كاسبار – قدرة اللغة على التعذيب
بقلم : فراس نعناع
تعودُ معرفتي ببيتر هاندكه لحوالي ثلاثينَ سنة مضتْ، فرضَ علينا المشرف على تخرجنا الأستاذ وليد قوتلي نص مسرحية كاسبار. مشروع تخرج الفصل الأول، حيث تخرجنا بمشروعين وكان عبأ ذهنياً وجسدياً كبيراً علينا كطلابِ مسرح.
كان يحضر البروفات عددٌ قليل من طلابِ قسم النقد والدراساتِ المسرحية معنا، أحد الطلاب كان صُحافيا بجريدةٍ رسمية، ومُشاكساً، فظاً . بعد انتهاء إحدى البروفات أخذني على جنب وضحك ضحكته الصفراء التي تشبهه، وقال لي: شو بدكن بالهصرعة معلمكن موعارف شو بدو، قلت له: انت شو رأيك وشو بدك؟ قلي اشتغلو نص لكاتب معروف حتى نعرف عن شو عم تحكو وشو بدكن، لحتى نكتب مادة محرزة عنكن. قلت له شفلنا شي نص لكاتب معروف لحتى نغير المشروع .ونخليك تفهمه وتكتب مادة بس لازم نحن نفهم عليها بالاول. تكرم عيونك أبو الشباب.
في حقيقة الأمر لم نكن نعرف عن هاندكه الشي الكثير منتصف الثمانينيات من قبل، حتى الأوساط الثقافية والفنية، ربما عددٌ قليل جداً جداً مما يعرف نتاجه. نقلت كلامي زميلي الطالب الناقد للمشرف بعد بروفة مجهدة مل ُطلاب الدفعة من تكرار التجريب عن فكرة يريدها المشرف أكثر ابداعاً و طازجة. نظر المشرف وليد قوتلي إلي مبتسما وقال : غدا لايوجد درس ولابروفة ، تعالو لعندي لكي نطبخ وكل واحد منكم يحضر أكلة .
بالفعل ذهبنا لبيت مشرفنا وأعددنا العديد من الأطباق السورية الشهية، ومن مختلف البيئات المطبخية التي ينتمي كل واحد من دفعتنا لها. كان طلاب دفعتنا وأنا معهم مرهقين من النص، بعد مشروعي السنة الثالثة “كوميديا ديلارتي، والثعلب والعنب” مع نفس المشرف. أرادو أن أتحدث مع المشرف بإسمهم بعد الانتهاء من الطعام لتغيير النص المرهق ، بدأتُ بالحديث. إلا أن المشرف الأستاذ وليد قوتلي قاطعني، وقال لنشرب نخب مشروعنا ، شربنا النخب. أرادت إحدى الزميلات فتح الموضوع مرة أخرى، قال لها: دعينا نستمتع قليلا ونستمع إلى موسيقا الفصول الأربعة لڤيڤالدي، ولم يسمح لنا بالحديث عن نية تغيير النص، فعلا استمتعنا بموسيقا ڤيڤالدي، أحسستُ بالدفء ، بيته كان دافئا، في شتاء كانوني قارص، أو ربما بقايا زجاجة النبيذ الجبلية الذي أحضرها معه من السويداء ابن دفعتنا، هي التي بثت ذلك الدفء.
في اليوم التالي، خلع معطفه الطويل ، والكاسكيت عن رأسه، ووضعهم على كرسي بجانبه. استديو البروفات في المعهد أيضا دافىء جدا، ونظيف وجديد، وأخرج ورقة من محفظته، وبدأ يقرأ “أسعدني جدا خبر قيامكم بمشروعكم لنصي كاسبار سأحاول الحضورإذا سنحت لي الفرصة ، كل التمنيات بنجاحكم والشكر لكم.. بيتر هاندكه” بالطبع ساد الصمت لبرهة. ثم بدأ المشرف بالحديث عن المسرح الطليعي وتأثيره على الجمهور، وعن تأثير اللغة الرسمية والشعبية على المجتمعات، ولكن بمفهوم تشجيعي لنا، وليس بالعمق المراد وبالتأكيد لم نكن لنفهم إن تحدث بعمق، تابعنا البروفات ووصلنا للعرض حيث لاقى المشروع استحساناً لدى النخبة المثقفة آنذاك والجمهورمعا.
كاسبار نصٌ يسمحُ لنا بالإستماع بشكل مختلف، والتفكير في كيفية فرض اللغة علينا من قبل مجتمع تكون ُ فيه المطابقةُ هي القاعدة، وتلقى خطابا استغلالياً مستبداً للفرد.
بعد أن انشهر بيتر هاندكه إبان الحركة الطلابية ١٩٦٨، وكان قد قدم مسرحية شتم الجمهور ثم كتب كاسبار، وحصل على جائزة شيللر ١٩٧٣، وبما أننا نتحدث عن شيللر الذي يعتبرُ الفنَ هو بالدرجةِ الأولى “المسرح”، حيث يرى بأن المسرح مؤسسةٌ ثقافيةٌ بكل ما في الكلمة من معنى رفيع. لأن هذه المؤسسة الثقافية تُرضي حاجاتٍ طبيعيةٍ في نفوس الناس ، وهي الحاجةُ إلى الجديد وإلى الغريب، كما فعل هاندكه بنصه “كاسبار” الذي يوحي بأن الأفرادَ مُلزمون بنفي أنفسهم تحتَ ضغط المجتمعاتِ التي يعيشون فيها.
إن تجربة كاسبر على خشبة المسرح هى الحاجة أو الرغبة في التوافق ومراقبة وتقليد كلام وتصرف شخص آخر لتأكيد الذات وبنفس الوقت نفي الذات، كما يمكن للأفراد اختراع أنفسهم باستخدام اللغة أيضا، فجملة ما تقولها يمكن من خلالها أن تجعلك مرئيا وملحوظا وأكثر فاعلية حيث الانفعال والاندماج تقوم على الفاعلية.
يحدد شيللر إحدى وظائف الفن بالتوازن الكلي للنفس وتحددها اللذة التي يبعثها الفن في الإنسان، بأمر أساسي هو الفاعلية.
فممارسة الفن أو التأليف الجمالي للفن إنما يحقق تحرير المرء من واقع الأشياء الذي تشكله الأشياء لذاتها ، في ظل قوانين الضرورة الطبيعية، ويستفيد من التحرر بأن يباشر فاعليته الذاتية، في أن يصنع للأشياء من خلال الكلمة والصورة “الشكل” واقعا جديدا هو الواقع الفني.
ورغم تشكل اللغة وتطورها وتوسعها إلا أن أثرها حدد آلية المجتمع الكبير وكيانه عبر موروثات اللغة ” الثقافية والدينية والاقتصادية والسياسية”
نحن كأفراد نشبه حالة كاسبار هاوز، وفي كل المجتمعات ، كاسبار العاجز عن الكلام والتي دمرته بطبيعة الأحوال، محاولات ذلك المجتمع .عبر فرض لغته الخطابية المكررة ، وفرض قيم مجتمعه المنطيقة حسب رأيها. مما جعلت تلك اللغة قادرة على تعذيبه “ربما تعذيبنا” ثم قتله.
كاسبار مسرحية تجريبية، بنيوية عن مفهوم اللغة بكل اشتمالاتها، ربما خاطبت حداثة عقولنا وربما اجتازته لما بعد حداثته، ولكنها واقع بل واقع مرير. ويبقى المبدع أذكى من (حارس البوابة) الرقيب.
بيتر هاندكه حصل على جائرة نوبل للآداب٢٠١٩