بقلم : محمد شمروخ
موجة الغلاء الأخيرة التى تضافرت عدة عوامل لإشعالها ما بين حرب (روسيا وأوكرانيا) وتدخلات صندوق النقد الدولى، بجانب موجات استغلال التجار الموسمية، أصابت الناس في مصر بإحباطات عظيمة، حتى بدت سخرياتهم على مواقع التواصل الاجتماعى ممزوجة باليأس أكثر منها بالفكاهة.
وهذا أمر بات معتادا منذ أن صار الغلاء ظاهرة موسمية تؤرق كل شعوب الأرض وتقض مضاجعهم في موجات متلاحقة من الأزمات الحقيقية والمفتعلة على المستويين العالمى والمحلى، حتى راح العالم ينتظرها ما بين حدث وآخر وكأنه على موعد معها.
ولكن هنا في مصر، غاب الإعلام الرسمي التابع للدولة عن المشهد تماما فقد صار أبعد ما يكون عن الشارع بعد أن انكفأ يلعق جراحه الداخلية ما بين أزمات مالية طاحنة وانتظار لتصفية مرتقبة، بعد أن صار عبئا على الدولة التى صارت بدورها تنظر إليه نظرة زوجة الأب القاسية لـ (ابن المرحومة ضرتها).
أما الإعلام الخاص وهو المسيطر على اتجاهات الريموت كنترول في يد المشاهد، فقد تجاهل نبض الشارع مكتفيا بالتبريرات المعتادة وتقديم الأمر على أنه أزمة عالمية لا يد للحكومة فيها وكاد أحدهم يقولها (ما تقرفوناش كل شوية)،
ولكن المحصلة أن وجدت الحكومة نفسها بلا إعلام حقيقي يعبر عنها ويدافع عن قراراتها، اللهم إلا ما يتلى من بيانات ونشرات للاستهلاك العام، أما إعلام القطاع الخاص فقد بدأ أقل اهتماما في التعامل مع الأزمة الأخيرة، ذلك لم يكن إلا لأن الفئات التى تملك وتدير وسائل الإعلام الخاص وتتحكم فيه بكل تجليات وجوده الصحفية والفضائية والإلكترونية لا يشعرون بموجات الغلاء ليس إلا بسبب ارتفاع دخولهم هم وإعلاميهم، الأمر الذي جعلهم يرون أن زيادة الأسعار جاءت بنسب يرونها محتملة ويمكن التغلب عليها بالاستغناء، ولذلك لا يقدمون شرحا لهذا الاستغناء إلا بما يجعلهم يثبتون للناس أنهم يعيشون حياة مخملية أبعد ما تكون عن الواقع وهم لا ينكرونها، بل يتباهون بها في منتجاتهم ومشروعاتهم وإعلاناتهم ومظاهر معيشتهم.
ذلك أن المنظومة الاقتصادية الحاكمة لملاك وسائل الإعلام الخاص، ليست فقط بعيدة عن مخاطر الغلاء، بل هى بالأساس سبب من جملة أسبابه، وأزيد بأنه من المؤكد أنهم استفادوا من موجات الغلاء – إن حالا أو مستقبلا – بطرق مباشرة أو غير مباشرة، فتلك الأموال التى استنزفت من جيوب الناس ومن كدحهم لم تتبخر بالهواء، فهم من أصحاب السوق والمتحكمون فيه بطريقة أو بأخرى، فالقوانين التى تحكم العملية الاقتصادية غير بعيدة عن القوانين الفيزيائية التقليدية، فلا شيء يذهب هباءً في الهواء، والمادة لا تفنى ولا تستحدث من عدم، فما ينقص هنا، يزيد هناك، ولا أحد يحرق أوراق البنكنوت أو يعمد إلى العجل الذهبي لينسفه في اليم نسفا.
وظاهرة الإعلام الخاص في أساسها قامت تعبيرا على سيطرة رؤوس الأموال بعد سيادة قواعد (اقتصاديات السوق)، حيث ملكت القوى التجارية نواصى الدعاية التجارية ومن سبل سيطرتها كانت من جراء الأموال المتدفقة في الإعلانات عن السلع، فمن خلالها تسللت رؤوس أموال الشركات المعلنة إلى أجهزة الإعلام نفسها التى كانت تخضع للدولة بنسبة قاربت الـ 100%، خاصة في الإعلام المرئي، ثم ما لبثت أن أنشأت لها صحافة وقنوات تلفزيونية ومنصات إليكرونية خاصة، فقد جاء الإعلام الخاص لا ليعبر عن هذه الجموع الشعبية في كل مكان، بل كان كان ليدافع بالدرجة الأولى عن مصالح مالكيه الذين عندما يتصادمون مع الدولة فيعتصم كل منهم بإعلامه الخاص ويحوله إلى منصات صواريخ جو أرض ضد كل ما يهدد مصالحه.
هنا أنا لا أقلب في رماد يبدو خامدا، بل فقط للتذكير بأن الإعلام الخاص، لا يمكن أن يدافع عن كيان الدولة إلا تبعا لمصالح ملاكه الذين يعبرون عن المنظومة التى تحكم عالم السوق بكل ما فيه من صراعات كامنة أو على السطح وقد تجلى ذلك بوضوح منذ بداية دخولنا عصر الإعلام الخاص قبل ثلاثة عقود من الزمان.
وأن لا تجد الدولة منصة إعلامية حقيقية تشرح للناس حقائق الأوضاع أو تدافع بإخلاص عن جهودها في عمليات التنمية والتطوير في كافة أوجه الحياة وصراعاتها الجبارة مع ميراث ثقيل من عفن البيروقراطية على المستوى الرسمي أو الانتهازية على مستوى الشارع، ذلك لأن مسرح الدولة الحقيقي المتمثل في الإعلام الرسمى قد تم إنهاكه وانتهاكه، ما بين هجرة أو إغراء كوادره الناجحة بالانتقال إلى حيث المرتبات الخيالية التى لا تشكل إلا فتاتا بالنسبة للثراوات التى راحوا يخدمون أصحابها ويدافعون عن مصالحهم وينقلون ولاءاتهم وقناعاتهم تبعا للمتفق عليه بين الطرفين في العقد المبرم الذي لا تحضره الدولة إلا كطرف شاهد أو كموظف موثق.
ولا نستغرب أننا رأينا القنوات الخاصة لم تر في تعامل الناس مع موجات الغلاء، إلا نوعا من الإسراف وراحت تسخر من طريقة إنفاقهم ومن بعض مظاهر السفه الشعبية في الاستهلاك والتى تنتج أساسا من طبقات طفيلية لا يمكن أن تعبر عن الغالبية المنهكة بتكاليف الحياة.
كما أنى لا أعفى تلك الغالبية من إيمانها العميق بالنموذج الاستهلاكى الذي تم فرضه على الحياة كنموذج وحيد للنجاح، حيث يبدو الناجح هو الذي يحقق أكبر مكاسب ممكنة بدون النظر للآثار الاجتماعية والأخلاقية المترتبة على ذلك، فقد صارت الأخلاق كلمة فارغة تثير الاستهزاء قبل الاستغراب!.
وكان من جراء نشر هذه الثقافة أن صار حلم (فيلا الكمباوند وشاليه الساحل والسيارة ذات الدفع الرباعى وتعليم الأولاد في مدارس باهظة التكاليف) أهداف مرجوه تداعب خيالات كل شاب وفتاة يحلمان بتكوين أسرة ومستقبل، فقد كانت هذه الخيالات نفسها من نتاج صياغة الإعلام الخاص الذي سيطر على الدراما أيضا حتى يكمل رسالته في صياغة مستقبل مشكوك في تحققه وملقى في غياهب الزمن القادم بلا علامات إرشادية.
ومع ذلك صار هذا النموذج الحاضر في المشهد الدرامى والذي لا يتعدى في الواقع نسبة النصف في الألف على أكثر تقدير، هو المقدم في فواصل الإعلانات بين فقرات المسلسلات، ولا يقابله سوى نموذج منفر قميء يعبر عن الفئات المصطلح على تسميتها بالشعبية (تذكر أن كلمة شعبية الآن تعبر عن الرخص والتدنى في الثقافة الحالية وليس الأصالة والمروءة كما كانت تبدو منذ زمن قريب).
الخلاصة حتى لا أطيل عليكم هى: أن هناك فراغا حقيقيا في الإعلام المعبر عن الدولة واعتمادها على بعض العناصر التابعة لها في بعض القنوات الخاصة أو تحالف بعض أصحاب القنوات معها، هو تحت أى وضع أمر مؤقت ومرتبط بالمصالح الضيقة والمباشرة لرؤية رجال الأعمال القائمين عليها.
وفي النهاية كما فقد المواطن الإعلام المعبر عنه تعبيرا حقيقيا، نجد على الخط الموازى أن الدولة نفسها فقدت المنصات التقليدية التى ارتبطت بها أو بمعنى أصح أفقدتها بعد أن جففت منابعها المالية التى تحولت إلى الإعلام الخاص، حيث سبق أن أدرك المعلنون أن الدولة نفسها لم تعد تهتم بجهازها الإعلامى فتركته يتخبط في مواجهة واقع أسيف ومستقبل غامض.
وكما شاهدنا من سخرية الشارع من تصدى بعض إعلاميي القنوات الخاصة لتبرير موجات الغلاء الأخيرة والتى أعادت ترديد الجملة التى نسبت زورا وبهتانا إلى الملكة الفرنسية ماري أنطوانيت (لماذا لا يأكلون الجاتوه؟!).
وللعلم لما كره الفرنسيون الملكة مارى أنطوانيت، صدقوا بأنها قالت هذه الكلمة التى ألصقت بها زورا وبهتاناً، بل وبرروا بها أمام ضمائرهم المشوهة، جريمة إعدامها بطريقة شنعاء، لكن أحدا لم يدافع عن مارى أنطوانيت حتى بعد ثبوت براءتها من هذه الكلمة، ذلك لأن الوعى الذي يعتمد الكراهية، يصبح الافتراء عنده أشد رسوخا من الحقيقة، وحينئذ فلا جدوى في الدفاع عن الملكة الكسيرة، بل لا جدوى من أدلة البراءة التى تقدم بعد تنفيذ الحكم في المتهم البريء مهما كانت أدلى براءته!.