كتب : محمد حبوشة
مثلت مهنة الصحافة أرضا خصبة ومثيرة فى آن واحد، وصراع إنسانى بين المهنة والهوية الشخصية، ما جعلها محط أنظار كتاب الدارما سواء تليفزيونيا أو إذاعيا أو سينمائيا فهي دائما ملعب ثري ومنطقة جاذبة للكثير من الأحداث التي يعتمد الكتاب والمؤلفون عليها كمسرح لأعمالهم وإثارة وجذب المشاهد لهذا العالم المليء بالصراعات، ولعل الصورة الذّهنية التى نقلتها الدراما عن بيع الصحفى ضميره فى صالة التحرير وأسلوب الكتابة النمطية فى التحقيقات الصحفية، كشفت ربع الحقيقة عن الصحفيين والصحافة، ولكنها أغفلت فكرة الصحفى النزيه الذى يبحث فى تحقيقات وملفات تكشف المعاناة التى يعيشها بصورة متكررة للوصول إلى معلومات مدققة.
وتنوع دور الصحفي بين شخصية الشريف النزيه المتصدي للفساد، والذى ينتصر أحيانا أو يكون ضحية للفساد في أحيان أخرى، مثلما حدث لـ (شهاب الدريني/ أحمد زاهر) في مسلسل (سوشيال)، أو شخصية المحرر المضلل الوصولي الانتهازي الذى يبيع مبادئه، أو المنافق والآفاق، وفي أحيان كثيرة سوي مقاوم للفساد، لكن في الحقيقة هو الباحث عن المتاعب من أجل الآخرين، ولذلك أطلقوا عليها لقب (مهنة البحث عن المتاعب)، ولا نبالغ عند وصفها بـ (مهنة البحث عن المتاعب)، فالصحافة من أقدم وسائل الاتصال بين الأشخاص مرورا بمراحل تطورها عبر التاريخ، وهى المسئولة عن تسليط الضوء والكشف عن الخلل والمشكلات التى تحدث فى المجتمعات والدول، ورصد معاناة المواطنين لتصبح (صوت المواطن).
والصحافة تعد من أهم الأمور التى تشكل الرأى العام جراء مواقف مهمة تتبناها الدول، خاصة وقت الحروب والنزاعات، وإبراز دور الصحافة الدائم فى تزويد القارئ بالمعلومات المهمة والتحليلات المهمة الحقيقية التي تحدث من حولة، لذلك لا يمكن الاستغناء أو إغفال دور الصحافة بشكل عام فى المجتمعات نظرا لضرورة رسالتها السامية، وتأثيرها الواضح فى ملاحقة ورصد الفساد فى المجتمع، وتأثيرها على الفرد وتزويده بالمعلومات والثقافة وتنمية الوعى فى كل المجالات المختلفة، وبالرغم من ذلك فإن رحلة البحث عن المعلومة الصحيحة ورصد كل ما هو مخالف وإعلاء صوت الحق، يقابله معاناة وجهد يتعرض له (الصحفى) ويتغافل عنه الجميع، لكى يقدم للقارئ كل ما يتصف بـ (المصداقية والمهنية).
صحيح أن بعض الأعمال الفنية جسدت (الصحفى) كمناضل وباحث عن الحقيقة، وملاحق للفاسدين، والبعض الآخر جسده باللص والنصاب والانتهازى، مما يعكس صورة ذهنية تسىء لجميع الصحفيين، وبما لا يليق بعظمة ومكانة (صاحبة الجلالة)، لكن في ظني الشخصي أن مسلسل (سوشيال) أنصف مهنة (البحث عن المتاعب) عندما انخرط (شهاب الدريني) في إثبات براءته كاشفا عن أخطر شبكة توظف الشسوشيال ميديا في تحقيق أغراضه المشبوهة، والتي كان هو نفسه أحد ضحاياها، وقد التزم المؤلف محمد جلال بالدقة في استخدام المصطلحات التي تخص المهنة دون إخلال بالمضمون العام للعمل على جناح المبالغة في تقدير دور الدور الصحفي تجاه مجتمعه.
ينطلق المسلسل من نقطة أن أصبحت السوشيال ميديا جزء مهم في الحياة اليومية لجميع الأعمار، فقد سهلت وسائل الاتصال بشكل ملموس، لكن على الرغم من ذلك فإن لها آثارها السلبية على الفرد والمجتمع، وذلك في تعاظم دور وسائل التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، فلم تعد تقتصر على كونها نافذة للتواصل بين الأفراد، وإنما باتت تشكل أهم أدوات التأثير في صناعة الرأي العام وتشكيله وتنشئة الشباب وتثقيفه سياسيا، بل وينظر إليها البعض على أنها يمكن أن تقود حركة التغيير في العالم العربي، لكنها في المقابل باتت منصة مثالية للجماعات المتطرفة والإرهابية والفاسدة لنشر أفكارها الهدامة وتجنيد النشء والشباب وغسل أدمغتهم.
ويعالج المسلسل قضية نشر الشائعات الهدامة تمثل واحدة من المخاطر الناجمة عن سوء توظيف وسائل التواصل الاجتماعي، والتي أصبحت تمثل المصدر الرئيسي للعديد من الشائعات، خاصة مع تنامي ظاهرة الحسابات الوهمية في وسائل التواصل الاجتماعي، والتي لا يمكن السيطرة عليها بسهولة، فضلا عما تتميز به وسائل التواصل الاجتماعي من سهولة وسرعة في نشر وتداول المعلومات والأخبار عليه ، وذلك لعدم وجود رقيب أو قواعد وأسس للنشر على تلك المواقع، وتعد وسائل التواصل الاجتماعي بيئة خصبة لانتشار الشائعات وتداولها بشكل فائق السرعة بفعل خصائص والبث الفوري والتداول الجماعي التي تتمتع بها، فضلاً عن توافر أدوات تزييف الصور وفبركة الفيديوهات، والتي تضفي بدورها حبكة محكمة على محتوى الشائعات تساعد في انتشارها، وهو ما انعكس بشكل سلبي على قضية صحفي الحوادث (شهاب الدريني).
قدم أحمد زاهر دورا مهما من قبل حول الآثار السلبية للسوشيال ميديا في خمس حلقات بعنوان (كدبة كبيرة) في إطار سلسلة (وراء كل باب)، وقد أجاد في دور الممثل الذي تعرض لاغتيال سمعته بشائعة من خلال مواقع التواصل الاجتماعي التي أجبرته على الهروب إلى مسقط رأسه في الريف، لكنه في مسلسله الجديد (سوشيال) قرر المواجهة مستنفرا حاسته الصحفية في الكشف عن فساد الشركة التي تسببت في تدمير حياته، وقد لعب (زاهر) على أوتار الشخصية بطريقة ذكية، وقد بدا لي صحفي قدير ومتمكن من أدواته على مستوى الحركة والسكون ولغة الجسد المعبرة واللافته للانتباه.
ربما كانت هناك بعض المبالغات في شبهة تورط (شهاب) في بعض جرائم القتل لبعض أفراد شركة (سوشيال)، لكن المؤلف أوجد شروطا منطقية لتواجده في مسارح الجريمة بحكم مهنته في البحث عن الحقيقية، ومن هنا برع زاهر في تجسيد شخصية (شهاب الدريني) على نحو جيد يعكس قدرته الفائقة ونضجه في الأداء الاحترافي كما تجلي في علاقته بصديقه الصحفي (على الجندي/ تامر فرج) الذي برع هو الآخر في تجسيد دور الصحفي الانتهازي الذي تخلى عن مبادئه بعض الشيء، والطبيبة النفسية (رانيا أبو العز/ ميرنا نور الدين)، والتي جاء أداءها ناعما وهادئا للغاية/ ما يعكس روحها النقية رغم آلامها القصوى التي تعرضت لها على أثر حريق وقع لها في الطفولة سبب لها تشوهات في جسدها، لكنها ظلت محافظة على توازنها النفسي طوال الوقت، وهنا لابد أن أشيد بكاميرا رؤوف عبد العزيز في تركيزه على وجه ميرنا ليعكس طبيعة شخصيتها النقية في التعامل مع مرضاها وعلى رأسهم (شهاب) الذي وقع في أسرها.
يحسب للقدير (عبد العزيز مخيون) الإجادة في تجسيده لشخصية (سلام) رئيس (سوشيال) المتحكم في مصائر كثير من رواد السوشيال ميديا من (الفلورز) الذين كان يحركهم مثل العرائس على مسرح الجرائم التي كان يرتكبها بأعصاب باردة، وقد أصابت تحجر عيناه وحركة رأسه في كثيرا من المواقف الجمهور بالرعب جراء إجادته التعبير عن الشر الكامن بداخله والذي لم تسلم منه ابنته التي حرمها من حبها الوحيد، كما برز دور كل من (شاهين، عابد عنان، وئام مجدي، إسلام حافظ، كمال عطية)، لكن (جورج أشرف) كان الأكثر إجادة على مستوى الأداء الكوميدي مخلوطا بحس تراجيدي ينم ن موهبة حقيقية يمكن توظيفها في أداور على هذا النحو في المستقبل القريب.
في الواقع فإن هذا المسلسل احتوى على أكثر من (ماستر سين) في كل حلقاته الـ (15)، لكني أتوقف أمام مشهد لقاء الصديقين الصحفيين (شهاب الدريني/ أحمد زاهر)، و(على الجندي/ تامر فرج) في منتصف الحلقة الأخيرة، حيث دار بينهما حوار حول الصداقة والإخلاص للمهنة رغم الظروف الطارئة والمتغيرات الدراماتيكية التي أوقعت الاثنين في شرك الاختلاف والخصام إلى حين، وقد جاء المشهد على النحو التالي:
يذهب شهاب إلى مكتب على في جريدة (مانشيت) ليشكره على وقوفه بجانبه في محنته الأخيرة، خاصة بعد مقتل حبيبته (رانيا) ليقول: أنا عارف ياعلي ان صحوبيتنا حصل لها هزة كبيرة .. ولولا اللي حصلي انته مكنتش حتحب تشوفني تاني.
علي : مفيش داعي نتكلم في المواضع دي ياشهاب.
شهاب : لا فيه داعي ياعلي .. فيه داعي .. عشان انته آخر مرة كنت عندي في البيت قولتي ان كلمة صحبي دي مبقاش لها معنى عندك .. ومع ذلك جيتلي ووقفت جنبي .. يبقى كلمة صحبي دي لها منى يا علي.
علي : عادي يعني ما الصحاب بيقفشوا على بعض.
شهاب : بس انته بقى أثبت لي وبالدليل القاطع ان انته مش صحبي يا علي .. انت أخويا يالا .. هات حضن ياعلي.
علي : آه منك انته .. نصيبي إني أنا استحملك.
شهاب : بس أما مش جاي النهاردة علشان أتكلم معاك على انك صحبي وأخويا .. لا .. أنا جاي أكلم علي الجندي.. الصحفي ورئيس التحرير .. علي الجندي اللي بيعرف يقول لأ في الوقت المناسب .. خد ياعلي الموضوع ده اقراه وراعي ضميرك .. وأنا عارف متأكد انه لسه موجود ما متش .. وبيعد كده ابقى امل اللي انته عاوزه.
ثم ينهي شهاب المشهد بقوله : سلام يا صحبي .. لا صحبي ايه .. سلام يا اخويا.