كتب : محمد حبوشة
شهدت الدورة الـ 75 من (مهرجان كان السينمائي الدولي)، والتي جرت فاعلياتها في الفترة من 17 إلى 28 مايو الماضي مشاركة فيلم (صبي من السماء) للمخرج ذو الأصول المصرية (طارق صالح)، والفيلم السويدي الجنسية شارك في المسابقة الرسمية للمهرجان، وهو ربما أثار جدلا كبيرا عقب عرضه، ليس في الأوساط الفنية العالمية، ولكن ربما في مصر خاصة وأن الفيلم يبدأ بموقف مثير للجدل وهو (وفاة شيخ الأزهر الإمام الأكبر أمام طلابه في جامعة الأزهر)، ويتناول الفيلم قصة شاب ريفي يدعى (آدم)، يعمل والده كصياد سمك، ويتلقى الشاب منحة للدراسة في جامعة الأزهر، وخلال أول يوم دراسي له يلتقي الطلاب الجدد بالإمام الأكبر، ولكن فجأة يموت شيخ الأزهر أمام طلابه، لتبدأ معركة أخرى بين مساعديه ومعاونيه ليرثوا منصبه الذي يمثل أعلى سلطة دينية إسلامية (سُنية) في العالم.
مخرج الفيلم يدعي قائلا: (لا أقدم فيلما عن الدين، ولكنني أطرح عملا يناقش صراع السلطة بين النخبتين السياسية والدينية في مصر، أرصد قسوة هذا الصراع، والستار الذي يختفي وراءه، ليقدم للعامة صورة مغايرة لما يحدث في الكواليس) – هكذا قال المخرج طارق صالح فيلمه الجديد في حوار مع موقع (سيني يوروبا) منذ عامين – وكان المخرج السويدي ذو الأصول المصرية قد حصل للتو على دعم انتاجي بقيمة 300 ألف يورو من مؤسسة (مومنتو فيلم انترناشيونال)، و(أرت سينما فرانس)، وهو ما يثير التساؤل حول الهدف والرسالة السلبية التي يرمي إليها الفيلم من سموم تقصد إثارة الفتن ورسم ملامح صراع لم يكن موجودا إلا على شاشة سينما العالم التي تستهدف مصر بالإساس بينما إعلامنا الوطني غارق في براثن العبث.
ففي الوقت الذي يفتح المخرج وهو المؤلف في ذات الوقت عملا شائكا حول دور السلطة الدينية في مصر وعلاقتها بالنخبة السياسية، وذلك بعد أن قدم من قبل فيلم (حادثة النيل هيلتون) من بطولة الممثل لبناني الأصل فارس فارس، والمصري محمد يسري، لم ألحظ قناة فضائية مصرية واحدة تناولت الفيلم وقامت بتحليله على المستوى الفني المغلف بوجهات نظر دينية متطرفة وسياسية هى أقرب للخيال من الواقع المعاش على أرض مصر في تلك المرحلة المفصلية من عمر وطن يعاني من تيارات فنية متطرفة تحاول تقديم صورة تعكس واقعا مزيفا بحبكة درامية تنتهج أسلوب لي عنق الحقيقة الواضحة لدولة تحارب الإرهاب نيابة عن العالم الذي يتشدق بحقوق الإنسان في كل مساعيه الخبيثة.
الفيلم من بطولة 3 ممثلين فلسطينيين الأصل وهم (توفيق برهوم، محمد بكري، مكرم خوري، والممثل اللبناني فارس فارس، والممثل المصري عمرو مسعد، والسوري شروان حاجي، والتركي يونس البايرك)، بالإضافة إلى الممثل التونسي (مهدي دهبي) الشهير بمسلسل (مسيح) من إنتاج نتفليكس.. تأمل الوضع جليا من خلال مخرج ينتمي لتيار ما يسمى بالسينما المستقلة بدعم أنتاجي من الغرب حيث لا يريد سوى خراب المحروسة، خاصة في ظل تعاون (طارق صالح) مع نفس فريق العمل الذي تعاون معه في فيلمه السابق، وهو مكون من مدير التصوير (بيير أيم)، والمونتير (ثيس شميدت)، ومصمم الإنتاج (روجر روزنبرج)، ومتخصص المؤثرات البصرية (بيتر هورث).
الغريب في الأمر أن عدد لا بأس به من السينمائيين المصريين أشادوا بالفيلم مثل المخرجان (عمرو سلامة ومحمد دياب)، وما أدراك ما هذين السينمائيين اللذين يمثلان طابورا خامسا في الفن المصري، على مستوى صناعة أفلام لا تحاكي الواقع بقدر ما تسيئ إلى جهود الدولة المصرية الحالية، وهما بالمناسبة يمثلان خلايا نائمة تنتهز الفرص كلما لاحت لها شركة انتاج غربية مريبة، فقد كتب الأول عبر حسابه على (فيسبوك): النهاردة تم اختيار فيلم المخرج المصري الأصل طارق صالح للمسابقة الرسمية في مهرجان كان السينمائي الدولي، وبكده نقدر نقول إن في آخر 7 دورات في مهرجان (كان) تقريبا ماعداش دورة من غير فيلم لمخرج مصري، لـ 6 مخرجين مختلفين. ماعرفش إمتى في تاريخ مصر كان في معدل شبه ده في الاحتفاء العالمي بالسينما المصرية.. لو الدولة والإعلام والجمهور دعموا السينما تخيلوا بقى كمان هنبقى فين؟!).
على مدى نحو ساعتين، تتوالى الأحداث التي أخرجها (طارق صالح) بين الأدلة الواهية والادعاءات الكاذبة، واستند المخرج إلى كلاسيكيات أفلام الإثارة في ديكور نادرا ما يتم اللجوء إليه، وهو عبارة عن مقاهٍ في القاهرة أُنشئت (على الطراز الأميركي) يلتقي فيها عناصر أمن الدولة والعملاء بالقرب من الجامعة، ولم يتمكن (طارق صالح) المولود في ستوكهولم لأم سويدية وأب مصري، والذي يؤكد أن وجوده في مصر (غير مرغوب فيه) منذ عرض فيلمه السابق، من التصوير في الجامعة المرموقة التي تضم مئات الآلاف من الطلاب، فلجأ إلى (مسجد السليمانية) في اسطنبول ذي الهندسة المعمارية والديكور المميزين.
بعد فيلمه الذي يعتبره – على حد تعبير – تشويقيا بارزا (حادث النيل هيلتون – إنتاج 2017)، الحائز جائزة لجنة التحكيم الكبرى في (مهرجان صندانس)، الذي يتحدث عن نظام شرطة عنيف وفاسد، غير صالح في فيلم (صبي من الجنة) في توجهه المريب، مركزا أكثر على الصراع الحاصل بين القوتين السياسية والدينية، ولكنه احتفظ بنظرته التي لا هوادة فيها عن مصر، وراودت المخرج فكرة الفيلم بعدما أعاد قراءة (اسم الوردة) وهي رواية للكاتب الإيطالي أومبيرتو إيكو تدور أحداثها في أحد الأديرة.
اذن نحن أمام أفكار متطرفة ولدت في رأس مخرج موتور حاول تلفيق أحداث على غرار ما حدث في أحد الأديرة الغربية بتناقضاتها المختلفة ليقوم بتطبيقها على مجتمع مسلم تسوده السماحة والسلام في توظيف تسعفي لأحداث وقعت على أرض مغايرة ومجتمع مختلف في أجل هدف واحد ووحيد وهو تشويه صورة المجتمع المسلم لمجرد فكرة فاسدة راودت خياله المريض، ما يؤكد ضرورة انتباهنا لمثل تلك النماذج السينمائية التخريبية التي تستهدف شبابا الطامح نحو فوضى الحرية الجديدة، خاصة في وقت نال الفيلم على إشادات نقدية من مواقع عالمية اتفقت على جرأته في حين أن عددا من النقاد لم ينل الفيلم إعجابهم عقب عرضه في مهرجان (كان)، وعلى رأسهم الناقد الفني طارق الشناوي، والذي وصف الفيلم في مقال له بالمراهقة الفكرية والسذاجة السياسية.
وعلى جانب آخر من العبث نذكر كيف استقبلت الصحافة الغربية الفيلم، خاصة وأنها تميل للاهتمام بهذه الأفلام التي نستدف مصر حاليا، فقد أشاد الناقد (بيتر ديبروج) من موقع Variety جرأة طارق صالح وكتب يقول: (يتناول الفيلم موضوعا لم يجرأ أحد على مناقشته من قبل، ولكن السيناريو ليس به ما يكفي من الإثارة الدرامية لتدعم تقلبات الأحداث)، وأضاف: (يحرص طارق على عدم الإساءة إلى الدين الإسلامي ويلوم الذين يسيئون استغلاله وتفسيره، وهى وجهة نظر جديدة ومختلفة عن وجهة نظر الصناع الغربيين المنحازة ضد الإسلام)، وكأنه هنا يعلمنا كيف تعبر السينما عن الواقع الحياتي في مصر الجديدة (فكرا وعلما وقيما جديدة) تأتي لمصلحة المواطن البسيط في المقام الأول والأخير.
بينما يرى الناقد (جوردان مينتزر)، من موقع THR، أن الفيلم كان يفضل أن يكون مسلسل قصير، وكتب قائلا: (الفيلم به كثير من الأحداث التي تدور في وقت واحد لدرجة أنه من الصعب تتبعها بأكملها عندما تحشرها في زمن قدره (ساعتين)، ولكنه يرى أن طارق صالح مخرج بارع وأشاد بمجهود مصمم الإنتاج روجر روزنبرج: (استخدم مواقع حقيقية وديكورات مصممة وتمكن من إظهار معالم المسجد الأزهر بشكل واقعي، ولست أدري عن أي واقعية يتحدث عنها هذا المعتوه غير الترويج لأفكار تدميرية تسكن خيال المرضي والنعاقين ذهنيا وفنيا، مثل وصف الناقد (دامون وايز) من موقع Deadline أسلوب المخرج بالذكاء والعصرية، وأكد أنه من الصعب ألا يلفت انتباه لجنة تحكيم المهرجان لهذا العام، وقال: (يعمل فيلم صالح على العديد من المستويات غير الاجتماعية والسياسية، حيث يقدم فيلم إثارة متطور للبالغين بينما يستكشف في نفس الوقت صراعات نفسية شديدة في العلاقة بين البطلين).
وياله من عبث آخر نطقت به الناقدة (إيمي سميث) من موقع NextBestPicture في قولها: (ليس من المفاجئ أن يحصل فيلم – ولد من الجنة – على رد فعل هائل، فهو بسيط ولكنه مؤثر ويجب أن تعتبروه أحد أهم أفلام المهرجان)، في وقت قال فيه المخرج المصري (أمير رمسيس) الذي حضر فعاليات المهرجان، وأكد خلال تصريحات صحافية له أن الفيلم ضعيف فنيا، ولا يستحق هذا الجدل المثار حوله، ولكن كل ما في الأمر أنه يتحدث عن الأزهر، وهنا نتساءل: لماذا حتى الآن لم تصدر مؤسسة (الأزهر) بيانا رسميا للتعليق على هذا الجدل المثار، وتوضيح موقفها منه، خصوصا بعد انتشار مطالبات بمنع عرض الفيلم ومحاكمة صناعه؟، وهو مايأتي في ظل أن الفيلم تعرض لانتقادات عديدة عبر مواقع التواصل الاجتماعي خلال الأيام الماضية، حيث اعتبره البعض محاولة لانتقاد نظام الحكم في مصر، وتشويه صورة علماء الأزهر الشريف، وإظهارهم في حالة تصارع على السلطة، مما يسيء إليهم وإلى الدين الإسلامي.
والسؤال الأخير الأجدر بالإجابة الآن: أين دور الإعلام المصري في التصدي لتلك الظواهر المسيئة لأكبر مؤسسة دينية (سنية) على مستوى العام؟!، ولماذا لا تتصدى قنواتنا الغارقة في الجهل والمرض لهذا الفيلم الجديد، الذي يكرس المخرج الخمسيني ميله لمعالجة التطورات التي تجري في بلده الأصلي، وتمسكه بالفيلم السياسي كقالب فني، يعبر فيه بطريقته عن مواقفه مما يدور في أحد أكبر الدول العربية، والتي تبقى ساحتها السياسية كما هو شأن غالبية البلدان العربية بالغة التعقيد؟، ويحاول في عمله هذا أن يفكك من الداخل، بأسلوب سينمائي بسيط، التأثير الخفي للسلطة على جامعة الأزهر والعمل على أن تكون باستمرار تحت رقابتها، لأنها مسألة مرتبطة بـ (الأمن القومي)، حسب أحد أبطال الفيلم، ولا يمكن لها أن تسمح بتعيين أشخاص على رأسها إلا بتزكية منها، أشخاص تثق بهم ولا يشكلون أي تهديد لمصالحها سواء بداخل الجامعة أو خارجها؟! .. نحن في انتظار ردود حاسمة وقوية على مثل تلك التجارب المشوهة التي تجاول بشق الأنفس أن تنال من جهود الدولة المصرية الحثيثية في سبيل تحسين حياة المواطن!!!.