بقلم : حسين نوح
عندما اختفتْ، وتلاشتْ شخصيةُ المخرج وهو القائد الأوحد للعمل، وعندما ظهرتْ مقولة (مسلسلات الوِرش) أي المسلسلات التي يشترك في كتابتها مجموعة من الكتاب الناشئين تحت وصاية كاتب معروف انهارت الدراما.. والسبب معروف.
فهل يمكن مثلا أن يرسم لوحة خمسة رسامين .. أو يلحن أغنية ثلاثة موسيقيين؟!.. هذا له وجدان وهذا له وجدان مختلف، وذاك يميل للتطريب وهذا يميل للتعبير فيخرج اللحن (سمك، لبن، تمر هندي)، ليس به وحدة نفسية تجمعه في عقد واحد بسبب اختلاف مزاج وطبيعة كل ملحن.
وما هى النتيجة المنتظرة عند تلقي هذا العمل؟
أعتقد وبلا تردد خليط بيض بالبسطرمة والباذنجان وكله في (البتنجان).. ففي الدرما وهو الفن الذي أعرفه بحكم عملي كمنتج درامي تجد أحداثا لا رابط بينها ولا مبرر درامي يربطها، فتظهر النجمات في العمل بشكل عجيب، وغريب، ومريب، ففي الصباح تستيقظ وكأنها خارجة من بيوتي سنتر.. يا الله! ما هذا الشعر المنسدل؟.
خصلات في تناغم، وبهاء، والموقف الدرامي لا يتطلب هذا الشكل الرومانسي الحالم الذي يحتاج مطربا مثل عبد الحليم حافظ يقف على جسر التنهّدات في انتظار تلك التي أطلقت شعرها خلف ظهرها كأنه الستائر المخملية.
وتدور الأحداث.. فتجد حوادث الصدفة.. فالعربة تنطلق ثم تصطدم بعربة الخضار ومن تحت العربة المقلوبة على ظهرها تظهر النجمة بكامل المكياچ والزينة ممسكة بيد حبيبها في مشهد رومانسي حالم.. يا الله! .. ماهذا يا سادة؟.. أين أنت يا سيّدي المخرج؟!
عمل رائع مثل (الاختيار) أتابعه مع الملايين في مصر والعالم العربي، وتقف خلف العمل الشؤون المعنوية بالجيش المصري العظيم بكامل طاقتها وخلفه مخرج متميز، وكتيبة من ممثلين عمالقة يشاركهم في معظم الحلقات نجوم من الصف الأول، وينطلق العمل ثم فجأة يتوه العمل وسط طوفان من مسلسلات السِّنج، والبلطجة، وقصص الحب الساذجة القائمة على الصدف، وفي الغالب هم نفس نجوم رمضان كل عام، فالحوار في أغلبه ساذج والقضايا بائسة هو فقط لإضاعة الوقت والجهد والمال.
أين الأعمال الكبيرة التي تحمل قيم الانتماء، والإخلاص في العمل، والاجتهاد؟.. أين الأعمال الكبيرة التي تعمل على إيصال رسائل تربوية، وأخلاقية، ووجدانية عظيمة للناشئة؟
الفنون يا سادة ليست للتسلية فقط.. فمنذ روايات شكسبير نجد كل عمل يحمل معاني إنسانية عميقة مثل: (التردد) في (هاملت) ، و(البخيل) في (تاجر البندقية، وعقوق الأبناء) في (الملك لير)، وغيرها من صفات البشر وتعقيداتهم النفسية التي تنقل للمتلقى هذا الزخم الذي يثري نفسية المتلقي معرفيا ووجدانيا، وأذكّركم بفيلم من أعظم عشرة أفلام في تاريخ السينما العالمية وهو فيلم (شاوشانك Shawshank redemption ) لمورجان فري مان، وتيم روبنز ، ومن إخراج فرانك دارا بونت، إنه دعوة لانتصار العقل والأمل والفكر علي الظلم.
وهناك من الأفلام العربية عشرات الأفلام تقدّم قيما وبُعدا ثانيا للعمل، وعلي سبيل المثال فيلم (ثرثرة فوق النيل) المأخوذ عن رواية للعظيم نجيب محفوظ
(عوامة على النيل)، تضم شلة من الجنسين شلة مختلفة المشارب والطبقة والثقافة، ولكن جمعهم (الحشيش) ونتيجة لحالة التخدير والملذّات التي اعتادتْ عليها كتيبة الساهرين في العوّامة، فقد وقعت حادثة كان سببها هذه الشلة التي ذهبتْ لزيارة منطقة أثرية في شارع الهرم وهى في حالة سُكر فصدمت بسيارتها المسرعة إحدى الفلاحات وماتت الفلاحة في الحال، وعادت الشلة إلى العوامة التي فكّ حبلها حارس العوامة فانطلقت في المياه شاردة تائهة ضائعة كأنها صورة مصغرة لضياع المجتمع كله في ذلك الوقت.
هذه أفكار ذكية تفيد المحتمع وليست مجرد حواديت للتسلية، انظر إلى الرمز وعمقه ودلالاته، واعلم أن حواديت التسلية هذه تقوم بها الأم عندما تريد أن ينام طفلها، وينعم بنوم هادئ.
لا يمكن، ولا يجوز، ولا يعقل أن نترك الدراما للهواة والسُّذج هكذا على علّتها لجمهور منه المتشدد، ومنه السّلفي، ومنه السّاذج، ومنه المتعاطف دون وعي مع الردة العقلية التي كادت أن تعصف بمصر الحبيبة لولا المحبين لهذا الوطن الغالي علينا جميعا.. على الكتاب وخاصةً كتاب الدراما التليفزيونية أن يدركوا معني مخاطبة جمهور التليفزيون الذي يصل لكل الناس وفي القري، والنجوع
اتقوا الله في دولةٍ تُبنى بدماء وعرق وجهد أبنائها المخلصين.
فقد طالب الرئيس أكثر من مرة، وبكل صراحة أن نقف معه فهو قادر على البناء بمساعدة كل طوائف الشعب ويستطيع ومصر تستطيع، بل وتستحق كما أقول دائماً.
لن أطيل: كفانا مسلسلات الصدف، كفانا مسلسلات التفصيل لفلان ما، أو لفلانة ما.. فالفن قبل أن يكون تجارة مربحة هو جبهة من ضمن جبهات حماية الوطن ومقدرات الوطن.
وكما قال زكي نجيب محمود: (هي فاعل أصلي لعدم إعمال العقل).. كفانا نجومية الجمال للفتيات التافهات الفارغات من المعرفة والثقافة والتي لا تملك من المقومات شيئا غير الجمال الظاهري السطحي، لقد أصبحنا في سباق للأجمل فربما تفوز برجل طيب يعتقد أنها هكذا ليلاً ونهارا دون عيوب ودون نقص وأمراض وبرد وزكام ومغص كلوي ومغص عقلي.. هي الجميله دائما.. وتعيس هو من يبحث فقط عن جمال الشكل.
الشكل يزول وتبقى الروح صدق عبد الوهاب: (وعشق الروح مالوش آخر لكن عشق الجسد فاني).. يبدو أنها كوميديا الكريزي تاكسي ولا أحد يدري، وتفعيل السذاجة يؤدي لكوارث عقلية .
المبالغة في الدراما الصادمة والمليئة بالكوارث الأخلاقية تجعلنا ندخل في سباق للأكثر عنفاً، ودموية .. فإلي أين نحن متجهون؟
نجوم المسرح الساذج أصبحوا نجوما للتليفزيون وأصبحوا في كل بيت ينشرون تفاهاتهم على الأطفال وعلى الناشئة، وهي تفاهات ستؤدي إلى كوارث أخلاقية في المستقبل… فالحذر رجاءً!.
أين المسرح؟، وأين كتاب المسرح؟
ماذا حدث بعد أن كان شارع عماد الدين به أكثر من ستة عروض مسرحية ناجحة جاذبة للجمهور؟!.. لا نجد شيئا من هذا الآن، وكما يحدث في الدراما التليفزيونية يحدث – للأسف – في المسرح، كثير من الأعمال الساذجة ثم يأتي عمل عظيم فيتوه وسط زحام السذاجة، والإنتاج السوتيه الذي يشبه وجبات المرضى.
مصر تنطلق وبدل أن تكون الفنون هى المرشد والداعم والمنير لطريق الوعي نجد وبكل صدق أن الدولة تسبق وتنطلق وخلفها الإعلام يحاول أن يلحق بها.. نعم وبكل صراحة الدولة تنطلق أسرع من الفنون والإبداع ولم يحدث هذا من قبل، فقد كانت الفنون دائما تلعب دورها التنويري والملهم للجماهير في كل عصور النهضة المصرية.
نعيش مرحلة حاسمة في التاريخ المصري تتطلب منا الوعي وإعمال العقل، وكثير منكم لا يدرك خطورة المرحلة ومحاولات الدولة بكل الطرق أن تعيد لمصر ريادتها في الفنون والآداب والثقافة والمعرفة.. فقدر مصر منذ الأزل أن تُصدّر المعرفة للآخرين.
فإن كانت هناك بلدان عُرفت بإنتاج الغلال، أو النفط، أو القماش، أو السيارات، أو أدوات التجميل فقد عُرفت مصر بتصدير المعرفة والنور لكل جنبات العالم، فمصر كانت وما زالت قادرة.. ومصر تستحق.