كتب : محمد حبوشة
تشهد البشرية اليوم أكثر من أي وقت مضى كثيرا من مظاهر السقوط على كل المستويات، وتراجع في قيم ومكتسبات فلسفية كثيرة، وقد أصبحت تطبيقاتها القانونية والأخلاقية والسياسية، اليوم في محل اختبار حقيقي أمام موجات التافهين الذين أصبحوا مسيطرين على قمرة القيادة، ودفة السفينة البشرية المعاصرة، ولقد غدت تجليات مثل هذه النظرية واقعا، لا على مستوى النخبة السياسية الحاكمة فحسب، بل أصابت حتى المجال العام فنيا وأدبيا وثقافيا وذوقيا، فغابت كل الأفكار والقيم الجميلة، والإبداعات الإنسانية فكرا وفلسفة وقانونا وأخلاقا وفنا، واكتظ المشهد العام بهبوط مريب للقيم الإنسانية النبيلة والخلاقة، لتحل محلها كل رداءة وسقوط في كل شيء.
هذا ما يتجلى اليوم في كل شيء أمامنا، وفي كل تفاصيل المشهد من حولنا، فقط ما عليكم سوى أن تجيلوا النظر من حولكم، وتلمحوا التفاهات التي تحاصرنا، وفي كل شيء نلمحه ويجول من حولنا، فأصبح الإنسان سلعة رخيصة الثمن، في زمن التفاهة والانحطاط، وتكاد تتلاشى القيم النبيلة في عالمنا اليوم، وفي القلب من عاصفة التفاهة الراهنة يقع العرب، ويقدمون أنفسهم وذواتهم وحاضرهم ومستقبلهم بأحط أنواع التفاهات والانحطاط، من ضياع وانهيار دولهم الوطنية، حتى موت قيمهم العروبية والإنسانية تجاه بعضهم بعضا، وتجاه ذواتهم ومصالحهم، ففي عصر التفاهة لم يعد أحد يفرق بين مصلحته ونقيضها، فالكل يعمل ضدا حتى لمصالحه الخاصة، في ظل شيوع حالة السطحية والتفاهة الحاكمة للأفكار والأذواق والأنساق والأنماط المعاصرة للتفكير والقرار.
بينما البلد على حافة الانهيار، غارقة في أزمة اقتصادية حادة وضائقة معيشية تضيق كل يوم، وأسعار فاحشة وكل فرد أو مسئول (شغال على كيفه)، وسط ظلام دامس في أفق المستقبل القريب، وحرائق وغرق وتلال من الأوساخ تتكدس بها شوارع المحروسة في لامبالاة صارخة بفحش المنظر ورداءة الصورة، يخرج علينا المدعو (محمد رمضان) كل يوم بقصة جديدة غاية في الفحش والتحدي، وآخرها تارة في أحضان فتاة إسرائيلية يدعي عدم معرفته بها، وتارة أخرى يذهب في سخريته القميئة من الفنانة الكبيرة والقديرة (سميرة عبد العزيز) في تحد سافر لكل القيم الإنسانية ولا أحد يردعه، فلا نقابة الفنانين تدين سلوكه القذر، ولا موقف حاسم من جانب شركة ترعاه – رغم أنفنا – تنظر في سوء سلوكه وتمنعه من بث سمومه في نفوس شبابنا في وضح النهار، ولست أدري من هو هذا المسئول الذي يدير ظهره لنا غير عابئ بـ (أسطورة العنف والتردي) التي تسقط من عمل لآخر في براثن الفشل.
في روايته الشهيرة يقول الفيلسوف والمفكر الكندي (ألان دونو): (لقد صار الشأن العام تقنية استهلاكية لا منظومة قيم ومبادئ ومفاهيم عليا.. واختلط مفهوم المصلحة العامة مع المصالح الخاصة للأفراد.. جامعات اليوم التي تمولها الشركات، صارت مصنعا للأجراء لا للمثقفين!.. حتى أن رئيس جامعة كبرى قال مرة: إن على العقول أن تتناسب مع حاجات الشركات!، لا مكان للعقل النقدي، كما قال رئيس إحدى الشبكات الإعلامية الضخمة إن وظيفته هي أن يبيع للمعلن الجزء المتوفر من عقول مشاهديه المستهلكين!)، والأسوأ أن التفاهة غيرت مفاهيم ومقاييس النجاح في حياتنا، فالنجاح أصبح يعني الشذوذ لا التميز، وصارت قاعدته الأولى هى أن تجيد (اللعبة).. لم يعد النجاح شأنا إنسانيا تحكمه الأخلاقيات بل هو مجرد (لعبة).. وقد راجت العبارة في كل لغات العالم حتى أصبحت قانونا يقول: (اللي تغلب به إلعب به!).
في فيلم (الكيف) يطلب (مزجنجي) الذي يصر على أن يكون مطربا رغم صوته الأجش، من أحد الشعراء أن يكتب له كلمات (تافهة) لأن الناس – بحسب زعمه – (عايزة تنسطل) حتى في الغناء.. ورغم نجاح الأغنية التافهة وجماهيريتها، إلا أنها علمتنا درسا مهما هى أن التفاهة تدمر الشعوب كما تدمرها المخدرات، وربما أكثر، وها هو (محمد رمضان) في غيبة من عقولنا يمتطى مسرح الغناء بصوته الأجش وملابسه العارية بعد أفسد الدراما التلفزيونية، ليثبت أن التفاهة ناتجة عن تشييئ الإنسان، وجعل المال الإله الوحيد الذي تتوحد حوله كل الديانات، والمعبود الأوحد الذي لا خلاف حول طريقة عبادته، بل لقد أصبح المال هو (العبد والمعبود والمعبد) على حد تعبير الشاعر الفلسطسيني الكبير (محمود درويش)، هذا الإله الجديد الذي قتل القيم ووقف شامخا على قبرها جعل كل شيء في خدمته، فماتت المهننة وحلت محلها الوظيفة والتوظيف، فالموظف مجرد أداة، والوظيفة مجرد وسيلة يمكن لأي القيام بها، فلم يعد مطلوبا من المدرس أن يكون كفئا، ومن إمام المسجد أن يكون حاملا فاهما لكتاب الله.
وقس على ذلك، فيكفيك شهادة ولو حصلت عليها بمال قذر، فقد تجد إنسانا حاصلا على الدكتوراه في الكهرباء ويستقدم تقنيا بسيطا لإصلاح عطل بسيط في بيته، ويكون آخر أميا لم يلتحق بمدرسة ويدير مكتبة يبيع الكتب ويوجه النشء لشراء كتب لا يعرف محتواها، وصيدلانيا لا يحرك وإلا بأوامر أو استشارة مستخدم له خبرة، وأمام تعدد الوظائف وتنوعها صار الحرفيون والمهنيون عملة نادرة، فقد تجد في أي مدينة من يؤدون وظيفة (المعلم، الأستاذ، الطبيب والمهندس النجار والصباغ والسباك)، ولكن قلما تجد الحرفي الذي يتقن عمله، باختصار لأن الوظيفة لا تتطلب الإتقان وإنها الهدف منها الأجر بعد أداء المهمة، فالأستاذ يمكن أن يعطي درسا في الفصل كما في البيت، المقهى أو داخل السيارة الأهم هو المقابل، على طريقة (رمضان) الذي يضيف رصيدا جديدا كل يوم في حسابه البنكي الذي يقوي شوكته ويزيده غرورا على غروره الأعمى.
إن تشيء الحياة العامة وتسليع الإنسان جعل التفاهة نظاما اقتصاديا وسياسيا جديدا، فلن ننتظر من المستقبل إلا مزيدا من التافهين في هرم السلطة والاقتصاد عندنا، وطبيعي أن تجد رئيس حكومة لا يفقه شيئا في البروتوكول، وتجد وزيرا لا يميز بين العدو والحليف، ويدلي بتصريحات ضد التوجه العالم للدولة التي يمثلها والتي تدفع له مقابل مهامه الدبلوماسية، – وهذا حادث في مصر الآن – وفي زمن التفاهة طبيعي أن يتم ضبط خطيب واعظ وعضو مجلس عالمي لعلماء المسلمين متلبسا في الخيانة الزوجية والفساد مثل المراهقين على شاطئ البحر مع واعظة لا تتوقف على توجيه النصائح للشباب وتدعو لغض الطرف والعفة وعدم الاختلاط بين الجنسين.
إنه زمن التفاهة يا سادة الذي حصر قاعدة النجاح في عنصرين لا ثالث لهما: المال وحسن التنكر داخل اللوبي المسيطر بتغيير اللون في الوقت المناسب، وهى أمور لا يمكن للمثقف أن يجيدها لأنه معروف بالالتزام وكونه لا يراوغ ولا يهادن ولا يستسلم، فقد ضحى مثقفون بحياتهم دفاعا عن أفكار خصومهم، ومنهم من قضى من أجل مبدأ يؤمن به، وكان التزحزح عنه قيد أنملة كاف ليجعله من أعيان اللوبي المسيطر، وبما أن المثقف كان ولا زال وسيظل شوكة في حلق التافهين، ومسمارا في نعلهم يعرقل سيرهم ويكشف عوراتهم، فقد تسللوا إلى قنوات نشر التفاهة (محطات إذاعية وتلفزيونية)، قنوات خاصة، وشبكات التواصل الاجتماعي) كما تسللوا إلى مختبر تفريخ المثقفين (المدارس، والجامعات)، وحولوها إلى معاهد مستعيضين عن المثقفين بالخبراء، كل همهم جعل الجامعة في خدمة السوق وجعل (العقول تتناسب وحاجات الشركات) وتخريج يد عاملة لا تعرف إلا الطاعة والولاء، ممنوعة من النقد واستخدام العقل، تعيش دون حس نقدي، صالحة لغرض معين لا تفقه شيئا خارج تخصصها، لا تثقن إلا استهلاك من ينتجه التافهون/ المؤثرون الاجتماعيون.
ولتحقيق كل تلك الأهداف كان لا بد من ضرب التعليم والمدرسة العمومية المواطنة، بقصر وظيفتها في إعادة الإنتاج وتخريج (التافهين)، من خلال نشر ثقافة صل بخط، اختر الجواب الصحيح، ضع علامة في المكان المناسب، وهى ثقافة تكرس التفاهة، تقتل التحليل والنقد وتنبذ الموسوعية وتنتج طبيبا في العيون لا يعرف شيئا عن أمراض الأذن، وطبيبا متخصصا في القلب لا يعرف أمراض الرئة، وأستاذا في الرياضيات أو الفيزياء لا يضبط اللغة ولا يفقه شيئا عن إبستمولوجية المواد التي يدرسها، نظام التفاهة وحده يجعل التافهين Les élèves médiocres في النهاية هم الفائزون، لأنهم يصلون بأي وسيلة، لا يعيرون القيم، فقد تأتيه فرصة لعميلة تهريب أو بيع مخدرات ولا يفوتها، ويبيض أموالها ويصبح بماله مؤثرا اجتماعيا، وسيد المجتمع يشتري أصوات الناخبين، ويرتقي أعلى درجات السلم الاجتماعي، فيما يكون مصير المتفوقين الذين واصلوا تعليمهم، متشبثين بمبادئهم وقيمهم العطالة والوقوف أمام ابواب التافهين يستجدون عملا.
ولأن (محمد رمضان) هو أحد أبرز صناع (أسطورة التفاهة) فعلي الدنيا السلام، ومن ثم يستحيل اليوم مواجهة التفاهة، وجهد ما يستطيع المثقف أن يصبن المفاهيم عسى يعيد إليها شيئا من ألقها ومعانيها الحقيقية، خاصة تلك المفاهيم التي تداس يوميا أمام أعيننا كالمواطن، الكرامة، المصلحة العامة، التضحية، الالتزام، وهى مفاهيم لا يمكن أن تنبث إلا في المؤسسة العمومية، وكاذب من يزعم زرعها في القطاع الخاص القائم على مبدأ الربح والخسارة، وإلا فما علينا إلا الاستعداد لأن يفعل بنا التافهون أمثال (رمضان، وبيكا وشاكوش) وغيرهم ما يريدون، وطموحات الربح لا حدود لها، فلن يكتفي التافهون بتعليب الزبائن لأن الأهم هو كم سيربحون من بيعهم، لأجل كل ذلك سيعف القارئ ما الذي تغير في المجتمع حتى أصبح ضعاف المستوى الثقافي/ التعليمي من المغنيين والرياضيين والفنانين والسياسيين في مراكز القرار يمثلون قدوة للشباب، وتم تهميش القدوة التقليدية المكونة من الأستاذ، الطبيب، المهندس ، الفقيه، الكاتب والمثقف.. فلا غرابة أن تصبح قدوتنا في زمن التفاهة من التافهين!.
ياراعي (رمضان وأمثاله) ألم يلفت نظرك أن الرئيس عبد الفتاح السيسي، بعد أن تأكدت علامات غضبه من سلوكيات هذا الأرعن عندما تساءل محمد (رمضان) عبر رسالة وجهها الممثل الشاب للسيسي يتساءل فيها عن أسباب عدم دعوة السيسي إلى لقائه كباقي الفنانين، وغاب رمضان الأعلى أجرا بين فناني مصر، عن لقاء السيسي بالفنانين والمثقفين؟!، وربما كان من أهم أسباب تجاهل الرئيس السيسي دعوة (رمضان) هو انتقاد أحد الشباب في لقاء شبابي معه لفيلم رمضان (عبده موتة)، متهما إياه بأنه سبب انتشار المخدرات والبلطجة بين الشباب في مصر، ومن هنا يبدو لي ولغيري أن تجاهل (السيسي) لرمضان رغم ظهوره في فيلم ترويجي للجيش، مع ما قدمه من تبرعات لصالح صندوق تحيا مصر وكذلك مستشفيات سرطان الأطفال، يأتي في إطار رفض سلوكياته، ومع ذلك هناك إصرار عنيد على فرضه في الدراما والغناء كفرض عين وشاهد على تحدي إرادة الشعب المصري لإعلاء قيم التفاهة !.. ارحمونا من (رمضان) وأمثاله من النماذج السلبية الذين يرسخون للتفاهة في هذا الزمن الردئ.