بقلم : محمد شمروخ
الآن في سجون مصر اثنان من كبار رجال الأعمال، كل منهما له قضيته الخاصة.. الأول يواجه قضية الاتجار في الآثار والتنقيب عنها.. والثانى يواجه تهمة الاعتداء الجنسي على قاصرات في دار أيتام مملوكة له.
وهنا لن أتكلم عن هذه القضية أو تلك، فكلا المتهمين فيهما مازالا رهينا التحقيق والحبس الاحتياطي!.
لكن لابد أن نلاحظ أن كلا المتهمين لم يكونا فقط مليارديرات من الوزن الثقيل، ليس بسبب أموالهما الطائلة فحسب ولا لقوة نفوذهما أو مدى صلاتهما بالقوى السياسية والاقتصادية المؤثرة مصريا وعربيا، بل هما من ملاك القنوات الفضائية الأكثر انتشارا وتأثيرا خاصة في المجتمع المصري.
فالأول وهو السيد المتهم الدكتور حسن راتب صاحب تجربة إعلامية رائدة تمثلت في قناة (المحور)، والتى كانت من أول القنوات التى أسسست لما يسمى بالإعلام الخاص أو إعلام رجال الأعمال وهو الإعلام الذي اقترن بالانطلاق نحو الفضاء عبر الأقمار الصناعية وصار من أقوى المؤثرات في المجتمعات الإنسانية، بل ساهم في تشكيل الوعى وصنع الرأى العام.
والثانى هو السيد المتهم محمد الأمين صاحب مجموعة قنوات (cbc) التى اتخذت مكانة متميزة وسط شقيقاتها الفضائيات ونافست بقوة في تغطية الأحداث.
ولكنى أتساءل بإلحاح: ماذا نفعت كلا الوسيلتين الإعلاميتين (المحور أو cbc) لأى من الرجلين وماذا نفع كلاهما الدولة؟!.. ألم تكن وسائل الإعلام الخاصة من جرائد أو قنوات تلفزيونية، مهمتها الأولى هى حماية الامبراطورية المملوكة لصاحب الوسيلة الإعلامية؟!
ومعروف أن كلا الرجلين ليسا من الإعلاميين ولا الصحفيين، بل كانا متخصصين في جمع وتكديس الأموال حسب الطريقة الحديثة وهى الاستثمار في كل ما يمكن أن يحقق ربحا قدر المستطاعو، لا يهم كيف يكون الاستثمار.. تعليم.. عقارات.. أراضي.. أدوات صرف صحي.. شركات أدوية.. سياحة.. اتصالات.. كل يقدر بمقدار ما يحقق لصاحبه من ثروة.
هذا عن النشاط المعلن الشرعي، فقد علمتنا التجارب أن الثروات تصل إلى حد معين من الكثرة ثم تضع لنفسها نظما أخلاقية خاصة بها، فما يحقق المكسب هو الخير والفضيلة وما لا يحققه هو الشر والرذيلة!
أما الإعلام فهو المجال الوحيد الذي يشكل استثناءً من تلك القاعدة لأن الهدف منه ليس المكسب القريب بل ربما تعمدوا الخسارة لأن الخسارة القريبة خير من المكسب البعيد حسب قواعد السوق، بل الغرض الأساسي هو حماية النفوذ المالى لصاحب الثروة من خلال البرامج والتقارير التى يقدمها نجوم الإعلام الذين يتم شراؤهم كلاعبي الفرق الرياضية، ومن ثم يتم تكوين شبكة ضخمة من العلاقات فصار الإعلام لدى السادة رجال الأعمال هو البوق الذي يدعم مشاريعهم وهو الدرع المدافع عنها.
خطورة الأمر أن الطموح يمكن أن يتجاوز إلى مد النفوذ في محاولة السيطرة على أجهزة الدولة نفسها عبر تلك الشبكة باستخدام كل الكروت الممكنة وأولها الضغط بنفوذ القنوات فى الرأى العام.
هل يمكن أن ننسى دور الإعلام الخاص، لاسيما الفضائي خلال العقدين الآخيرين، في صنع وتوجيه الرأى العام المتلهف دائما وراء كل ما يثير.
لقد صارت كل قناة هى القلعة التى يأوى إليها صاحبها عل غرار بارونات العصور الوسطى في أوروبا أو الأمراء في فترة حكم المماليك في مصر والشام، فصارت القنوات هى الأحزاب والتيارات الحقيقية عبر بعض البرامج المؤثرة إثر التعاقد مع عدد من الإعلاميين المحترفين من خلال بورصة لتسعير وتقييم نجوم الإعلام.
فبينما وجدنا الأحزاب والتيارات والقوى السياسية، تقف جامدة متخاذلة تجاه ما حدث قبل وبعد ثورة يناير 2011، وقفت البرامج الفضائية لتحرك الملايين وتوجههم حيث شاءت، حتى أن كثيرا من الأحداث على المستويات الرسمية والشعبية كانت رد فعل أو نتاجا مباشرا لما أذيع في حلقة الليلة الماضية في برنامج كذا على قناة كذا.
هل نسينا حلقة (وائل غنيم) مع الإعلامية منى الشاذلى على قناة (دريم 2) ؟!
وكذلك حلقة (أحمد شفيق مع علاء الأسوانى) مع الإعلامى يسرى فودة على on.tv؟!.. وقس على ذلك كثير من الأحداث.
تذكر (أحاديث هيكل) مع لميس الحديدى وبرنامج (باسم يوسف)، وبرامج (محمود سعد ومعتز الدمرداش وخيرى رمضان)، وتمتد القائمة طويلة بأسماء مجلجلة صاروا نجوما في فضاءات قنوات رجال الأعمال، حتى تراجع الإعلام الرسمي إلى الصفوف الخلفية ووقع وعي المشاهد تحت تأثير هذه القنوات فنسي عهده مع القناة الأولى وأخواتها وأصبح (ماسبيرو) علامة على الجمود والانغلاق والتخلف ونسي الريموت في يد المشاهد قنواته القديمة، فلا تذكر قنوات ماسبيرو إلا مع الغضب والحنق والاستهزاء.
ألم تر أن المشاهد نفسه الذي يفتح القناة الأولى ليفاجأ بفيلم (شيء من الخوف) تراه هو نفسه يسارع لتغيير القناة لأن التلفزيون المصري صار مفلسا ومكررا، فيذهب نفس المشاهد، ليقلب القنوات ليتوقف أمام قناة خاصة تعرض فيلما من (أفلام الزمن الجميل) فيسرح المشاهد في ذكرياته مع القيلم شاكرا للقناة أنها أعادته إلى زمن الفن الأصلي مع فيلم (شيء من الخوف)، مع إنه نفس الفيلم الذي رفض التوقف أمامه مع القناة الأولى!
يا سبحان الله.. هكذا وصل تأثير الإعلام الخاص في وعي المشاهد، حتى أن الدولة نفسها تجاهلت جهازها الإعلامي الرسمي واعتمدت على الإعلام الخاص في إصرار مميت على تلك الخصخصة، فأصبح المسئول المصري يحرص على مخاطبة القنوات الخاصة لأنها الأكثر مشاهدة، مع أن هذه القنوات قامت على أكتاف وخبرات مستوردة من جهاز الدولة الرسمي!
بل عندما أرادت الدولة أن تجعل لنفسها قنوات تخاطب من خلالها الشعب، خرجت من منظومة ماسبيرو لتنشئ لها منظومة على منوال الإعلام الخاص!، ومع ذلك وجدنا المتعاونين مع الدولة في الإعلام الخاص ينتهى بهم الأمر في الحبس الاحتياطي.. والبقية تأتى!
هل ثمة تفسير لهذا الذي يحدث؟!
هل تعود الدولة لتراجع نفسها بعد أن ضبطت أجهزتها اثنين من كبار رجال الأعمال والإعلام الخاص؟، أولهما في قضية توازى قضايا الخيانة العظمى، فالذي يتاجر في تاريخ دولة بتهريب آثارها لا يتردد في المتاجرة بحاضرها ومستقبلها، والذي ينتهك أعراض فتيات مصر باستغلال ظروفهن الخاصة، لا يتورع عن هتك عرض الدولة نفسها!
فيا أيتها الدولة ماذا ستفعلين الآن؟!
هل ستعودين لدعم أجهزتك الرسمية وإعادة إحياء دورها وإجراء مصالحة بين الدولة وأجهزة إعلامها، بعد أن قامت أجهزتك الأمنية بضبط أكبر ممولين لأكبر قناتين فضائيتن في أشد القضايا خزيا وعارا؟!
الآن وجب أن ننبه (الدولة أنها تركت أبنائها واعتمدت على مرتزقة إعلام انتهت مسيرتهم بأسوأ من نهاية عتريس) في (شيء من الخوف!).