بقلم : محمد حبوشة
مما لاشك فيه أن مهرجان (الجونة السينمائي) إضافة مهمة جدا لمهرجانات السينما المصرية، حتى ولو كان هدفه – كما يقول بعض الخبثاء – الترويج السياحي لمنطقة الجونة لصاحبيها (نجيب وسميح ساويرس)، ومن ثم فقد ذهب هؤلاء بشطط حديثهم إلى أنه لا يصب بالأساس في المساهمة الفاعلة في صناعة السينما المصرية التي تعيش أكبر أزمة في تاريخها حاليا، سواء كان ذلك بسبب (كورونا) أو ضعف التمويل الذي تقدمه وزارة الثقافة ممثلة في الدولة لدعم صناعة كانت تساهم في بداياتها نشأتها – أيام طلعت حرب – في الدخل القومي المصري بضخ أموال ضخمة تدعم عجلة الاقتصاد.
صحيح أن المهرجان ليس له صفة دولية معترف بها، لكنه يعد تظاهرة فنية لافتة للانتباه في هذه المنطقة الحيوية من العالم، ويكفي أنه يساهم في التنمية السياحية التي تصب بالضرورة في شرايين التنمية الشاملة في مصر في ظل أزمة كورونا وما قبلها وما بعدها من آثار عرقلت عجلة السياحة المصرية بفعل شيطاني رجيم من جانب (جماعة الإخوان الإرهابية) التي تسعى لزعزعة الاستقرار والأمن لتكون أسبابا مباشرة لعزوف السياح عن الاتجاه إلى أكبر وأهم منصة سياحية في العالم وهى مصر بآثارها التي تشكل ثلثي آثار العالم، فضلا عن اعتدال مناخها صيفا وشتاء.
خمسة عقود أنبتت خلالها السينما العربية سلسلة من المهرجانات الدولية، امتدت من مهرجانات (القاهرة السينمائي الدولي إلى دبي وأبو ظبي والشارقة في الإمارات إلى أيام قراطاج ومراكش والصحراء في دول المغرب العربي، مرورا بمهرجان دهوك العراقي والأردن الدولي، والجونة وأسوان والإسكندرية في مصر)، وليس انتهاء عند أحدث المهرجانات العربية في الخرطوم، و(مهرجان البحر الأحمر السينمائي) في السعودية الذي يوشك على تقديم إطلالة مثيرة في عالم الترفيه العربي.
وعلى الرغم من هذا الانتشار الكبير تعاني بعض المهرجانات العربية ضعفاً في الإمكانات ينعكس على قدرتها التنافسية في استقطاب الأفلام العالمية وكبار النجوم في صناعة السينما، ويضيف الخبراء عوامل أخرى تكمن في محدودية انتشار وتأصل الثقافة السينمائية في المجتمعات العربية وغياب الخطة الثقافية الشاملة في العديد من الدول العربية فضلا عن آليات سوق صناعة الأفلام التى وقعت فريسة للعوامل التجارية على حساب الفن.
ومن هنا كنا نطمح في أن يكون مهرجان (الجونة السينمائي) واحدا من أهم تلك المهرجات العربية التي تؤثر بشكل إيجابي على صناعة السينما من ناحية، ومن ناحية أخرى ينجح في التأثير على ذوق المشاهد العربي، لكن لاحظنا خلال دوراته الثلاثة الماضية صار مجرد (سجادة حمراء) يستعرض من خلالها النجوم والنجمات إطلالتهم المميزة دون المشاركة بأعمال سينمائية أو في الفعاليات التي تصب في خانة دعم صناعة السينما، كما أنني لاحظت عشوائية إدارته في اتخاذ القرار السليم باختيار من يستحقون التكريم تحت مسمى (جائزة الإنجاز الإبداعي)، فقد أعلنت إدارة المهرجان في مناسبة تدشين دورته في طبعتها الرابعة، عن منح جائزة (الإنجاز الإبداعي) لكل من النجم (خالد الصاوي)، ومصمم المناظر المميز (أنسي أبو سيف)، والممثل الفرنسي الشهير (جيرارد ديبارديو).
ولست أدري ماهى الحكمة من منح تلك الجائزة لنجوم مازالوا في طور الشباب، مثل (خالد الصاوي)، ومن قبله (أحمد السقا ومحمد هنيدي) في الأعوام السابقة، علما بأن مسيرة (خالد الصاوي) السينمائية لا تستحق تكريما كبيرا بهذا القدر، ويمكن أن يؤجل لعشر سنوات قادمة، خاصة أن إنجازه الأكبر في الدراما التليفزيونية والمسرح وليس السينما التي لم يسند له فيها دور البطولة التي تستحق جائزة (الإنجاز الإبداعي)، كما لايوجد له فيلم واحد ضمن أهم مائة فيلم في تاريخ السينما، اللهم إذا كان عنصر المجاملة يتدخل في الاختيار، والحقيقة أنني لا أقلل من شأن (خالد الصاوي) كممثل موهوب وصاحب تجارب تمثيلية رائعة في الدراما التليفزيونية التي تشهد له بالكفاءة والتميز، لكنه مهرجان سينما ياسادة، يفترض أن تمنح جوائزه لأصحاب الإنجاز الإبداعي عن جدارة في مجال السينما.. أليس كذلك؟
في مصر والعالم العربي، هنالك من يستحق تلك الجائزة أكثر من (الصاوي)، خاصة أنهم يحملون على أكتافهم تراثا سينمائيا هائلا يمكن أن يوصف بالإنجاز الإبداعي الحقيقي، ومنهم على سبيل المثال وليس الحصر النجوم (حسن يوسف، محمود يس، على عبد الخالق، بشير الديك، خيري بشارة، وحيد حامد، عزت العلايلي، على بدرخان، رمسيس مرزوق، يوسف شعبان، صلاح السعدني، محيي إسماعيل، يحيى الفخراني، حسين فهمي، مصطفى فهمي، محمود قابيل، محمود حميدة، نيللي، نبيلة عبيد، نادية الجندي، سميرة أحمد كمنتجة وممثلة، لبنى عبد العزيز، بوسي، نجلاء فتحي، ومرفت أمين، ليلى علوى، إلهام شاهين) وغيرهم من سقطوا من بقايا الذاكرة المنسية لإدارة الجونة، وكلها قامات سينمائية أظنها تستحق التقدير والاحترام، وتتوفر فيهم جميعا صفة (الإنجاز الإبداعي)، فضلا عن أن غالبيتهم لهم أفلاما ضمن أهم مائة فيلم في تاريخ السينما المصرية.
أليس أولى بإدارة مهرجان (الجونة السينمائي) أن تهتم بالبعد التاريخي لهولاء النجوم وأعمارهم التي تجاوزت السبعين والثامنين عاما، ومن ثم يستحقون التكريم في حياتهم، ثم أليس حريا بهذا المهرجان أن يكون له صبغة عربية – على الأقل – بحكم أن رئيسه العراقي (انتشال التميمي)، وذلك بتكريم بعض النجوم العرب من (سوريا ولبنان والأردن وفلسطين والعراق، ودول المغرب العربي ممن يشهد لهم بالكفاءة والتميز وعلى رأسهم النجوم الكبار (دريد لحام، رفيق على أحمد، سالوم حداد، رشيد عساف، بسام كوسة، غسان مسعود، محمد مفتاح، فتحي الهداوي، شذا سالم) وغيرهم من نجوم لامعة في ظل تقارب المسافات الذي أحدثته التكنولوجيا الحديثة وانتشار الفضائيات التي كسرت القيود، وحطمت مبدأ الشيفونية في الانحياز لفن بلد على حساب الآخر.
الهدف الأساسي من انطلاق مهرجانات السينما ليس لهدف عرض الأزياء واختيار نجوم بعينهم للتكريم ذرا للرماد في العيون ليس إلا، أو من باب المجاملة الفجة التي تفقد المهرجان سمعته ورسالته القيمة، بل يبقى الهدف الأسمى هو أن يكون المهرجان منصة قوية تقدم أفلاما أقوى، وتقيم فعاليات تصب في خانة تلك الصناعة التي أصبحت تتواري للخلف كثيرا في ظل تعدد وانتشار المهرجانات التي تظل مشغوله (لايف) وعلى الفضائيات طوال أيام انعقاد دوراتها بمفارقات ومفاجآت تافهة حول فستان النجمة (فلانة)، أو انحراف سلوك النجم (علان) لأنه (لامؤاخذه كان متقل في الشرب حبتين).
لابد أن يساهم مهرجان الجونة وغيره من مهرجانات عددها يفوق عدد الأفلام المنتجة طوال العام – تلك قضية أخرى سوف نتعرض لها تفصيليا فيما بعد – في دعم صناعة السينما، وذلك على غرار ما ناقشه (مهرجان الجونة) نفسه في سبتمبر، 2018، في دورته الثانية، حيث أقامت (منصة الجونة السينمائية) الحدث السينمائي الذي يركز على الصناعة، والذي يهدف لتقوية ودعم المشاريع السينمائية العربية والمصرية وصناع الأفلام من خلال مساعدتهم في إيجاد الدعم الفني والمادي، بتقديم حلقة نقاشية بعنوان (دور المهرجانات السينمائية)، وأقيمت بقاعة (أوديماكس) والتي أدارتها (ديبوراه يونج)، الصحفية بمجلة (هوليوود ريبورتر).
ويحسب لتلك الحلقة أنها ضمت مجموعة المتحدثين، وهم كل من نجيب عايد المدير العام لمهرجان قرطاج السينمائي، وفيديريك بوير المدير الفني لمهرجان ترايبيكا السينمائي، وسارة هوك مؤسسة ومديرة مهرجان جواناجواتو السينمائي الدولي، وتينا لوك مؤسسة ومديرة مهرجان تالين الليالي السوداء السينمائي، وهيدي زويكر مبرمجة مهرجان صن دانس السينمائي، هذا وقد عكس المستوى الرفيع للمتحدثين خلال الندوة الأهمية التي اكتسبها مهرجان الجونة السينمائي ضمن المهرجانات السينمائية العالمية، كما علق العديد من المتحدثون على كون الشخصية المتفردة التي تميز مدينة الجونة قد أسهمت في وضع المهرجان ضمن مصاف المهرجانات السينمائية في المنطقة والعالم، بغض النظر عن كون المهرجان حديث نسبيا.
المهم بعد وصلة النفاق لمهرجان الجونة من جانب المتجدثين، أن النقاش في تلك الحلقة تطرق إلى المشاكل التي تواجه المهرجانات السينمائية في المنطقة، كقرار إيقاف مهرجان دبي السينمائي وانعكاساته على صناعة السينما العربية والأفريقية، كما ناقش المتحدثون التغيرات التي طرأت على المهرجانات السينمائية على مدار الأعوام السابقة، بالإضافة لتطور الدور الذي تلعبه لخدمة المهتمين من صناع أفلام ونقاد وجمهور المشاهدين، فبينما تم الربط بين تفرد شخصية كل مهرجان وتحقيق النجاح، قال المتحدثون أن العديد من المهرجانات الحديثة تفتقر الى الرؤية وترتكز على الشق التجاري، والذي على الرغم من أهميته في تمويل المهرجانات، إلا أن ذلك الدور لا يجب أن يطغى على البعد الفني للمهرجانات السينمائية.
وذهبت الحلقة النقاشية التي أقامها (مهرجان الجونة) إلى نقطة جوهرية مفادها: أنه كما تغيرت ثقافة المهرجانات الفنية فقد تطور الدور الذي تلعبه في الصناعة أيضا، حيث أصبحت المهرجانات الآن تركز على الصناعة وليس المشاهدين، حيث أصبح نجاح المهرجانات اليوم مرتبط بشكل رئيسي بالعلاقات التي يملكها مديروها بمجتمع صناعة الأفلام محليا، وإقليميا ودوليا، وذلك لكون المهرجانات السينمائية قد أصبحت منصات للتبادل المعرفي، بالإضافة للدور الهام الذي تلعبه في تسويق الأفلام خلال مراحل الإنتاج المختلفة، وتلك نقطة في الواقع كانت مبهمة، حيث لم يوضح المتحدثون نوعية الدعم ولا حجمه ولا طريقة تقديمه، بل ظل النقاش يرواح مكانه دون أية جدوى ممكنة تصب في خانة دعم الصناعة على وجه اليقين.
وتطرق المتحدثون إلى أنه كما أصبحت المهرجانات تلعب دورا مباشرا في الإنتاج، – ولست أدري ما الذي يرمون إليه بهذا الدور المباشر في الإنتاج – وهى آخر صيحات مجتمع صناعة الأفلام، وخاصة في المناطق التي تعاني من الصعوبات الاقتصادية وانعكاس ذلك على الصناعة فبينما بدأت تلك الظاهرة استجابة لحاجة الصناعة في بعض المناطق، فقد أصبحت الآن وسيلة ناجحة ومربحة لإدارة المهرجانات على مر السنين، كما ساعد ذلك على دعم شبكة اتصالات المهرجانات بالصناعة وزيادة مدى تأثيرها، وهذا كلام للأسف يجافي المنطق والحقيقة، فلا أحد ينتبه إلى تلك المناطق التي تعاني صعوبات اقتصادية كما ادعى بعض المتحدثين.
فبينما ناقش المتحدثون الصعوبات التي تواجه الصناعة عموما، فقد أوضحوا الدور الذي تلعبه مهرجاناتهم في دعم الصناعة بشكل خاص، كما ركزوا على كون تفرد شخصيات مهرجاناتهم قد ساعدت في خدمة مجتمعات صناعة الأفلام المحلية، فعلى سبيل المثال، وربما كانت النقاط الإيجابية في هذا النقاش ما قاله نجيب عايد أن تونس لم تكن تمتلك صناعة أفلام لدى إنطلاق مهرجان قرطاج السينمائي عام 1966، وأن صناعة السينما تطورت في تونس بعدها لتصبح اليوم ذات سمعة عالمية، كما تحدثت (هوك) عن الدور الذي يلعبه مهرجان (جواناجواتو السينمائي الدولي) وكيف أنه أصبح أحد أهم المعالم السياحية في المكسيك، لكونه يتيح للجمهور متابعة الأفلام مجانا، وهو ما جعل المهرجان اليوم يعد أحد أبرز التراث المكسيكي.
كلام (عايد وهوك) كان هو الإنجاز الحقيقي لتلك الحلقة النقاشية التي أقيمت على أرض (الجونة) الذي لم يقدم حتى الآن أي نوع من الدعم المباشر لصناعة السينما في مصر، بعد مرور دورتين على إقامة حلقته النقاشية، بينما يحظى برعاية الدولة ممثلة في وزارة الثقافة، لذا ينبغي أن تعود الدولة لدعم صناعة السينما المصرية من جديد، لاسيما إنه منذ 5 سنوات تقريبا فإن الدولة لا تقوم بدعمها، فقد كان هناك دعم بحوالي 25 مليون جنيه لهذه الصناعة، لكنه توقف للأسف منذ فترة طويلة، وينبغي أن يكون هذا الدعم موجها في مجالات مختلفة مثل معاهد السينما، كما يمكن توفير دعم أيضا لإنتاج أفلام سينمائية جديدة الفترة المقبلة، فضلا عن إنه يمكن خدمة المواهب الجديدة التي تحب السينما وتدرسها، إذن لدينا أوجه كثيرة ومتعددة يمكن توفير دعم لها من أجل الارتقاء بهذ الصناعة للأفضل وتطورها فى المستقبل بدلا من حالة الضياع التي تعانيها الآن.
وأخيرا وليس آخرا: نهمس في أذن إدارة مهرجان الجونة: رجاء ألا تسرفوا كثيرا في الترويج السياحي للمنطقة التي تمتلكونها على حساب القيمة والهدف، مستغلين رعاية الدولة والنجوم الذين يتم توظيف إطلالتهم لنفس الهدف، دون وجود رسالة حقيقية من وراء إقامة مهرجان سينمائي ينبغي أن يتطور عاما تلو الآخر على مستوى المضمون الثقافي، وليس على مستوى الشكل الترفيهي الذي يجعل منه مجرد سجادة لعرض أزياء النجوم فقط!!.