التوراة جاءت من جزيرة العرب
بقلم : فراس نعناع
يقول الباحث الدكتور كمال الصليبي في كتابه “التوراة جاءت من جزيرة العرب” موضحاً:
لابد من معرفة الفرق الأساسي الهام بين مفهوم “بني إسرائيل” ومفهوم “اليهود واليهودية” فبنو إسرائيل كانوا في زمانهم شعباً دان باليهودية، وقد كان لهم بين القرن الحادي عشر والقرن السادس قبل الميلاد، مُلكاً في بلاد السراة “في جنوب الحجاز” المعروفة اليوم “بعسير” وقد زال هذا الشعب من الوجود بزوال مُلكه.
ولذلك فإن الادعاء “الصهيوني” الحديث بأن اليهود ليسوا مجتمعاً دينياً فحسب بل شعبٌ وريثٌ لبني إسرائيل ، وأن له الحقوق التاريخية لبني إسرائيل ،إنّما هو ادّعاء باطل اصلاً، لأن بني إسرائيل شعب باد منذ القرن الخامس قبل الميلاد.
إن الحقوق التاريخية للشعوب تزول بزوالها، فيهود اليوم ليسوا استمراراً تاريخياً لبني إسرائيل ليكون لهم شيء يسمّى حقوق بني إسرائيل ، وذلك سواءً أكانت أرض بني إسرائيل في فلسطين أو في غير فلسطين.
والواقع هو أن القرآن الكريم يقول بكلّ وضوح أن مقام إبراهيم كان ببكّة (سورة آل عمران ٩٦) وليس هناك في النصّ القرآني ما يشير إلى أيّة علاقة بين بني إسرائيل وأرض فلسطين، وقد كانت اليهودية ديانة آخر ملوك حميَر باليمن، وربما كانت واسعة الانتشار في مملكة حِميرَ منذ أن قامت عام ١١٥ قبل الميلاد.
ويقول القرآن الكريم أن هناك من اليهود من “يحرّفون الكلم عن مواضعه” وأنهم يفعلون ذلك “ليّا بآلسنتهم” (سورة النساء٤٦) وفي هذه الأية إشارة واضحة وبالغة الدقة في الوصف الى العمل الذي كانت تقوم به فئة دون غيرها من أحبار اليهود، وهم المعروفون بالمسّورين(أي أهل التقليد)، ابتداءً بالقرن السادس الميلادي، وقد استمر المسوريّون في عملهم هذا حتى القرن العاشر، ولم يرق عمل المسُّوريين هذا لغيرهم من أحبار اليهود المعروفين بالربانيين في البداية، لكن الربّانيين قبلوا ما عمله المسّوريين مع الوقت ، بحيث أصبح النص التوراتي المسُّوري المضبوط من التوراة هو النصّ المعتمد من اليهود، وقبل المسيحيّون أيضا بهذا النص المسُّوري للتوراة.
ومما سبق يقول كمال الصليبي في بحثه، بأن اليهودية لم تولد في فلسطين بل في غرب شبه الجزيرة العربية، ومسار تاريخ بني إسرائيل كما روي في التوراة العبرية ، كان هناك، وليس في مكان آخر.
هذا لا يعني أن اليهود لم يكن لهم أي وجود في فلسطين أو في غيرها من البلدان خارج غرب شبه الجزيرة العربية في أيام التوراة، بل جل ما يعني هو أن التوراة العبرية – أو ما يفضل المسيحون تسميته “العهد القديم” من الكتاب المقدس – هي بالدرجة الأولى سجل للتجربة التاريخية اليهودية في غرب شبه الجزيرة العربية في زمن بنى إسرائيل .
إن الدراسة اللغوية لأسماء الأمكنة في الشرق الأدنى، إذا أخذت في اعتبارها التوزيع الجغرافي لهذه الأسماء، توحي بأن لغة الكتب اليهودية المقدسة، المسماة تقليدياً اللغة العبرية، هي عبارة عن لهجة من لغات “سامية” كانت منتشرة في الأزمنة التوراتية في أنحاء مختلفة من جنوب شبه الجزيرة العربية وغربها ومن الشام (بما فيها فلسطين). ونظراً لعدم وجود تعبير أفضل ، فإن هذه اللغة تسمى في يومنا هذا “الكنعانية” نسبة إلى شعب توراتي كان يتكلمها، وإلى جانب الكنعانية كانت هناك لغة سامّية أخرى منتشرة في الوقت ذاته في شبه الجزيرة العربية والشام هي “الآرامية”.
ويرى الصليبي بأن الانتشار المبكر لليهودية من موطنها الأصلي في غرب شبه الجزيرة العربيةلى فلسطين وبقاع أخرى في الشمال اتّبع مسار القوافل التجارية العابرة لشبه الجزيرة العربية وفي العالم القديم، كان إقليم عسير في غرب شبه الجزيرة العربية مكان اللقاء للقوافل المحملة بتجارة بلاد حوض المحيط الهندي (الهند ، جنوب الجزيرة العربية، شرق أفريقيا) الآتية من اتجاه، والقوافل المحملة بتجارة فارس والعراق وبلاد حوض شرق البحر الأبيض المتوسط (الشام، مصر،عالم بحر إيجة) من اتجاه آخر. ونظراً لوقوع فلسطين في الزواية الجنوبية للشام، وبالقرب من مصر ، فقد كانت هي المحطة الساحلية الأولى لتجارة غرب شبه الجزيرة العربية في ذلك الاتجاه. ولا بد أن المستوطين اليهود الأوائل هناك كانوا من تجار غرب شبه الجزيرة العربية ومن رجال القوافل العاملين في تلك التجارة.
لم يكن اليهود أول من استوطن فلسطين قادماً من غرب شبه الجزيرة العربية، بل هناك “الفلسطينيّون” أي “الفلستيّون” الذين وصلوا، ولا شك، من غرب شبه الجزيرة العربية قبلهم، فصارت البلاد تعرف باسمهم. وهناك أيضا الكنعانيون، الذين نزحوا من غرب شبه الجزيرة العربية في زمن مبكّر، عندما “تفرقت” قبائلهم في الأجاء(سفر التكوين ١٠-١٨)، ليعطوا اسمهم لأرض كنعان(كنعن) على امتداد الساحل الشامي شمال فلسطين، في المنطقة التي سماها الإغريق فينيقيا (على اسم الفينقا في عسير).
وكون فينيقيا قد سميت كنعان من قبل سكانها أنفسهم أمر معروف من خلال قطعة نقد هيلينية من بيروت تصف هذه المدينة بالفينيقية بأنها “في كنعان” (ب – كنعن)، وبالإغريقية بأنها “في فينيقيا”. وفي كتابته عن “الفينيقيين” وعن سوريي فلسطين في القرن الخامس قبل الميلاد، لا يبدي المؤرّخ الإغريقي “هيرودتس” أي شك حول كون أصولهم من غرب شبه الجزيرة العربية. حيث يقول عن الاثنين: “هؤلاء الناس، واستناداً إلى روايتهم نفسها، قطنوا في القديم على البحر الأحمر، وبعبورهم من ذلك المكان، استقروا على ساحل البحر في سوريا ، حيث مازالو يقيمون”.
واستنادا إلى الكتب التاريخية للتوراة العبرية، فالواضح أن المملكة الإسرائيلية أسست في غرب شبه الجزيرة العربية بين وآخر القرن الحادي عشر ومطلع القرن العاشر قبل الميلاد، وإلى حد كبير على حساب مجتمعات مثل الفلستييّن والكنعانيين الذين كانوا من سكان تلك الأرض أصلاً، ولعل هجرة هؤلاء الفلستيين والكنعانيين، من شبه الجزيرة إلى الشام ازدادت حجماً في تلك الفترة على أثر الهزائم المتتالية التي ألحقها بنو إسرائيل بهم في مواطنهم الأصلية.
وفي فلسطين، يبدو أن الفلستيينّ أطلقوا على عدد من مستوطناتهم (مثل غزة وعسقلان) أسماء هي في الأصل أسماء لأماكن في غرب شبه الجزيرة العربية جاؤوا منها. والقرية الفلسطينية “بيت دجن” (معبد دجن، أو داجون) قرب يافا، ومازالت تحملا اسم إلههم في غرب شبه الجزيرة العربية.