يحيي العلمي يحكي : ليلة ظهور (رأفت الهجان) على سطوح وسط البلد
كتب : أحمد السماحي
من المسلسلات التى سكنت ذاكرة ووجدان الشعب المصري والعربي كله مسلسل (رأفت الهجان) الذي عرض في شهر رمضان، وحقق نجاحا ساحقا بأجزائه الثلاثة، ويدور حول ملحمة وطنية من ملفات المخابرات المصرية عن سيرة البطل المصري (رفعت علي سليمان الجمال) الذي تم زراعته داخل المجتمع الإسرائيلي للتجسس لصالح المخابرات المصرية، وكان له دور فعال في الإعداد لحرب أكتوبر، بدأ العمل على إنتاج أول جزء في عام 1987.
وفي منتصف التسعينات أصدر المخرج الشهير (يحيي العلمي) كتابه (أيام تليفزيونية)، وكان لابد أن تكون فى كتاب (العلمي) محطة أو وقفة لمسلسله الشهير (رأفت الهجان) الذي يعتبر أحد أيقونات دراما المخابرات المصرية، فيحكي قصة أغرب من الخيال، عندما وقع اختياره على إحدى العمارات القديمة في وسط البلد، وذهب للتصوير فيها، حيث قرأ في الأوراق أن الغرفة التى كان يسكنها (رأفت الهجان) عندما كان منتحلا لشخصية (ياكوف بنيامين حنانيا) هى فوق السطوح، لكن الأوراق ليس بها عنوان وليس بها وصف دقيق للغرفة أو السطح المحيط بها.
ووقع اختياره على غرفة فوق أحد السطوح من بين عدة غرف على السطح، دارت الكاميرا تصور (محمود عبدالعزيز) وقد صفف شعره على طريقة (ياكوف بنيامين حنانيا) وارتدى ملابسه القديمة وأحاط رقبته بالكوفيه الكاروهات المميزة، وقد أقبل من مدخل السطح متجها ناحية غرفته وكان البواب النوبي العجوز نائما على دكته الخشبية بجوار المدخل فلم يشأ أن يوقظه، خاصة وأنه لم يشعر بالحركة والضجة من حوله، ولكن ما أن مر بجواره (محمود عبدالعزيز) حتى انتبه الرجل بحكم العادة، فاعتدل في جلسته وتغلبت فطنة نجمنا الكبير للمفاجأة فأسرع يلقي عليه السلام وكانت المفاجأة أن رد عليه الرجل قائلا: أهلا يا خواجه.
وصلت عبارة (يا خواجه) إلى أذن العلمي فأثارت دهشته وسأل نفسه لماذا أطلق البواب على نجمنا الكبير هذا الوصف، لكنها كانت دهشة لحظة سرعان ما توارت خلف الاندماج في تصوير بقية اللقطات، خاصة وقد عاد البواب العجوز يواصل نومه تحت أشعة الشمس، وبينما (العلمي) وفريقه يواصلون التحضير للتصوير داخل الغرفة.
ويومها اقترب من (العلمي) النجم (محمود عبدالعزيز) وقال له : لقد وفقنا الله إلى اختيار هذا المكان، إنني أكاد أشعر أن هذا السطح مألوف لدي وأنني بالفعل أسكن فى هذه الغرفة، وأكثر من ذلك فإن شعوري بتقمصي شخصية (ياكوف) يتعاظم داخلي حتى كأنني أعرف هذا البواب العجوز ويعرفني منذ أمد طويل.
بدأ الجميع يألفوا المكان، وأصبح للمكان ملامح الزمان القديم، وحلقت فوقهم حالة الإيهام الفني مغلفة بالمصداقية فأصبحوا يعيشون واقع (رأفت الهجان) في شبابه وهو على أعتاب أسطورة البطولة، وطال بهم الوقت حتى كادت الشمس أن تغرب وراء الأفق، فاشتدت برودة الهواء وخفتت أشعة الشمس الدافئة فوق الركن الهادئ بجوار مدخل السطح فاستيقظ البواب النوبي العجوز، وسمعوا سعاله المتقطع ثم سمعوه يصفق بيده مناديا على ابنه الشاب الذي انشغل عنه، فلم يستجب لندائه فإذا به يقترب مستندا على عصاه التى طرق بها باب الغرفة في غضب، ثم اندفع داخلا ليجد أمامه مصابيح الإضاءة والكاميرا ومجموعة العاملين المنشغلين بالتصوير فصاح في غضب موجها حديثه إلى ابنه قائلا: إيه ده.. إيه اللي بيحصل هنا؟، مين الناس دي يا أسماعيل، أجاب إسماعيل باعتذار وتوقير: ده التليفزيون يا والدي والناس الطيبين دول بيصوروا تمثيلية.
ثار الرجل ثورة عارمة حتى خاف (العلمي) أن يضرب ابنه بعصاه وهو يصيح: (ما شاء الله ناقص الطبل والزمر وغازية تهز وسطها، ثم توجه بحديثه إلي فريق العمل: كفاية مسخرة واتفضل منك له بره الأوضة)، أشار (إسماعيل) لفريق العمل بألا يتدخلوا واقترب من والده يشرح له الأمر فقال له: (الجماعة استأذنوا يا والدي وكمان دافعين أجرة)، ازداد غضب الأب وهو ينهر ابنه الشاب، قائلا: (ومين قالك اني بأجر فرشتي؟!).
فى هذا الوقت لم يجد (العلمي) مناصا من التدخل لتهدئة الرجل فاقترب منه وعرفه بنفسه وطلب منه أن يحدثه على انفراد، وبعد محاولات للإقناع وافق وأخذه البواب إلى حيث مجلسه بجوار مدخل السطح، فشرع (العلمي) يثير فيه نخوة الكرم قائلا: اعتبرنا ضيوفك يا عم الحاج، فقال له: أهلا وسهلا بس أفهم إيه الحكاية!
وشرح له الأمر بكل الصدق والوضوح وختمه قائلا: وهكذا فنحن تخيرنا غرفتك الخاصة لتكون الغرفة التى يسكنها بطل التمثيلية أيام شبابه فى الخمسينات، سكت الرجل فجأة وطال سكوته ورأه (العلمي) ينظر بعينيه إلى بعيد وكأنه يسترجع ذكرياته ثم همس بصوت هادئ قائلا: أنت بتقول ان خواجه يهودي كان ساكن في الأوضة دي؟ أجابه المخرج الشهير: نعم، وكانت دهشته بالغة حين سمع البواب يقول: طب أنا حقولك حاجة مش حتصدقها.
سكت العلمي وانتظر مزيدا من المفاجآت بينما أكمل الرجل قائلا: سنة 1954 كان فيه فعلا خواجه يهودي ساكن في الأوضة دي، فصرخ العلمي قائلا: ياالله سنة 1954 إنها بالفعل نفس السنة التى كان يسكن فيها (رأفت الهجان) أو (ياكوف بنيامين حنانيا) بغرفة فوق السطوح؟، سألني الرجل : هل يمكنك أن تذكر لي اسم هذا الخواجة؟.. ألهم الله (العلمي) ألا يجيبه وكأنما شعر أن الاجابة سوف تأتي على لسانه هو فسأله العلمي: هل يمكنك أن تذكر لي اسم هذا الخواجة الشاب الذي كان يسكن غرفتك سنة 1954؟!، مد الرجل كفه المعروق يتحسس جبينه كأنه يحث ذاكرته لكي تسعفه بالإجابة، ثم ألقى بمفاجأته الكبرى حين قال: أيوه افتكرت كان اسمه الخواجة (ياكوف) .
زغردت الفرحة في صدر (العلمي) وقال للرجل : فاكر بقية اسمه؟ فقال البواب طبعا : (ياكوف بنيامين حنانيا) أصل البوليس جه في يوم قبض عليه، وعرفنا بعد كده أنه هاجر لإسرائيل، قال (العلمي) فى نفسه: يا بركة دعاء الوالدين، أن مشهد القبض على (ياكوف) هو نفس المشهد الذي نوشك أن نصوره فى هذه اللحظة، أطلق الرجل صاعقته الأخيرة حين قال: وكان بيجي يزوره دائما راجل أمير وكريم، الظاهر انه كان بيساعده على (المعايش).
وقبل أن يسأل (العلمي) لوح البواب بعصاه في فرحة حقيقية ربما لأنه تذكر اسم الرجل فصاح كالطفل: افتكرته كان اسمه (محسن بيه)!، هنا اكتملت عناصر الأسطورة حيث تلاقت الخيوط وانفتح الكنز وانهمرت على (العلمي، ومحمود عبد العزيز، ويوسف شعبان) براهين الحقيقة ووصل إليهم من البطولة شعاع من البركة.
أي سر فى هذا البطل الذي شأوا أن يخلدوه وشاءت الأقدار لصدق وطنيته أن يتحول الإيهام إلى واقع حقيقي، وأن تؤكد الوطنية صدق الحدس.