حسن فايق .. ناقد اجتماعي لهموم وطنه وجمهوره (2)
* الهيروين أقوى سلاح استعماري يمكن أن يؤثر على المجتمع
* واجه حربا من رجال السلطة بسبب منولوجاته الانتقادية ولكنه كان يرفض الاستسلام
* كانت بدايات حسن فايق السينمائية على يد صديقه اللدود (يوسف وهبي)
* رغم كثرة الأفلام التى قدمها إلا أنه كان يعتبر تمثيله لها مجرد( أكل عيش)
* عانى من محنة المرض التى سببت له الحزن والشقاء حوالى 15 عاماً
كتب : أحمد السماحي
خرج الفنان الكبير الراحل (حسن فايق) – والذي حلت ذكراه قبل أسبوع – من عباءة أولاد البلد الجدعان من قلب الشارع المصري البسيط الطيب القادر على إضحاك (طوب الأرض)، هكذا تم وصفه على هذا النحو في الحلقة الأولى،الأسبوع الماضي، واليوم نستكمل تفاصيل الحواري والشوارع التي ظل يتفاعل معها بحسه الكوميدي الساخر، مركزا في أعماله الفنية على المشاكل الإنسانية البسيطة، ليعيد تكبيرها مجسدة على خشبة المسرح أو على شاشة السينما، ولكن دون أن تفتقد أدنى مصداقية لها، فقد قدم لنا الراحل الكبير في أعماله الفنية التى يغلب على معظمها الكوميديا نماذج شديدة الإنسانية والحيوية والطيبة، نماذج نراها جميعا ونعيش معها رحلتها اليومية على ذات الدرب.
ورغم أن ذكراه الأربعين – مرت في صمت يشبه صمت القبور الذكرى – لوفاة واحد من كبار نجوم الكوميديا فى مصر، إلا أننا سنظل نكشف سر خلوده الفني الذي يكمن فى ضحكته الطفولية، ودهشته البريئة، وقلبه الأبيض، هذه العناصر الثلاثة (الضحكة، والدهشة، والقلب الطيب)، فضلا عن موهبته الربانية جعلت منه نجما أسطوريا تحدى الزمن، وظل فى وجدان وذاكرة الجمهور العربي، حتى الآن و بعد رحيله بـ 40 عاما فتعالوا معا نستكمل ما بدأناه.
منولوجه الشهير الكوكاكين
لم يكتف (حسن فايق) بالسياسة المباشرة بل راح يكتب ويغني فى النقد الإجتماعي وخاصة موضوع تعاطي المخدرات الذى انتشر جدا فى هذا الوقت ودور الاستعمار فيه فقال مثلا: ( الهيروين ده أقوى سلاح استعماري، والمصري سارقاه السكينة ماهوش داري، الهيروين ده سلاح قاطع لاستعبادنا، ايدكم فى ايدنا ونخلص منه بلادنا)، وكتب أيضا منولوجه الشهير الكوكاكين الذى يقول مطلعه: (شم الكوكايين خلاني مسكين، مناخيري بتون وقلبي حزين، وعيني في راسي رايحين جايين)، كما قدم منولوج بعنوان (على القرافة)، وآخر بعنوان (الجواز أحسن).
كان (حسن فايق) يلقى حربا من رجال السلطة الذين كانوا يمنعونه من العمل بسبب منولوجاته الإنتقادية ولكنه كان يرفض الإستسلام، فحين كان (رسل باشا) وزير الداخلية البريطاني يصدر تعليماته بمنع هذا الفنان من العمل كان حسن فايق يتحداه بأن يكون فرقة صغيرة مستعينا ببعض الأموال التى كان يتدبرها من بيع مصاغ زوجته السيدة نعيمة ثم يسافر إلى أقصى الصعيد ويطوف بفرقته الأقاليم ليواصل إلقاء أزجاله ومنولوجاته الوطنية بين فصول المسرحيات، ثم فى المدارس والاجتماعات والنوادي الخاصة والعامة.
العودة إلى المسرح
كان المسرح بالنسبة لـ (حسن فايق) عشقه الأول الذى وجد نفسه فيه، فعمل فى معظم الفرق المسرحية فى تلك الفترة، وعندما (عاد يوسف) وهبي من إيطاليا عام 1923 وكون فرقة رمسيس انضم إليها لمدة عام، لكن يبدو أن (وهبي) لم ينس له أنه عمل فى فرقته، لهذا لم يسند إليه الدور الذى يناسبه مما اضطره إلى ترك الفرقة، والعمل مع فرقة (فاطمة رشدي) لمدة عامين، وشاهده (نجيب الريحاني) فى إحدى المسرحيات، وطلب منه الانضمام إلى فرقته، وسعد جدا بهذا الطلب، والتحق بالفعل بالفرقة، ورغم سعادته بالعمل مع (نجيب الريحاني) بالرغم من أجره البسيط حوالي 15 جنية، إلا أن سعادته لم تدم طويلا حيث قام (الريحاني) بحل الفرقة بسبب أزمة مالية طارئة جعلته يبتعد عن المسرح ويعيد ترتيب أوراقه، فانضم (فايق) إلى الفرقة القومية التى أفتتحت عروضها عام 1935 بمسرحية (أهل الكهف) للكاتب (توفيق الحكيم)، لكنه سرعان ما اختلف مع مديرها الفنان والمخرج (ذكي طليمات) فترك له الفرقة هو ومجموعة من الممثلين وكونوا فيما بينهم فرقة اسموها فرقة (الممثلين المفصولين)، كان مصيرها هى الأخرى الحل بعد فترة وجيزة.
فى هذه الأثناء أعاد (الريحاني) تكوين فرقته التى كانت تعيش حالة من النجاح والاستقرار لم تعرف له مثيل من قبل، فأدرك (حسن فايق) أن مكانه الطبيعي فى هذه الفرقة، فانضم إليها وقدم معها العديد من المسرحيات الناجحة منها (ملك الصابون، الدلوعة، الستات مابيعرفوش يكدبوا، حسن ومرقص وكوهين، الشايب لما يدلع) وغيرها، وظل بها حتى بعد وفاة صاحبها (نجيب الريحاني) فى شهر يونيو عام 1949.
وبعد خلافه مع (بديع خيري) مدير الفرقة بسبب مساحة الأدوار التى كانت تسند إلي (فايق) والتى لم تكن ترضيه، ترك الفرقة، وفى عام 1955 إنضم إلى فرقة (إسماعيل ياسين)، ولم يطل المقام بـ (حسن فايق) فى فرقة (إسماعيل ياسين) المسرحية لأنه حسبما كان يردد لم تعجبه الأدوار التى كانت تعرض عليه، وحينما بدأت فرق مسرح التليفزيون عام 1960 انضم إلى أحداها تحت إشراف الفنان الشامل (السيد بدير)، لكنه أيضا لم يستطع الاستمرار بها، فتفرغ تماما لأعماله السينمائية وبعض مسلسلات الإذاعة.
السينما في حياة فايق
كانت بدايات حسن فايق السينمائية على يد صديقه اللدود (يوسف وهبي) بطل ومنتج فيلم “أولاد الذوات” عام 1932 الذى رشحه لأداء أول أدواره السينمائية في أول فيلم ناطق، لكن هذه البداية لم تلفت إليه الأنظار، وظل بعد هذا الفيلم بعيدا عن السينما لمدة ثلاث سنوات وفى عام 1935 استعان به صديقه الفنان (ستيفان روستي) فى فيلمه (عنتر أفندي)، ثم فيلم (بسلامته عايز يتجوز) مع (نجيب الريحاني)، الذى كون معه ثنائيا ناجحا فى أكثر من فيلم منها ( سلامه فى خير، سي عمر، لعبة الست، وأبوحلموس).
وتوالت أفلامه السينمائية التى تعدت الـ 150 فيلم كان آخرها فيلم (خطيب ماما) بطولة (مديحة يسري ونبيلة عبيد)، وإخراج (فطين عبدالوهاب)، ومن أشهر أفلامه (فيروز هانم، عيني بترف، بلد المحبوب، فتاة السيرك)، ورغم كثرة الأفلام التى قدمها إلا أنه كان يعتبر تمثيله لهذه الأفلام مجرد( أكل عيش)، وفى حديث صحفي لجريدة (أخبار اليوم) عام 1964 قال: (يا خسارة التليفزيون مالحقش يصور مسرحياتنا القديمة أيام التمثيل الحقيقي، ياريته كان موجودا من زمان دلوقتي الأجيال اللي جاية جديد مالهاش فينا غير الكام فيلم اللي مثلناها).
طريقته التمثيلية
من أهم سمات (حسن فايق) سواء فى السينما أو المسرح انه ذا لون وطابع مميز وأسلوب خاص فى الإضحاك، فالسمة الغالبة عليه كممثل كوميدي هي الدهشة المرسومة على ملامحه وعينيه فى أغلب المشاهد التى مثلها، فهو مندهش من تصرفات الآخرين، ثم لا يلبث أن ينقل لك كمتفرج أبعاد هذه الدهشة، كما كان يملك طريقة طريفة فى التمثيل الكوميدي انفرد بها وهي طريقته المليئة بالعصبية، وحركته الحيوية، وتلقائيته التى تجعله يتصرف بمنطق أنه ليس على العبيط أي حرج.
حياته الخاصة
كان (حسن فايق) من الفنانين الذين لا يحبون كثيراً التحدث عن حياتهم الخاصة، وكان حريصاً على إبعاد أسرته عن الأضواء، لكنه كان يؤمن بأن المرأة مخلوق أضعف من الرجل، لذا يتعمد ألا يشعرها بأنها تابعة، بل الآمرة الناهية، صاحبة الرأى الأول والأخير فى كل شىء، وفى حوار قديم له قال أنه طوال الأربعون عاماً التى قضاها مع زوجته الأولى لم يقل مرة واحدة كلمة لا، وكان دائماً يقول حاضر، أمرك، “زى ما تشوفي”، مضيفاً أن ذلك لم يكن لأنه ضائع الشخصية أو تابع فعلاً، ولكن لإيمانه بأنها أرق وأضعف من أن يصدمها بضعفها.
وأشار إلى أنه خلال السنوات التى عاشها مع زوجته الأولى لم يدخن، لأنها كانت تكره رائحة الدخان، فلما تزوج بعدها تعلم التدخين – على كبر – لأن زوجته الجديدة تحب رائحة الدخان، وقد تزوج مرتان، الأولى من السيدة (نعيمة صالح) التى أنجبت له ابنتان هما (وداد وعلية)، وعاش معها 40 عاماً حتى توفاها الله.
أما الزيجة الثانية فكانت عام 1960 من فتاة اسمها (حورية صبور)، وكانت فى الثلاثين من عمرها، وقد تعرض حينها لحملة قاسية من الصحافة، حيث هاجمته بعنف لأنه تزوج فتاة تصغره بثلاثين عاماً، بالإضافة إلى أنه لم ينتظر حتى تمر ذكرى الأربعين على رحيل زوجته وأم بناته، مما اضطره لأن يدافع عن نفسه، ويتحدث عن ظروف تلك الزيجة فى حوار صحفي فقال :(أنا رجل اعتدت الحياة الأسرية، وشقيقتي جاءت لتعيش معي بعد رحيل زوجتي، وليس من المعقول أن تترك بيتها وزوجها للتفرع للعناية بي، خصوصاً أن بناتي تزوجوا، ورجل فى مثل سني يحتاج إلى من يرعاه ويخدمه، وأنا لن أقبل أن تكون هذه الرعاية من خادم أو خادمة، لذلك تزوجت، وأضاف أن بناته غضبوا فى البداية، لكنهم بعد ذلك تفهموا موقفه، واقتنعوا لأنهم جميعاً تزوجوا ولهم حياتهم).
النهاية
إذا كان (حسن فايق) نجح فى رسم الضحكة على شفاه ملايين المشاهدين الذين شاهدوا أفلامه ومسرحياته، فقد عانى من محنة المرض التى سببت له الحزن والشقاء حوالى 15 عاماً، فقى أحد الأيام من عام 1965 كان جالساً فى أحد محلات الأحذية، فإذا بفنجان القهوة يرتعش فى يده، ثم يسقط على ثيابه، فخجل من نفسه، وتلفت حواليه يبحث عمن يجفف له بذلته، وفى ثوان سقط على الكرسى دون حراك، وتقدم أحد الأطباء الذى تصادف وجوده فى المكان ليقول بأن الفنان أصيب بالشلل النصفي!.
ولم يقتصر الأمر على المرض فقط، إذ عانى أيضا من تجاهل المسئولين لعلاجه، فاضطر أن يرسل مذكرة للمسئولين للتدخل من أجل علاجه، فكان يعالج على فترات على نفقة الدولة، وبالإضافة لذلك، فلم يعد يزوره أحد من أصدقائه الفنانين، ولم يخفف عنه قليلاً سوى القرار الذى أصدره الرئيس الراحل (محمد أنور السادات) بصرف معاش استثنائى له.
وقد عاش سنواته الأخيرة ما بين المنزل والمستشفى التى كان يتلقى فيها جلسات العلاج، ولم يخرج من المنزل سوى مرات قليلة، ففى أحد المرات جاءه الحنين لمسرح الريحاني، فتحامل على نفسه وترك منزله وذهب للمسرح، وجلس فى شباك التذاكر يتأمل الجمهور، فانهمرت دموعه وزاد اكتئابه، وفى مرة ثانية حضر حفلاً أقيم فى مستشفى العجوزة للترفيه عن أبطال حرب اكتوبر فى حضور السيدة جيهان السادات، وقبل وفاته بأسبوع أصيب بهبوط عام، ودخل المستشفى، وفى يوم 14 سبتمبر عام 1980 توفى صاحب أشهر ضحكة فى السينما، والذى أمتع الملايين بأدواره الكوميدية فى المسرح والسينما.