كتب : محمد حبوشة
لاشك أنه بعد نجاح تجربته العام الماضي في مسلسل (على صفيح ساخن)، حقق (سيف الدين سبيعي) هذا العام تفوقا كبيرا في نضج رؤيته الإخراجية، في مسلسل يمكن اعتباره أحد الأحصنة الرابحة في سباق الدراما السورية، التي تشهد هذا العام عودة قوية مع كم من الأعمال التي غالبا تتمحور حول ما بعد الحرب وما خلفته من تغيرات جذرية سواء في المجتمع والنفس البشرية، خاصة أن هذا العمل يأتي بعناصر متكاملة عبر بناء شخصيات درامية متصاعدة، وتفاصيل دقيقة تغوص في داخل النفس البشرية وما تمر به من تحولات نتيجة ظروف الماضي والحرب عبر شخصيات مركبة ومعقدة ومتناقضة ومنهكة، تحركها تأثيرات نفسية مختلطة بين الخير والشر والطموح، مع عنصر المفاجأة الذي يباغت المشاهد في كل حلقة.
تكشف تفاصيل المسلسل منذ الحلقة الأولى عن قصة يحاول فيها المولفان الربط بين ماضي وحاضر المجتمع السوري من خلال (حارة العطارين) المكان الذي تعود إليه جميع شخوص المسلسل، بدءا من المشهد التقديمي لكل حلقة المعنون بـ (قبل الخروج) لا (قبل النزوح) والتي يتبعها باستعارة لشذرات مقصوصة من كتب متنوعة صدرت جميعها في تواريخ مختلفة، ومن هذه الكتب على سبيل المثال لا الحصر كتاب (حوادث دمشق اليومية) للمؤرخ الشعبي أحمد البديري الحلاق، الذي يؤرخ لسبعينيات القرن الـ 18، وكذلك كتاب (الباشا والقضاة في دمشق) للكاتب محمد بن جمعة المقار، أو من الكتب المعاصرة نوعا ما، مثل استعارته شذرة من رواية (أعدائي) لممدوح عدوان، صاحب الجملة الشهيرة (الإعلام السوري يكذب حتى في النشرة الجوية)، أو جملة مقصوصة من ديوان (كورتاج) لإياد شاهين الديوان اليتيم الذي تركه شاهين قبل وفاته، وهى نوع من التشويق هدفه جذب الجمهور لمشاهدة المسلسل.
ربما ليست هناك أسباب معرفة هى التي جعلت من (مع وقف التنفيذ) واحدا من أبرز الأعمال الدرامية السورية للموسم الرمضاني الحالي، والذي يبدأ بمشهد افتتاحي تمنع فيه (أم هاشم/ صباح جزائري) أبناءها الثلاثة من قتل شقيقتهم عتاب (صفاء سلطان)، أو حتى مشهد التشهير بـ (فوزان فضل الله / عباس النوري) على يد (هاشم / فادي صبيح)، أو كما يقال باللغة العامية (التجريص)، على مرأى من الحارة وهو ينادي عليه بـ (القواد)، حتى نكاد نجد أنفسنا في حيرة عند البحث عن الأسباب التي تدفع بكتاب الدراما الاجتماعية إلى تكريس فكرة التسليع والتقليل من قيمة النساء في الأعمال المطروحة للجمهور، أعتقد أنها أيام قليلة تفصلنا عن تداول مقطع سيكون عنوانه مثلًا: (التشهير بالقواد فوزان)، الشرط الرئيسي لزيادة عدد المشاهدات.
أما القصة الثانية التي يقدمها (مع وقف التنفيذ)، فإنها تقوم على ثنائية الفساد – المخبرين، فساد المسوولين السياسيين الذين ربما لا نسمع عن سقوطهم إلا دراميا، وعلاقتهم بالمخبرين وسطاء الفساد، وهى عادة درجت بالعموم على تجميل الأجهزة الأمنية في أي عمل درامي وجهته الأسواق الخارجية، كما يذكرنا أيضا بقصة فساد المسوولين – الضباط الأفراد، بالإضافة إلى فوزان، المخبر البعثي الباحث عن أن يكون مختارا لـ (حارة العطارين)، بمسلسل (عناية مشددة) لعلي وجيه ويامن حجلي أنفسهم، لكن على عكس الأخير، فإن من التوابل المضافة إلى (مع وقف التنفيذ) قصة حليم (غسان مسعود)، شخصية الشيوعي المثقف المنتمي إلى معارضة الداخل لا الخارج، رجل ينتهي به المطاف بشرب كأس المصالحة الوطنية مع أحد الوزراء (محسن غازي).
وكذلك، فإن العمل يقدم أيضا صورة عن تحول الضباط الفاسدين إلى أدوات يستخدمها المسؤولون المتنفذون، من بينهم (جنان / سلاف فواخرجي) زوجة (أديب / فايز قزق)، مسؤول متنفذ يستخدم زوجته التي تستخدم بدورها الضابط الفاسد (محمد قنوع) ليقوم بمهام جمع الإتاوات من التجار بالعملة الصعبة، وطبعا ينظر إلى (قزق وفواخرجي) على أنهما يقدمان دورا رائعا، لكن أي روعة يتم تقديمها عندما تتعرض فواخرجي مرتين للضرب من زوجها، وهي عادة أصبحنا نراها بشكل متكرر في الدراما المحلية بشكل عام، والتي يبررها كتبتها بأنها جزء من الحبكة الدرامية للعمل، وأنها تعكس واقعا نعيشه يوميا، لكن أليس من مهام الفن قلب الواقع ومحاربته من أجل تحسينه نحو الأفضل؟.
كما يمكننا القول هنا، إن أعمال الدراما الاجتماعية السورية محليا أصبحت تعتمد على فكرة تبرير العنف تجاه النساء أولا، وتجاه الآخرين ثانيا، وهذا ما يؤسس لمقدمة عن صورة المجتمع المحلي بشكل عام، بما يتجاوز تبرير العنف بكل أشكاله سواء اللفظية أو الفعلية تجاه الجميع، لا المرأة فقط، وهو فعليا ما يذكرنا بالفكرة التي تقوم على أن العنف فطري في مجتمعنا المحلي، وأن ما يغذي هذا العنف التمسك بالتقاليد الموروثة التي يؤكد على صعوبة كبحها، ويتم في مقابلها تغييب وحجب أن الصورة أصبحت جزءا من التغيير الاجتماعي على مختلف الأصعدة سلبا كانت أم إيجابا.
واحد من أكثر الأمور إثارة للدهشة في رمضان الفائت هو استطاعة مسلسل (مع وقف التنفيذ) أن يؤكد لنا مجددا بأن علم النفس هو الأساس المحرك لكل تحركاتنا في هذه الدنيا، وهو ما يؤكد قول الكاتبة وعالمة النفس الأمريكية (باربرا دي أنجيليس) إن ما يسمح لنا كبشر بالبقاء نفسيا على قيد الحياة على الأرض بكل ألمها ومآسيها وتحدياتها هو الشعور بالهدف والمعنى؛ وبذا – وإن تعطل تنفيذ الكثير من الآمال وتأجلت العديد من الأحلام – فبمقدور حياتنا أن تستمر وفق الطريقة التي سنرسمها نحن ونختارها نحن في المكان والزمان المناسبين بعيداً عن التفاؤل أو اليأس المطلقين.
إن قانون الاحتمالات هو السائد في هذا المسلسل تماما كما الواقع المحتوي على نماذج بشرية فيها من الخير الكثير ومن الشر الكثير أيضا، لاملائكة ولاشياطين، الأكثر طيبة على الأرض المعمورة قد يرتكب خطأ يدمر به كل ما حوله ويؤذي أقرب الناس إليه دون وعي أو شعور؛ والأكثر شرا قد يتراجع في اللحظة الأخيرة عن جريمة كان بإمكانها أن تخلصه من نهاية وخيمة، فلسفة مميزة اتسم بها نص الكاتبين (يامن الحجلي وعلي وجيه) استندت على مراقبة حثيثة لخطوط حياتية من حولهما ترجمت بإخراج وتمثيل لم يشهدا سوى الإعجاب والثناء؛ الأمر الذي يدل على ارتفاع ذائقة المشاهدين وفهمهم العميق للرسائل الأخلاقية المقصود إيصالها في حلقات العمل.
ولعل واحدا من أهم مسببات النجاح هنا هو صناعة ملف الشخصيات بموضوعية وذكاء وصبر، ناهيك عن الاهتمام العالي بالتفاصيل فليس هناك حشو أو إطالة أو عشوائية أو لا منطقية؛ بل تم الاعتماد على وضع لبنات العمل حجرة حجرة وصولا إلى صرحٍ محكم لا مجال لإسقاطه أو خلخلته وهذا ما يحصل عادة عندما تجتمع مقومات الشغف والإبداع مع الضمير الحي الذي لا يرضى لعمل أن ينجز بلا إتقان، ومن الملفت بمكان النضوج الإخراجي للفنان سيف السبيعي الذي عمد إلى توظيف الكادرات والألوان والموسيقى بما يتماشى مع سير أحداث الحكاية فخرج لنا بتحفة درامية ستضاف إلى الأيقونات السورية التي أُنتجت في السنوات الأخيرة؛ ولم يكن لهذا الأمر أن ينجز بنجاح دون احتضان إنتاجي عالي المستوى جاء بتوقيع الرائدين (هلال أرناؤوط وأحمد الشيخ) واعتمد على السخاء المادي لنصرة الفن، وهو ما تحتاجه الدراما العربية بالعموم وتفتقده العديد من النصوص الفريدة المنتظرة في طابور القبول؛ ولأن الأعمال التلفزيونية هى حصيلة مجهود جماعي بالأساس لا بد أن نضيء على أداء الممثلين الذين تعاملوا مع الأدوار تماماً كما يتم التعامل مع لعبة البيسبول.
تبدأ كل حلقة من مسلسل (مع وقف التنفيذ) بـ (فلاش باك) أو – قبل الخروج من الحارة أو بعد الخروج – كأساس أو نقطة تحول لأبطال العمل، والحقيقة أن المسلسل مشغول بدقة ومهارة في اختيار أبطاله الذين يقدمون أداء طربيا – رغم سوداوية الأحداث الغارقة في الميلودراما والتراجيديا الإنسانية – إن صح القول، بدءا من (عباس النوري / فوزان) الذي يقدم أداء فريدا مع (أوصاف) التي تؤدي دورها الممثلة (حلا رجب)، بينما يبدع كعادته (فادي صبيح) بتلبس شخصية (هاشم) التي يجسدها ببراعة، وشكران مرتجي بوجهها الخالي من مستحضرات التجميل تقدم نموذج المرأة التقليدية التي تتفانى من أجل إرضاء زوجها وعائلتها، إضافة إلى القدير (فايز قزق)، مقدما الفساد والظلم والسيطرة بأسلوب كوميدي يضيف مزيداً من التألق لهذا العمل، وتسجل عودة قوية لسلاف فواخرجي التي تقدم دور (جنان العالم) بتناقضاتها وطموحها وتنازلها عن كل المبادئ في سبيل الوصول إلى السلطة، إذ أجادت في مرحلة ارتدائها الحجاب وبعد خلعها له وتحولها لأحد رموز الفساد.
يسجل العمل أيضا حضورا قويا للنجمة الممثلة متعددة المواهب (صفاء سلطان) التي تقدم دور المغنية (درة أو عتاب) التي هربت من عائلتها في الماضي، ويزيد من تكامل هذا العمل وجماليته حضور الفنان المبدع (غسان مسعود) بدور (حليم) الشيوعي القديم الذي يكتب روايته ويروي بعضا من فصولها بصوته الهادئ والآسر، وفي النهاية أفلح كل من سيف سبيعي وعلي وجيه ويامن حجيلي في كسب الرهان وتقديم دراما من طراز رفيع، تمثل الواقع السوري بكل تفاصيله في ما بعد الحرب.
في ثنايا الحلقات يبرز لنا أكثر من (ماستر سين) لكني أتوقف أمام المشهد الأخير الذي يلملم أطراف خيوط لعبة (مع وقف التنفيذ) في كادرات متفرقة تربط الأحداث في انسجام غير مخل، حيث يقف كل من (رولا/ سارة بركة، وجبران/ حسن دوبا) يتبادلا أطراف الحديث حول صيغة جديدة تنهي الخلافات مع والدهما (حليم) بينما تتلقى رولا مكالم تلفونية من حبيبها (رائد/ رولان زكريا) لترد بطريقة استنكارية : ألو ؟!
رائد : رولا فيني أشوفك؟
رولا ببرود : ليش؟
رائد : اشتقتلك كتير.
……………………..
تعود الكاميرا إللى بيت (حليم) لتعرض صورة طليقته (سناء/ نادين خوري) وهى مشغولة في الموبايل، بينما يجلب (حليم) زجاجة نبيت (واين أحمر) أرسلهما أصداقاء له في السويد قائلا: دول نبيتات جوني من السويد .. ناس كتير ظراف .. كل سنة بيعملوا حسابي في حصتي.
كادر أول : سناء : جاءوا في وقتهم في هالبردات .. طيبين كتير .. باين معتق.
حليم : كل شيء معتق بيبقى ظريف.
سناء تسأل عن ابتهما : شو وضعها رولا ؟
حليم : اليوم قالت لي صباح الخير .. سناء تعرفي دي فاتت في قضية مجنونة .. تخيلي معي لو احنا بحياة تانية .. والدنيا غير دنيا .. بس قاعدين قدام بعض نفس القاعدة .. وقولت لا تسافري .. خليك هون .. شو بتقولي.
تسرح (سناء) بخيالها دون أن تجيب!!
……………………..
كادر ثان : الكاميرا تنتقل إلى (عزام / يامن الحجلي، وبسمة / ريم كفارنة) حيث يقول (عزام) : تعرفي اليوم شو أكبر أحلامنا؟.
بسمة : لا والله مابعرف!!.
بعد أن يأخد عزام نفسا عميقا : نرجع لورا .. نرجع بسمة متل ما كنا .. اليوم عندي موعد كتير مهم .. يمكن يرجوني على شغلي .. لهيك باروح على الحلاق وأغير هالمنظر عشان يشوفوني هيك .. تروحي معي؟
تبتسم بسمة : على الحلاق بدك أكون معك؟
عزام : ايه على الحلاق بتكوني معي وبتعطيني رأيك.
……………………..
الكاميرا الآن في بيت (فوزان / عباس النوري) حيث يجلس مع ابنته (أوصاف / حلا رجب) التي تقول : أيفون عندي .. لسه في كارتونته ما فتحته .. ثم تنتفض : لا عمي أنا ما باشوف رجال بره البيت .. بدك تشوفني تيجي لهون .. بتزوني أنا والأهل .. يا ميت أهلا وسهلا .. بعدين أبي صعب كتير .. هههههه يا الله شو مهضوم .. مو معقول .. مو معقول.
ثم تقول بدلال بعد إشارات من أبيها : ليك سؤال : لا حسد ولا ضيقة عين .. بس هيك .. بعد الجديث والدردشة والفضول : سيارتك ملك؟ .. مبروكة تهريها بالهنا إن شاء الله .. أنا كمان عم افكر أجيب سيارة .. اهههه لا شو تسجلها باسمي .. ياه شو انك شهم وكريم .. لا أنا أصلا ما حدا مادي .. هيك شخصيتي .. اههههها.
……………………..
كادر ثالث : اللقطة قبل الأخيرة : (هاشم/ فادي صبيح) يطعم ابنته في فرح بعد عودته لبيته بينما يتسع الكادر ليشمل كافة أفراد العائلة في ظل عودة اخته (عتاب / صفاء سلطان إلى البيت الذي أبعدت عنه لسنوات طويلة.
……………………..
بينما الكادر الأخير يدخل (حليم / غسان مسعود) ليضع خطو النهاية التي ترصد تصالحه مع كافة الشخصيات والخروج بأهم رسائل المسلسل الملخصة للأحداث ومعبرة عن جوهر التراجيديا، حين يجلس على مكتبه ممسكا بالورقة والقلم ليكتب : إهداء إلى (أبو الشوق صديقه الذي فقد حياته على يد رجال الأمن الذين يتمتعون بقدر هائل من الفساد والجبروت.
حليم يجلس على مكتبة ليكتب : إلى أبو الشوق إلى أن نلتقي .. وبهذ يتم لملمة أطراف القصة كاملة في نهاية الحلقات التي اتسمت بالتشويق والإثارة في مسلسل خارج الإطار.