في ذكرى عبدالعزيز محمود الـ (30) .. نكشف عن أول أغنياته لأبوالقاسم الشابي
كتب : أحمد السماحي
يمكن أن نطلق على المطرب والملحن المبدع (عبدالعزيز محمود) – الذي نحيي اليوم الذكرى الثلاثين لرحيله – لقب صاحب الإرادة الفولاذية، فرغم حياته الشخصية المليئة بالصعوبات التى كانت يمكن أن تعوق أي شخص آخر، إلا أنه استطاع قهر كل الصعوبات التى صادفته بإرادته الحديدية وتفوق عليها وأصبح نجما فى عالم الغناء عندما كان للغناء أساطينه وأساتذته المشهود لهم بنبوغهم الغنائي.
عشق (عبدالعزيز محمود) الذي ولد فى 17 أكتوبر 1914 الغناء منذ طفولته لكن عائلته المحافظة التى ترجع أصولها إلى مدينة سوهاج فى الصعيد منعته من تحقيق حلمه، وعندما رحل والده وهو ما زالا صبيا صغيرا اضطر للعمل ليعول والدته وشقيقه وعمل بالفعل في مدينة بورسعيد فى شركة (شل)، واشتهر فى المدينة بخفة دمه وحبه للغناء الذى كان يمارسه فى أفراح زملائه وجيرانه إلى أن أصيب بكسر في إحدى ساقيه فاستغنت عنه الشركة.!
وكانت هذه الحادثة كافية لتقضي على مستقبله لكنه استطاع أن يقهر المستحيل ويتغلب على اكتئابه ويركب ساق صناعية بدلا من ساقه التى بترت، وأكمل مشوار الحياة، وفى زيارة للموسيقار (مدحت عاصم) مسئول الموسيقى والغناء فى الإذاعة المصرية لمدينة (بورسعيد) استمع إليه وأعجب بصوته وطلب منه النزول إلى القاهرة للتقدم لاختبارات الإذاعة، وبالفعل اجتاز (عبدالعزيز محمود) الاختبار، ولحن له (مدحت عاصم) عام 1937 أول لحن فى حياته وكان للشاعر التونسي (أبوالقاسم الشابي) وكان قصيدة بعنوان (الصباح الجديد) التى حققت نجاحا كبيرا وكانت تذاع بصفة مستمرة ويقول مطلعها:
اسكني يا جـراح / واسكتي يا شجون
مات عهد النواح / وزمان الجنـون
واطـل الصبـاح / من وراء القرون
يا مزوق يا ورد
بعد هذه القصيدة بدأ المشوار الذي قدم فيه كل أشكال وألوان الغناء سواء العاطفي أو الديني أو الشعبي، ونجح فى كل هذه الألوان بجدارة وإن كانت بصمته فى الغناء الشعبي الراقي – الذي يتفوق على الغناء العاطفي حاليا – كانت هى الأبرز، والحقيقة أنه قدم مفردات فى الغناء الشعبي كانت جديدة تماما على قاموس الغناء المصري فلا يمكن أن ننسى له اأغنيته الوصفية البديعة يامزوق ياورد) التى كتبها (مرسي جميل عزيز) ولفتت الآذان إلى صوت (عبدالعزيز محمود) عام 1939 كمطرب شعبي والتي يقول فيها:
يا مزوق يا ورد ف عود، والعود استوى
والكحل في عنيك السود، جلاب الهوى
يا عايق ولا النوار، يا محكل عنيك أسرار
يا جار الهنا يا جار، جلاب الهوى.
بعدها قدم رائعة شعبية أخرى بعنوان (كعبه محني، وكفه محني)، وفى هذه الأغنية يتفنن المبدع (مرسي جميل عزيز) فى تقديم صورة شعرية رائعة يقلب فيها موازين الجمال، فالحنة عنده من مقومات الجمال الجسدي، ورمز من رموز الجنس فيقول:
كعبه محني وكفه محني، والورد اللي في خده محني
حتى شفايفه بلون الحنة، لون الفرح ولون الجنة
حنة يا حنة كعبه محني، حنة يا حنة كفه محني
فالحنة فى منظور (مرسي جميل عزيز) أكثر ابتهاجا من الورد – كما يقول مبدعنا خيري شلبي – وقد درج شعراء الأغنيات الساذجة على تشبيه الخدود بلون الورد، ولكن الصورة عند مبدعنا (مرسي جميل عزيز) مركبة، فالخدود بادئ ذي بدء فى لون الورد، ولكي يكثف الصورة شعريا ويقربها من الإحساس فإنه يرى ورد الخدود نفسه بلون الحنة الخد يأخذ من الورد شكله، وريقات متفتحة طازجة ناعمة كالحرير ويأخذ من الحنة لونها البهيج.
ومع (مرسي جميل عزيز) أيضا يقدم رائعة شعبية آخرى اسمها (أسمر يا جميل) التى يقول فيها :
أسمر يا جميل يا بوالخلاخيل ياللي المنديل
راح ياكل من حاجبك حته.
كورس: عيني يا عيني يا عيني
ساعة ما بشوف العود ملفوف
لو مافيها كسوف كنت اجري وراءك
حتة فى حتة
عيني يا عيني
صورة رائعة للبنت الريفية السمراء الجميلة التى تلبس الخلخال فى قدميها، والمنديل (أبوأوية) الذي تعصب به رأسها، والذي يغطي جبينها كله، بل ويأكل جزءا من الحاجب، دليل الحشمة والحياء، وهى صورة معروفة لكل قروي فى مصر الثلاثينات والأربعينات وحتى السبعينات.
ويكمل (عبدالعزيز محمود) قائلا :
يا أسمر يا جميل آه يا سماره إنت أماره
م السما جاية
يا بوالخلاخيل يا اللي كعابك فوق قبقابك
ورد ف ميه
يا بو المنديل أويه ف أويه، دخت يا خويه
سمي عليه
وهنا يتوقف أستاذنا (خيري شلبي) ويقول عن هذا الكوبليه: لابد أن نتوقف بالطبع أمام صورة الكعبين فوق القبقاب الخشبي، كأنهما ورد فى مياه، هل رأيتم تعبيرا عن نداوة الكعبين الموردين المغسولين لتوهما أجمل من هذه الصورة التى تنطلق من الكلمات إلى المشاعر فى الحال؟ ولعلنا لا نجد فى الغزل الحديث والقديم كله أسخن من هذه الصورة :
ندر على إن حن على لاحني ايديه
وانقش اسمه بحنة عليها
وأخذ نايبي وادي قريبي واقول لعوازلي اتكحلوا بيها
فى هذه الصورة هو لا يحقد على عوازله كما قد يبدو من ظاهر الكلام، بل الجميل فيها أنه يطلب للعوازل أن يكون فيهم لمسة من جمال حبيبه الأسمر، حتى ولو كانت اللمسة مأخوذة من حنة كعبي حبيبه الورديين.
ولا يمكن أن ننسى ونحن نتحدث عن بعض النماذج الشعبية عند (عبدالعزيز محمود) أن ننسى رائعة العبقري (أبوالسعود الأبياري) التى قام بغنائها فى فيلم (أنا قلبي دليلي) وهى (يا نجف بنور) التى كانت نقلة في حياته الغنائية ومازالت تتردد فى كل الأفراح حتى الآن والتى يقول فى مطلعها :
يا نجف بنور يا سيد العرسان
يا قمر ومنور ع الخلان
اه يا نجف يا نجف، حلو يا نجف
الغناء العاطفي
هذا هو حال الغناء الشعبي فى الماضي!، لم يقتصر غناء (عبدالعزيز محمود) على اللون الشعبي فقدم روائع فى الغناء العاطفي نذكر منها (يا طول عذابي فى هواها، شوف شوف قلبي الملهوف، لمين هواك، اللى ملك قلبى، ساعة رضاك عنى، أحب الحب، وليه قلبى تجرحه، سيدى أنا، سلامات يا واحشنى، حكاية حب، الوداد والعشره) وغيرها الكثير.
من بحري وبنحبوه
هذه الأغنية الشهيرة التى غنتها المطربة (هدى سلطان) فى فيلمها الشهير (رصيف نمرة 5) كانت من ألحان (عبدالعزيز محمود)، كما لحن لكثير من المطربين والمطربات منهم (نور الهدى، شادية، كارم محمود، فايزة أحمد، حورية حسن، محمود شكوكو، فاتن فريد، أحمد غانم، محمد الأسواني)، وكانت آخر من لحن لها كلثومية الصوت (سوزان عطية) الذى لحن لها ألبوم (صعبان عليا).
الإعلانات التجارية
كما كان أول من لحن الإعلانات التجارية عند دخول التليفزيون فى مصر، ومن الإعلانات القومية التى لحنها (ست سنية سايبة المية ترخ من الحنفية) التى ذكرها الفنان (عادل أدهم) فى فيلم (ثرثرة فوق النيل)، كما كان من أوائل المطربين الذين قدموا الأغنية (الفرانكوآراب) فكتب ولحن وغنى (لوليتا، حسن يا حسن، حليمه) وغيرها.
السينما
كان من الطبيعي أن تلهث السينما وراء (عبدالعزيز محمود) خاصة أن ظهوره جاء مع الحرب العالمية الثانية، وكانت السينما تحاول تغيير (مود) الجمهور الذي يعاني يوميا من أخبار الحرب، بالغناء والاستعراض، فظهر عام 1944 في (عريس الهنا) وتوالت أفلامه نذكر منها (أول نظرة، قلبي دليلي، فتنة، البوسطجي، فوق السحاب، منديل الحلو، ست البيت، امرأة من نار، أسمر وجميل، ساعة لقلبك، جنة ونار، أموال اليتامى، تاكسي الغرام، علشان عيونك، عروسة المولد) وغيرها.
الرحيل
فى نهاية حياته أصابه المرض لمدة ست سنوات، ولم يسأل عنه أحد من زملائه باستثناء أشخاص قليلين، قلة الوفاء هذه أصابته بالاكتئاب، وما ساعد فى ازدياد حالة الاكتئاب أن وسائل الإعلام المختلفة تجاهلته فى مرضه، فضلا على أن نقابة الموسيقيين أشاعت انها تتكفل بعلاجه ولكن لم يحدث، بل إن النقابه نفسها أرسلت له انذارا قبل وفاته بخمسة عشر يوما بفصله من العضويه لأنه نسى سداد بعض الاشتراكات نظرا لظروف مرضه، وفى 25 أغسطس عام 1991 رحل عن حياتنا هذا المطرب الذي لا ينسى، أثر أزمة قلبية.