بقلم : محمد حبوشة
أثار وقف بث مسلسل (الملك – كفاح طيبة)، الذي يتناول قصة الملك الفرعوني (أحمس) ونجاحه في طرد الهكسوس، الكثير من الجدل والتساؤلات حول الهدف من منع العمل الدرامي الرمضاني الذي كان مقررا إذاعة أول حلقاته اليوم الثلاثاء بداية رمضان 2021، فقد رأى البعض أن الانتقادات الموجهة إلى المسلسل قبل بثه ركزت في جانب كبير على تصورات قائمة على أسس تاريخية وليست فنية، واهتمت بالشكليات التي ظهرت في الإعلان الترويجي للمسلسل.
وقد شكل رضوخ الشركة المنتجة لمسلسل (الملك أحمس) لحملات اعتراض واسعة استهدفت المسلسل قبل عرضه تحت ذريعة تضمنه أخطاء تاريخية جسيمة، انتصارا للمعارضين لعرض المسلسل على مستويات مختلفة منهم الأثريون وخبراء التاريخ، وحتى قطاع كبير من المشاهدين الذين رأوا في موكب المومياوات الملكية زريعة لوقف المسلسل الذي تعرض لحملة هجوم كبيرة اعتراضا على القصة والملابس والديكور وغيرها من عناصر فنية، بات واضحا أنها ستشكل كارثة حقيقية في صناعة دراما تركز على الهوية الوطنية وتعرض نموذجا للبطولة المصرية في الدولة القديمة التي أبهرت العالم بحضارتها.
صحيح أن قرار إيقاف التصوير جاء استجابة لضغط شعبوي استغل نجاح حفل موكب المومياوات الأخير باعتبار أن المسلسل يسيء إلى تاريخ مصر ورموزها الوطنية، ما يحول الرسالة المفترضة للعمل الدرامي إلى رسالة شديدة السلبية، وهو سبب أراه وجيها جدا لعدة أسباب ومنها أولا : أن استدعاء شخصية الملك أحمس، البطل المصري الذي طرد الهكسوس من مصر في القرن السادس عشر قبل الميلاد، واعتماده على جيش وطني قوي ومنظم، ونجاحه في بناء مشروعات عمرانية وتنمية شاملة، يتشابه مع الظروف الحالية لمصر وهى نفس الظروف التي تعيشها مصر في ظل مواجهة مخاطر الإرهاب، فضلا عن تحديات إقليمية دقيقة، وتبني في الوقت ذاته مشروعات تنموية كبرى.
ثانيا: تحولت صورة أحمس التي ظهرت على أفيش المسلسل (كبطل إسبرطي) لا ينتمي إلى تارخ مصر القديمة إلى مادة للسخرية على صفحات التواصل الاجتماعي خاصة بعد انتقادات وجهت من المؤرخين وخبراء الآثار إلى المسلسل بمجرد إذاعة الإعلان الترويجي الخاص به، الأمر الذي دفع بجهات حكومية غير فنية إلى التدخل لتجميد العمل، وظني أن خطوة إيقاف المسلسل تبدو جيدة من جانب الشركة المنتجة ، لكن لابد أن أسألها سؤالا مهما : من الذي أصر ياترى على أن يكتب السيناريو (محمد وخالد وشيرين) وهم ينتمون فكريا للإخوان بحكم أنهم أحفاد حسن البنا، كما أنهم مغرضون بالتأكيد في التعامل مع نصر لنجيب محفوظ ، فقد سبق وأن عاثوا في الأرض فسادا فنيا عبر أفكار مجنونة تارة على سبيل الفنتازيا، أو مشبوهة تارت أخرى، هبط أحدهم وكأن الأسماء انتهت من جعبة نجوم شباب هذا الزمن الضنين المفلس بمواهبه الفنية، حيث كان المؤلف (خالد دياب) قد انتهى من كتابة فيلمه الجديد (صرصرة فوق النيل) يقصد السخرية والإساءة لرواية وفيلم (ثرثرة فوق النيل) لروائي نوبل (نجيب محفوظ).
لست أدري حقيقة من وراء اختيار فريق (آل دياب) الفني الذي يشبه في تأثيره إلى حد كبير التأثير المزمن لمادة (الأفلاتوكسين)، وهى عبارة سم طبيعي يتكون على المحاصيل الغذائية، ويسبب الإصابة بمرض السرطان، ويضعف الجهاز المناعي، ويحول دون نمو الجسم، ويسبب أمراض الكبد، وكذلك الموت بين البشر والحيوانات على حد سواء، تماما كما هو تأثير الفن الذي يقدم على طريقة هذا (الثلاثي الشرير)، والذي لا ينتبه كثير منا لتأثيره الخطير على الذهنية المصرية والعربية من أسباب تؤدي بالضرورة إلى اعتلال في المزاج العام، بفعل تركيزهم على السلبيات الموجودة داخل المجتمع وإظهارها على السطح بطريقة مريبة لاتخدم الفن أو المسئولية المجتمعية، بقدر ما تخدم أجندة الإخوان الخبيثة في ضرب البنية النفسية للمصريين وكراهيتهم للسلطة الحاكمة.
ومن الجدير بالذكر أن أفلام ومسلسلات هذا الثلاثي الخطير الذي يبث سموم (الأفلاتوكسين) الفنية في وضح النهار لا تشكل مخاطر صحية خطيرة فحسب على الجمهور المتعطش للفن الراقي، ولكن يعتقد أنها تضر بالجهود الرامية التي تبذلها الدولة حاليا في سعيها الحثيث نحو اعتدال الذوق الفني بإنتاج أفلام ومسلسلات تهدف إلى تحسين البيئة المحيطة بالإبداع كنوع من الأمان الذي يوازى الأمن الغذائي وتجارة الأغذية الدولية التي تستهدفها سموم الأفلاتوكسين، ذلك المنتج الثانوي المسرطن الذي يظهر بشكل طبيعي نتيجة لانتشار الفطريات على الحبوب وغيرها من المحاصيل، خاصة الذرة والفول السوداني، فهي نوع من السموم الفطرية، ومنتج شديد السمية يفرزه العفن الذي يتكون على كافة السلع الزراعية تقريباً في جميع أنحاء العالم، وهو يشبه إلى حد ما تأثير المنتج الفني (ثلاثي الأبعاد الديابية) عبر منتجاتهم من السينما والدراما التليفزيونية.
كان محمد دياب هو الذي بدأ ببث سموم (الأفلاتوكسين) الفنية في أولى تجاربه الإخراجية بفيلم “678”، والذي اتخذ من رقم أحد الأتوبيسات678 إسما له؛ لكونه مسرحا تتعرض فيه إحدى البطلات للتحرش الدائم بالإحتكاك المتعمد، وفي خبث شديد وتشويه متعمد للمرأة المصرية والمجتمع بشكل عام راح (دياب) يتشدق بأن الفيلم يعالج قضية التحرش الجنسي، من خلال طرح قصص ثلاث نساء من طبقات اجتماعية مختلفة؛ هن: (فايزة، ونيللي، وصبا) اللاتي يواجِهن المشكلة نفسها، وتدور الأحداث في زيفها المتعمد حول النسوة الثلاثة المحبطات لكن الأخطر في الأمر أن الفيلم يسجل فتور السلطات إزاء مطالبهن، وكأن رأس الدولة في مصر لا تلقي بالا بأي من مواطنيها، وهذا بالطبع لايشكل سوى أفكار شيطانية منبعها الأساسي (الجماعة الإرهابية) التي تستخدم القوى الناعمة في ضرب آسافين بين السلطة والشعب.
لقد اختلق (دياب) ثلاثة قضايا وهمية ليلقي بظلال كثيفة من الإحباط على ظواهر تعاني منها كافة شعوب الدول النامية ولست مصر وحدها على وجه التحديد، لكنه الفكر الإخواني الرجيم المتأصل في تضخيم القضايا واللعب بمشاعر الناس وتحفيزهم على التمرد على السلطة التي لا تهتم بمشاكلهم، في إطار الحريات التي تمنحها المواثيق الدولية المختلة التي لاتعرف طريقها سوى المنظمات العنصرية المستهدفة مصر بتقارير مزيفة حول الأوضاع المجتمعية للمرأة والأطفال والنشطاء وغيرها من أوراق تلوح بها في وجه الأنظمة والشعوب على سبيل الابتزاز الذي يخدم قوى الشر في العالم وعلى رأسهم الجماعة الإرهبية في سعيها الحثيث نحو إسقاط الدولة المصرية.
هذا عن كتاب السيناريو الذين يحملون أفكار متطرفة سوف تنعكس بالضرورة على تشويه رواية (كفاح طيبة) بقصد الإساءة لفكر وأدب وإبداع نجيب محفوظ في رواية (كفاح طيبة) حتى أنهم انتقدوا المعارضين تحت دعوى أن (الملك أحمس) لم يعرض بعد حتى يتسنى توجيه انتقادات فنية للعمل، صحيح أن معظم الاتهامات الموجهة إلى المسلسل شكلية من وجهة نظر صناعه لكنها تتضمن نقدا لاختيار الفنان عمرو يوسف لأداء دور الملك حيث لا يتشابه في الملامح مع أحمس الذي تكشف التماثيل الباقية له أن ملامحه أقرب إلى الملامح المصرية الخاصة بأهل الصعيد، سواء بالوجه النحيل أو اللون الأسمر والعينين السوداوين والشفتين الغليظتين وهو ما يرشح ممثلين آخرين لهم تلك الصفات والملامح مثل محمد رمضان الذي سرعان ما اندفع إلى التصريح بأنه الذي سيجسد دورا أحمس في وقت لم تهدأ فيه عاصفة إيقافه.
وتبدو خطورة منهج رمضان إنه انتقل بالمنافسة بين النجوم من الغيرة الفنية المشروعة، إلى حد الشماتة والتشفي بل والكراهية، وهو ما يعتبر جديدًا على الفن المصري، ففي الماضي كانت المنافسة مشتعلة بين أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب، وعبدالحليم حافظ وفريد الأطرش، ورشدي أباظة وعمر الشريف، وغيرهم، لكن الفارق أن جميعهم بلا استثناء التزم بما يفرضه الفن من رقي حتى في الصراعات، ولم يشهد تاريخ الفن في مصر مثل هذا التمادي في اصطناع الأحقاد، كما إن سجل محمد رمضان يفيض بافتعاله للأزمات وسلوكه الذي لا يتلائم مع ما يدّعيه من موهبة، فمثلاً كان مرشحاً لمشاركة أحمد السقا في مسلسله نسل الأغراب، غير إنه اعتذر تعالياً وتكبراً ومتعللاً بأنه الأكثر نجاحاً!، علماً بإن السقا يتفوق عليه خبرة ونجومية وإنجازات سينمائية مشهودة، كذلك دخل في تلاسن من طرف واحد – طرفه هو طبعاً – مع تامر حسني، وقت عرض فيلم البدلة أمام الديزل، وطبعاً خسر رمضان المعركة فنياً، وحقق البدلة أضعاف إيرادات الديزل.
ونعود للنقاط السلبية الموجهة للمسلسل وهى كثيرة في الواقع وكلها حقيقية، مثل أن عمرو يوسف في كافة المشاهد بلحية كثة مناقضا تماما لرفض المصريين القدماء لإطلاق اللحى واقتصار ظهورها لدى البعض على اللحية المستعارة خلال الاحتفالات الخاصة، كما أنه معروف أن المصريين القدماء كانوا يعتبرون اللحية رمزا للهمجية وعدم النظافة، وأن انتشار البراغيث في زمن الهكسوس كان دافعا لأفراد الشعب أنفسهم للقيام بحلق لحاهم وشواربه.
وتظهر لنا النقوش المصرية القديمة وتماثيل الملوك أنها لم تقدم شخصا واحدا له لحية أو حتى شارب سوى الملك (منكاورع) الذي كان له شارب خفيف، كما أن أحمس نفسه ظهر في الإعلان الترويجي للمسلسل مرتديا تاج ملك شمال مصر وليس جنوبها كما هو معروف في السياق التاريخي الصحيح، إضافة إلى ظهور تماثيل ضمن ديكورات المشاهد لشخصيات لم تكن موجودة في ذلك الزمن وإنما تعود إلى زمن الأسر الأولى وتحديدا عهد الملك منكاورع رغم وجود فارق زمني يصل إلى تسعمئة عام بين العصرين.
وبالنظر إلى تصميم الملابس فيعتبرها خبراء الآثار لا علاقة لها بالعصر المراد الحديث عنه في المسلسل، على الرغم من وجود مصممي ملابس محترفين ومتخصصين في ملابس الفراعنة، ويرى البعض أن كل ذلك كان من الممكن معالجته دون المساس بالرؤية الفنية للقائمين على العمل وسعيهم إلى تقديم عمل درامي يتواكب مع مقتضيات العصر، ولعل الذي أثار استياء واسعا هو طريقة اختيار النجوم في الأعمال الدرامية المصرية، حيث اعتبر مراقبين وخبراء في صناعة الدراما أنه وجه آخر للأزمة بعد أن رآه البعض (غير عادل ولا يساهم في اكتشاف مواهب جديدة) لاعتماده على فردية النجم الواحد.
ومن ثم عبر كثيرون عن غضبهم تجاه المسلسل لا انتصارا للتاريخ كما يتصور البعض إنما استياء من ترسيخ سياسة الفردية في صناعة الدراما من خلال اتفاق الشركة المنتجة مع نجم واحد له شعبية ومنحته حق اختيار باقي فريق العمل، من مخرج وكاتب سيناريو ومدير تصوير ومصمم ملابس وموسيقي ومشرف عام ومراجع تاريخي، حتى أن البعض رأى أن المخرج الحقيقي لمسلسل (الملك أحمس) هو بطله عمرو يوسف الذي حدد كيف يظهر وبأي تصور، ومع من، وفي أي لباس، وكيف يقاتل أو يتحدث، ويصر على عدم حلاقة لحيته ليس لدواع فنية، لكن باعتبارها جزءا من وسامته وصورته الذهنية.
وليست تلك هى المرة الأولى، فالممثل عمرو يوسف الذي أراه محدود الموهبة للغاية ودائما ما ينجح بنجوم الصف الثاني والثالث، كما حدث في (جراند أوتيل وطايع) وغيرهما من أعمال سابقة له، كما أنه له سوابق في إيقاف مسلسلات كبرى بسبب تصوراته الشخصية وإصراره على التدخل في كل كبيرة وصغيرة في العمل الفني، ففي العام 2019 تم التعاقد معه على بطولة مسلسل تاريخي عن (خالد بن الوليد)، ودخل في خلافات مع طاقم العمل وصلت إلى حد إلغاء المسلسل تماما.
أعتقد أن سياسة الفردية لا تنتج أعمالا فنية عظيمة، خاصة إذا كانت ستتناول تاريخ مصر ويتابعها الجمهور لما تحمله من مضامين سياسية بالغة، فلا يحق لأي عمل فني أن يقدم الرموز بطريقة تفتح معها باب السخرية، وإذا أراد ذلك لا يجب تقديمه على أنه عمل تاريخي بل يجب وضعه في إطاره الفني فقط، وربما ترجع تلك الأسباب لأن مشكلة الدراما مركبة في مصر وانعكاساتها ممتدة، فمن المهم ألا يترك الأمر لتصورات فردية دون مراجعة مؤسسية باعتبار أن المسلسلات، على خلاف الأفلام السينمائية، تدخل كل بيت وتمثل واحدة من قوى التأثير غير المباشر في العامة، ما يعني أن فكرة الفن للفن وحرية الفنان في تقديم تصوراته تحتاج إلى مراجعة ما لم تتضمن رؤية فنية متكاملة.
وأخيرا : في أفلام هوليوود، يختزل مجد الحضارة المصرية في صورة ملك شاب نحيل القوام، يرفع رأسه في تحد، ويمد يده إلى الأمام بالقوس، من فوق عجلته الحربية التي يقودها حصان يندفع بقدميه الأماميتين، ولا يمكن أن تمثل الحضارة المصرية من دون تلك الصورة الأيقونية، وإعادة إنتاجها مع كل ملك، وأول ملك تجلى في تلك الصورة هو (أحمس)، الذي فجّر أزمة مسلسل (الملك) بحيث اضطرت الشركة المنتجة إلى إيقاف تصويره، ثمة حجة قيلت بأن معظم الدراما التاريخية حافلة بالأخطاء، وهذا صحيح، لكن تمريرها بات أصعب في عصر (السوشيال ميديا) حيث يملك كل شخص صفحة لنشر رأيه.
وعلى الرغم من أن هناك من طالب باستكمال التصوير، لأنه ليس من حق الجمهور توجيه المبدع كيف يبدع، ولا يجوز الحكم على عمل قبل مشاهدته، لكن لابد لي أن أتساءل: لماذا يستكمل عمل قائم على منطق مشوه؟ .. المسألة هنا أقرب إلى تشييد بناية عملاقة على أساس هش، مع طلب عدم الحكم عليها قبل اكتمالها، إن المحاكاة التاريخية ياسادة تقوم على التقارب مع (الوقائع) لأنها مرجعها الأساسي، وليس على التنافر معها، إلا لو قصد من المعالجة السخرية، كما في فيلم (أوغاد مجهولون) الذي عالج شخصية (هتلر) في جو فتنازي، وأظن أحمس الذي بنى دولة قائمة على الحق والعدل بعد بطولته في طرد الهكسوس بعيد الشبه تماما عن هتلر النازي الذي انتهى نهاية مأساوية جراء أفعاله الرجيمة.