بقلم الدكتور : ثروت الخرباوي
هل أتاك نبأ النقشبندي؟ لا أظنه قد أتاك، ففي المقال السابق انتهيت من الكتابة عن عبقرية النقشبندي، ولكنني لم أقل شيئا عنه، وعلى كثرة ما كُتب عن النقشبندي، وما قيل عن تفرده ونبوغ صوته إلا أن أحدا لم يُحط بما وهبه الله له من ذخائر ونفائس روحية، قبل أن يهبه تلك الحنجرة النفيسة، فما كان لهذا الصوت أن ينطلق بغير أن يكون شفيف الروح نقي الوجدان، ولذلك لك أن تعرف يا صديقي أن العظماء لا تكفيهم مقالة، ولا حتى عشرات المقالات، لذلك شعرت أنني بعد المقال السابق أنني كتبت كثيرا ولكنني لم أقل شيئا !!، ومن الذي لم أكتبه أن شيخنا النقشبندي كان يُغني، لم يكن يُغني أي أغنية، ولكن الأغاني التي ترتقي بالروح، الأغاني ذات الكلمات الشفيفة والألحان الشجية، والموسيقى كما يقولون هى غذاءٌ للروح، ولذلك ارتفع النقشبندي وارتفع بنا في أغنيته (مولاي إني ببابك قد بسطت يدي) وكذلك أغنيته (عليك سلام الله) التي صاحبه فيها من مطلعها الجيتار، وكلتاهما من كلمات عبد الفتاح مصطفى وألحان بليغ حمدي، ولا تفوتني أبدا أغنيته (أخوة الحق) للثنائي عبد الفتاح مصطفى وبليغ حمدي التي بدأت مقدمتها بالوتريات والجيتار.
ويالها من صداقة رائعة حينما تنشأ بين علمين، فنشأت الصداقة بين النقشبندي وبليغ، وقبلها كانت قد نشأت الصداقة بين النقشبندي وأم كلثوم، نعم كانت بينهما صلة، وكان يغني بعض أغانيها في جلساته الخاصة، ومن الأغاني التي غنَّاها لام كلثوم أغنية (رباعيات الخيام) وكان قد غناها في جلسة خاصة عندما كان في زيارة لسوريا، ومن حسن حظنا أنه تم تسجيل هذه الجلسة صوتيا، وقام البعض بوضع هذا التسجيل الصوتي في (اليوتيوب)، وبذلك أتيح لنا أن نستمع للنقشبندي مغنيا، ولكنك لو كنت محبا للغناء، وعاشقا لأم كلثوم، ستعرف أن أم كلثوم غنت الرباعيات عام 1950 بلحن السنباطي، ثم أمتعتنا بها في عدة حفلات على مدار سنوات، أما الذي كان قد قام بتعريب الأبيات الشعرية لرباعيات الخيام فهو الشاعر أحمد رامي، ولو كنت متابعا لتسجيلات أغاني أم كلثوم المختلفة ستعرف يقينا أن (الست) ابدعت في حفل المغرب عام 1968 وهى تغني الرباعيات، فقد كانت في قمة التجلي، وقد كانت هذه آخر مرة غنت فيها أم كلثوم تلك الرباعيات، وكأنها وقتها بإبداعها كانت تودع رباعياتها.
وأظنك في ذات الوقت محبا للشيخ سيد النقشبندي بدليل أنك تقرأ هذه المقالة، فإذا استمعت له وهو يغني الرباعيات بالتسجيل الصوتي له وهو في مدينة حماة بسوريا عام 1957 ستدرك أن طريقة الشيخ في إنشاد الابتهالات وقتئذ كان طاغية عليه وهو يؤدي تلك الأغنية، فقد كان أداؤه أقرب إلى الإنشاد منه إلى الغناء ولكن دون أن يخرج من اللحن، ولا تثريب عليه في ذلك، ولكن اللافت أن صوته كان متمكنا من الأداء بحيث لا تجد فيه أي نشاز أو شرخ، فكان ينتقل من الجواب للقرار بالسهولة التي يؤديها وهو يبتهل، وكان ينتقل من مقام لآخر كما يقول كتاب الغناء رغم أنه لم يكن يعرف المقامات إلا عن طريق السمع، وسنجلس معا لندرس طريقة النقشبندي وقت أن أدى أغنية الرباعيات لنخرج بنتيجة هامة، ففي ذلك الوقت لم يكن النقشبندي كما قلنا قد تعلم المقامات الموسيقية اللهم إلا ما يعرفه منها بخصوص الابتهالات، وهى معرفة سمعية، وكان يجتهد في الابتهالات بالفطرة دون أن يكون معه ملحن يضبط له المقام وينتقل به من نغمة إلى نغمة أخرى، ثم يقوم بتدريبه على اللحن كله، فحتى الذين لديهم العلم والخبرة كان يلزمهم التدريب على اللحن، ولم يتقن النقشبندي المقامات ويتعلم ربط الأداء الصواتي باللحن إلا مع بليغ حمدي في رائعته (مولاي إني ببابك)، وستلاحظ أيضا أن النقشبندي كان يغني دون أن تصاحبه فرقة موسيقية تعزف اللحن مصاحبة معه، ويقولون في علم الموسيقى عن أهمية الفرقة الموسيقية أنها تضبط النشاط الدماغي للمغني فتجعل أداءه الصوتي منضبطا مع اللحن، ولذلك أنا ألتمس له العذر أن خرج بالأغنية من حدود (الأغنية) إلى حدود (الابتهال).
الخلاصة أن النقشبندي في رباعيات الخيام كان هو الذي يغني، أو قل كان هو الذي يبتهل برباعيات الخيام، فلم يكن مقلدا لأم كلثوم ولكنه كان يُعبِّر عن شخصيته وصوته وطريقته في الإنشاد، ولكي تتأكد مما أقوله فأرجو أن تستمع إليه وهو يغني مقطع (وكم تواالى اللييييل) ويكررها، ثم يرتفع صوته تدريجيا واحدة واحدة هو يقول (توااااااااالى) ثم (الليييييييل) فيصل إلى طبقة لم تصل إليها أم كلثوم وهى تؤدي تلك الأغنية، هنا انطلق النقشبندي إلى آفاق صوتية لم يصل إليها أحد وكأنه كان يتحدى السيدة أم كلثوم، ويقول لنا: هل يستطيع أحدٌ أن يفعل ما فعلته؟!، كان شيخنا النقشبندي إذن يستعرض قوة صوته ومساحته الممتدة، وسأقسم لك أنه وهو يقول (فكم تواااااالى اللللييل بعد النهار) كان بارتفاع صوته إلى طبقة الميزو السوبرانو، ثم السوبرانو، يُعبِّر بحرفية مذهلة عن توالي الأيام، عبَّر عنها بصوته كما لم يعبر أحد، ولعل السنباطي لو كان يلحن له هو تلك الأغنية لجعلها كما غناها النقشبندي المبتهل، واسمع أيضا النقشبندي وهو يؤدي كلمات (فإنما الأيام مثل السحاااااااب) فيرتفع صوته تدريجيا كارتفاع السحاب وتواليه وتشابكه فنفهم من تلك الصورة التعبيرية أن الأيام تمر بنا دون أن نشعر بها، فهي تمر مر السحاب، وذلك يذكرنا بقول الله تعالى (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب) الثقافة القرآنية للنقشبندي هنا، وثقافته في التواشيح التي تُعبِّر عن المعاني هي التي جعلته يرتفع بصوته وهو ينطق في الأغنية بكلمة السحاااااب، ثم يجعل صوته يمتد ويتسع.
لم تفعل أم كلثوم ذلك، ولم تستعرض صوتها، إذ لم تكن في حاجة إلى ذلك، ولكنها كانت منضبطة مع اللحن بحرفية خبرتها وتاريخها، ليس هذا فحسب يا صديقي (السَمْيِع) ولكنك إذا استمعت للنقشبندي وهو يغني مقطع (يا من يحار الفهم في قدرتك) ستصاب بالذهول من مساحة الصوت العريضة التي لم يصل إليها أحد ولا حتى صاحبة الأغنية سيدة الغناء أم كلثوم، ولكن مع ذلك فإن أم كلثوم هى أم كلثوم، لا يمكن أن نظلمها فتيلا، فأداء أم كلثوم هو الأكثر طربا، والأعلى إمتاعا، وإحساسها بالكلمات ومعانيها لايضاهيه إحساس، فقد كانت تغني بإحساسها قبل أن تغني بصوتها، ولكن الشيح النقشبندي كان الأكثر قوة والأوسع مساحة، ومن يدري فلو تدرب شيخنا على هذه الأغنية مع ملحن مثل بليغ أو السنباطي أو كان قد غناها بعد أن عرف عالم الألحان أي بعد عام 1972 لكن أداؤه أمتع وأشجى وأكثر طربا، ولاستمتعنا بحلاوة الصوت وقوته معا.
وهناك أغنية أخرى للسيدة أم كلثوم أو قل مقطع من أغنية لها غناه الشيخ النقشبندي، هي أغنية (سلوا قلبي غداة سلا وتابا) التي كتبها أمير الشعراء أحمد شوقي ولحنها أمير الموسيقى رياض السنباطي، ففي لقاء للنقشبندي في الإذاعة المصرية مع الإذاعي طاهر أبو زيد عليه رحمة الله طلب منه أن يغني للسيدة أم كلثوم فغنى مقطعا قصيرا من (سلوا قلبي) الذي ينتهي فيه بالبيت الشهير (وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا)، ولكن المقطع الذي غناه كان قصيرا فلم تظهر منه إمكانيات صوت النقشبندي.
أما تلاوة شيخنا النقشبندي للقرآن فكان فيها صاحب مدرسة، أقول هذا ليس من باب المدح ولكن من باب الوصف، فالشيخ كان يقرأ القرآن وكأنه يبتهل، فإذا لم تكن في كامل تركيزك وأنت تستمع له ستظن أنه يُنشد أو يبتهل لله ولن ينصرف ذهنك إلى أنه يقرأ القرآن، فمدرسته إذن هى تلاوة القرآن بطريقة الابتهال وليس بطريقة القرَّاء المصريين على اختلاف مدارسهم، وهذا أمر لم يقلده فيه أحد، وحتى كبار المنشدين والمبتهلين مثل الشيوخ طه الفشني ونصر الدين طوبار ومحمد الطوخي وغيرهم، كانوا جميعا يقرأون القرآن بطريقة التلاوة المصرية المعتادة، تلك الطريقة التي أسسها ناظر مدرسة التلاوة المصرية ومؤسسها الشيخ أحمد ندا الذي توفاه الله عام 1932 قبل أن يصل إلى الثمانين من عمره بأشهر قليلة، وقد خرج كل القراء المصريين من تحت معطف شيخهم أحمد ندا، إلا واحد، واحد فقط كانت له مدرسة أخرى كان هو ناظرها ومؤسسها والطالب الوحيد فيها هو الشيخ سيد النقشبندي، ولكنه في قراءته تلك كان يقرأ بشكل تعبيري، يُعبِّر فيه عن المعاني، فالآيات التي فيها تعجب لها أسلوب وطريقة، وآيات الأنباء والأخبار لها أسلوب وطريقة، والتحذير له أسلوب آخر وطريقة أخرى وهكذا.
كل هذا كان شيئا طبيعيا، فالشيخ الذي يُغني لأم كلثوم وكأنه يبتهل، ويقرأ القرآن وكأنه يؤدي ابتهالا أو أنشودة، إنما كان يمارس فطرته التي خلقه الله عليها، فقصة حياة النقشبندي وتاريخه وصوته وابتهالاته وأغانيه وتلاوته للقرآن، كل هذا يؤكد أن الله خلقه لكي يكون مبتهلا، فرحمة الله عليه من رجلٍ لا يتكرر.