيه الدبابة فيما يواصل بطل الفيلم الشاب الفلسطيني مسيره، مكملًا طريقه بكل هدوء نحو المستشفى لزيارة أبيه المريض: (أسمّى ضلوعى شجر / وأستلّ من تينة الصدر غصناً / وأقذفة كالحجر / وأنسف دبّابة الفاتحين).
يزخر الفيلم، وهو واحد من ثلاثية مخرجه: (سجل اختفاء، يد إلهية، الزمن الباقي)، بمشاهد تقتفي الأثر الإنساني بين الحلم والسراب في مدينته (الناصرة)، المدينة الزاخرة بذكريات تتشتت على قارعة الجغرافيا والتاريخ، ليسجل التقاطع بين الألم والأمل في قصة حب بين شاب فلسطيني من سكان الأراضي الفلسطينية 1948، وفتاة فلسطينية من سكان الضفة، يلتقيان في سيارة على حاجز إسرائيلي، يراقبان التفاصيل الموجعة ورزالة يمارسها الاسرائيليون على الفلسطينيين، حيث يتعمدون إهانتهم وإذلالهم على نقاط تفتيش الاحتلال الإسرائيلية، ولأن الحبيبان يعيشان في مناطق مختلفة، فإنه يصعب تلاقيهما، لذا يقفان يوميًا عند نقطة العبور الإسرائيلية، ويقضيان ساعات طويلة تتشابك فيها أيديهما ويواصلان متابعة ما يحدث عند الحاجز، وفي لقطة مدهشة تخرج فتاة من السيارة وتتخطى الجنود الذين يشهرون بنادقهم نحوها دون أن يطلقوا الرصاص، في اللحظة التي ينهار فيها برج المراقبة.
كما يظهر في مشهده الأول رجل في ثياب (سانتا كلوز) مطعونًا في صدره، هاربًا من صغار يلاحقونه بصندوق هداياه التي تتساقط وتتناثر خلفه لما يهرع إلى الجبل، كأن هذا الرجل الـ (سانتا كلوز) هو تجسيد رمزي لمدينته الناصرة المطعونة بالاحتلال، يأت عليها العيد ولكن بأي حال عاد في مدينة تحت وطأة احتلال.
من هنا يبدأ (إيليا سليمان) خطه التهكمي الذي يبرز علاقته بالمكان حيث نشأ: المنزل، الحارة، المحيط الاجتماعي..إلخ، وهى علاقة ممتدة في أفلامه، فنلحظ رجلًا (والد البطل) يقود سيارته خارجًا من حيه، يقابل جيرانه بموجة من الابتسامات ويشير لهم بالتحية بينما هو يلعنهم ويسبهم، وهم يردون له التحية بحفاوة معتقدين أنه يلقي عليهم التحية والسلام، إنه يحييهم بالفعل لكن على طريقته كرجل محتقن ومخنوق، وفي مشهد آخر حين يلتقي الحبيبان على الحاجز الإسرائيلي، تدخل الفتاة السيارة ويقوم الشاب العاشق برسم صورة (ياسر عرفات) على بالون أحمر يُطيرّه من سقف سيارته، استطاع عرفات على البالون الأحمر الإفلات من حاجز المحتل وطلقات الجنود، ودخول القدس والطواف بكنائسها ومساجدها حتى يستقر على قبة الصخرة، في اللحظة التي استطاع البطل وحبيبتُه أن يجتازا الحاجز في ظل كركبة وتوتر الجنود الإسرائيليين وهم ينظرون إلى بالون ياسر عرفات بفزع.
بين المشهدين، تتدرج الأحداث كاشفة الأحوال، صانعة لكوميديا ممسوسة بالحزن، وهذا ما يستعرضه عبر صغيرة تشكل نبض بلد ناسه متعبون، كما والد البطل الذي تنهار صحته بعد مشكلات في عمله، تصيبه بأزمة قلبية ليموت بعدها، إلى هذا الرجل الذي غرز سكينه في كرة طارت إلى سطح منزله، كانت لصبي صغير يلعب بها في الحارة، أو هذا الجار الذي يرمي القمامة على الجيران، فتعيد له الجارة هذه القمامة، فيؤنبها الرجل ويلومها لأنها لم تتحاور معه، بدلاُ من لجوئها إلى العنف ورد القمامة إليه، ويدور بينهما هذا الحوار فائق السخرية:
– جارتنا ليش بترمي زبالتك على ساحتنا مش عيب؟
– آه جارنا ماهي زبالتنا اللي برميها على ساحتكو هى زبالتكم اللي بترموها على حاكورتنا.
– طيب وإذا، برضه عيب. ماهو يعني لازم الجار يحترم جاره، ليش ما فاتحتينا بالأول مش عشان هيك الله أعطانا لسانات؟.
يوميات فلسطينية تختلط فيها العواطف والانفعالات، بوطأة الواقع الصعب والغطرسة البشرية في ظل احتلال لا تنتهي معه الحرب، نسق يتبعه مسار الفيلم، فتمضي القصص الصغيرة في دهاليز الحكاية الكبيرة، لتترك حكمتها الرئيسية وهي أن هذه الأرض لأصحابها الأصليين وهم الفلسطينيين، نلمس ذلك بوضوح عندما تمر سائحة بسيارة شرطة إسرائيلية في أحد شوارع القدس، وتسأل الشرطي عن عنوان بعض الأماكن المقدسة والأثرية، لكنه يعجز عن مساعدتها، ثم يُخرج من الباب الخلفي للسيارة شابًا فلسطينيًا معتقلاً، فيدلها وهو معصوب العينين على ثلاثة طرق تستطيع بها أن تصل للعنوان الذي تريده، وفي مشهد لاحق في الفيلم تعود السائحة مرة أخرى للجندي وتسأله عن عنوان آخر، فيعجز مرة أخرى عن إجابتها، لكنه هذه المرة حين يذهب ليجلب مُعتقله الفلسطيني، فإنه لا يجده.. لقد هرب!
أما المشهد الذي يمنح الحكاية بعدها الأسطوري، فهو للفدائية الفلسطينية التي تظهر مقنعة بالشال الذي يرمز لوطنها، فتتحدى الإسرائيليين الذين يتدربون على الرماية، تتراءى لهم على الأهداف الخشبية التي يتدربون عليها، يندهش الرماة لرؤية المرأة تتجسد أمامهم، ولا يستطيعون إصابتها أو إسقاطها، تدور بينهم وتتحول إلى فتاة (نينجا) تقصفهم ببضعة أسهم صغيرة وترد الرصاصات التي يطلقونها عليها، لتتحول إلى ما يشبه تاج الشوك حول رأسها، ثم يظهر جسدها مصلوبًا كما المسيح الذي خرج من هذه الأرض، في لقطة تختصر المشهد كله وتخبرنا أن هذه الأرض لأهلها الذي خرج من بينهم المسيح، وليس لهؤلاء الذين سرقوها وجعلوا من أهلها مسيحًا مصلوبًا.
وإن بدا المشهد خارج مسار الفيلم الصامت في أغلبه، بما فيه من انفعال وحركة وضجيج وجرافيك وتقنيات كمبيوتر، لكنه يكمل نهج الكتابة الحرة، وفكرة الفيلم ومشهديته التي ترتكز على الفانتازيا، ومن خلالها يتشكل علم فلسطين في المشهد، وتستخدم فتاة (النينجا) الدرع الحديدي على شكل خريطة فلسطين، لتُفجر به طائرة هليوكوبتر، ثم تسحب بكوفيتها المدفع الرشاش من القائد الإسرائيلي.
على طريقة إذا كان لابد من فيلم، فليكن كامل الخيال ويأتلف مع حس مخرجه بمدى هذا الخيال وجماله، جاء هذا الفيلم بكل غرائبيته: (سانتا كلوز) المطعون، فتاة (نينجا) تطير وتعبر الحواجز، عرفات يدخل القدس على بالون أحمر، بذرة مشمش تنسف دبابة، حبيبان تشهد متاريس العدو على حبهما.. كلها مشاهد تغلب عليها جمالية فنية غارقة إلى حد كبير في نزعتها الشكلية، كما تعكس المضمون الذي يبدو مثل (نكتة) لاذعة، فعلها (إيليا سليمان) معتمدًا على المفاجأة الدرامية، بحيث لا يستطيع المتفرج التنبوء بشيء.