كتب : أحمد السماحي
اليوم تمر الذكرى الـ 71 على رحيل موليير العرب (نجيب الريحاني) الذي رحل عن حياتنا فى مثل هذا اليوم، وتحديدا في 8 يونيو عام 1949، عن عمر يقدر بـ 60 عامًا، بعد صراع مع مرض التيفويد، والذي أثر بالسلب على رئتيه وقلبه، ومن المفارقات الطريفة في حياة (الريحاني)، أنه رثى نفسه في إحدى الصحف، قبل 15 يوما فقط من وفاته، فكتب قائلا: (مات الرجل الذي اشتكى منه طوب الأرض وطوب السماء، إذا كان للسماء طوب، مات نجيب الذي لا يعجبه العجب ولا الصيام في رجب، مات الرجل الذي لا يعرف إلا الصراحة في زمن النفاق، ولم يعرف إلا البحبوحة في زمن البخل والشح، مات الريحاني في ستين ألف سلامة)، وهو القائل أيضا ذات يوم: (خير لي أن أقضي نحبي فوق المسرح من أن أموت على فراشي).
ولأنه كان عاشقا محبا لفن التمثيل الذي أصبح كل عالمه فأخلص له حتى النفس الآخير فمنحه ذلك حب الناس الذين أطلقوا عليه (فيلسوف الضحك في القرن العشرين)، والحقيقة أنه رغم رحيله عن عالمنا وغياب زمنه لم يتلاشى عطره وأخلاقياته ورسوخه كمعادل موضوعي للضحك النابع من القلب، لذا فقد عبر معنا الألفية الثالثة بروحه النقية على نهج الفيلسوف “هنري برجسون” الذي كان مؤمناً بغلبة الروح على القوة المادية، وكان يبني ذلك الإيمان على مثل السبب الذي اعتمده في تعليل الضحك، وهو أن التقدم الإنساني مرهون بتقدم الروحيات على الآليات، وأن الإنسان لم يخلق ضاحكاً ليصبح آلة مغلوباً بقوة الآلة، بل خلق ضاحكاً ليسخر من الآلات، ومن يردونه إلى حكم الآلات.
رحل الريحاني بعد أن أضحكنا كثيرا وأبكانا أيضا من فرط الكوميديا التي جاءت على لسانه عذبة نقية وتركنا أسرى لكوميديا سمجة وسطحية وتافهة تطاردنا من كل صوب وحدب، وبدلا من أن ترسم البسمة على شفاهنا كما كان يفعل (الريحاني) ذلك الفيلسوف الضاحك الباكي، حولت حياتنا إلى غم ونكد وحزن بسبب ثقل الظل والرذالة والاستخفاف، مرة على جناح النطاعة ومرات ومرات عبر الإيفهات التي سرعان ما تفقد معناها وأفقدت بالتالي الروح المصرية فكاهتها المعروفة عنها، فمنذ قدم الدهر ومرور الأزمان والمصري معروف عنه أنه (ابن نكتة) حتى حل هؤلاء مثل الجراد الأحمر الذي التهم الأخضر واليابس، فجرف تربة الكوميديا وجعلها مسخا ومن ثم جعلنا نترحم على زمن الريحاني وغيره من صناع الكوميديا في هذا الوطن.
اليوم قررنا ولأول مرة في الصحافة المصرية كشف علاقة “الريحاني” بالملك “فاروق” الذي تعرض لظلم كبير، فعلى عكس ما كتبوا وحكوا لنا عن كره الملك “فاروق” للفن، وأن الفن عنده يتلخص في ملهى “الأوبرج”، أوملهي “حلمية بالاس” أو غيرهما من الملاهي الليلية، لكن مع مرور الوقت وتحديدا منذ تجرأت الكاتبة والمبدعة الكبيرة “لميس جابر” وكتبت مسلسلها الجميل “الملك فاروق”، منذ هذا الوقت تغيرت صورة الملك فى عيوننا جميعا، ولم يعد ذلك الشبح الذي لا يفيق من شرب الخمر، والذي لا يتورع عن الارتباط بسيدات سيئات السمعة، والذي لم يكن يتعفف عن اشتهاء ومحاولة إغراء أية امرأة حتى وإن كانت مرتبطة بالخطبة أو الزواج، وبالطبع يتم ذلك عن طريق حاشيته أو مستشاريه الخصوصيين.
مع الأيام ومع بعض الإطلاع على الوثائق القديمة بدأت تتضح الصورة وتتغير تماما، وما أكد لي هذه الحقيقة أنني أثناء عملي على كتابي “مصر .. تغني الملك فاروق” – الذي سيصدر قريبا – والذي جمعت فيه كل ماله علاقة بالملك والفن، خاصة الغناء، اتضح لي أن الملك الذي تعرضت سيرته وحياته للتزيف والإدعاء والكذب كان محبا للفنون المصرية، ويدعم الفن المصري الراقي بكل ما يملك.
وكان فخورا جدا بالرحلة التى قطعتها سيدة الغناء العربي “أم كلثوم” من قريتها حتى أصبحت “كوكب الشرق” وغنائها في كثير من الدول العربية، لهذا كرمها وأعطاها نيشان الكمال عام 1944، وفرحت “أم كلثوم ” بهذا التكريم الملكي العظيم في حينه، بالرغم من الانتقادات التي واجهتها لاحقا، حيث فوجئت بهجوم الأميرات وزوجات رؤساء وزارات مصر، لأن النيشان لم يكن يمنح إلا لهن فقط، وأعلنت إحدى الأميرات في الصحف تنازلها عن الوسام اعتراضا على منحه لأم كلثوم، ورغم هذا لم يهتز الملك ولم يتراجع عن قراره، وكان فخورا بـ” ثومة”.
الريحاني يستجيب لطلب الأمير فاروق
نفس الحال ينطبق على الفنان الكبير “نجيب الريحاني” الذي كان الملك “فاروق” يحترمه ويحب فنه، ويتابع أخباره، منذ كان الملك طفلا فى الثامنة من عمره عندما طلب من والده الملك “فؤاد” أن يشاهد مسرحية لـ “نجيب الريحاني” الذي شاهد صوره فى المجلات والجرائد، فما كان من الملك “فؤاد” إلا أن استجاب لطلب ابنه وجاءت فرقة “الريحاني” إلى القصر الملكي عام 1928 وقدمت عروضها، ويومها كتب الشاعر الكبير “بديع خيري” صديق “الريحاني” وزميله فى مشوار الكفاح، والذي حضر معه هذه الاحتفالية قصيدة طويلة بعنوان “جه سعادة التشريفاتي التقى جوز حيرانيين” نشرت فى شهر فبراير عام 1928 فى مجلة الصباح قال فيها :
يا حياتي نلت فيكي، يوم سعيد احكى عليه
زاد تعلق قلبي بيكي، والآمال عادت إليه
كنت أرقص لو يجيكي، شكر من باشا وبيه
بعد تقدير من مليكي، اشتهي فى الدنيا ايه؟
البشير ساعة ما جاني، وانحنيت قد المقام
قلت لزميلي الريحاني، احنا لازم فى منام
قال لي أيوه وشفته تاني، زحزح الطربوش وقام
بص فى عيني التقاني، صاحي ومفتح تمام
اتلبخ جنبي وقال لي، شدني يمكن أفوق
وللا هات ميه وخلي، مخي م السقعة يروق
هو برضه يخش عقلي بهجة الدنيا ” فاروق”
من علوه يتجه لي، مين أنا؟ سلعة في السوق
جه سعادة التشريفاتي، التقى جوز حيرانيين
قال لنا السعد المؤاتي من نصيب الموعودين
للقصيدة تكملة جميلة جدا تتحدث عن كيفية ذهابهم للقصر الملكي وشعورهم وهم يمثلون أمام الملك “فؤاد” وابنه الأمير “فاروق” وغيرهم من أبناء الملك “فؤاد” وشقيقاته، والعاملين فى القصر الملكي.
حزن الملك على الريحاني
على مدى مشوار “الريحاني” توطدت علاقته بالملك، وجمعتهما كثير من المناسبات الفنية والإجتماعية، خاصة أن “الريحاني” كان صديقا للفنان “سليمان نجيب” الصديق الشخصي للملك فاروق، ومستشاره الفني، وأول رئيس مصري لدار الأوبرا الملكية، وكان الملك يعتبر “الريحاني” ثروة مصرية، لهذا بكى وحزن جدا على رحيله ونعاه بحسره، ونشر نعيه في جريدة “الأهرام” وعدد آخر من الصحف وجاء فيه:
(إنى أحزن عندما تفقد بلدى رجلا ممتازا، وقد حزنت كثيرا بفقد “نجيب الريحاني” الرجل الذى خدم مصر، وأحب مصر، وأحبته مصر، ولذا أوفدت مندوبا لتشييع جنازته، وإنى على يقين أن الشعب مقدر لهذا الرجل خدماته، وأن جنازته ستكون شعبية).
وصايا الملك فاروق
بعد وفاة “الريحاني” أمر الملك “فاروق” أن يقام له كل عام ليلة فنية فى دار الأوبرا الملكية تحيي ذكراه، وقد وقع فى أيدينا وثيقة هامة للذكرى الثالثة لرحيل “الريحاني”، والتى أقيمت فى دار الأوبرا الملكية فى 8 يونيو عام 1952، وحضرها أعضاء فرقة الريحاني، وكثير من الفنانيين والأدباء والشعراء، والمحبين، وقد بدأ الحفل بكلمة قالها الفنان الكبير “سليمان نجيب” جاء فيها :
(تركنا الزميل الصادق الود، والنابغة الفنان والممثل العبقري “نجيب الريحاني” منذ 3 سنوات، ولكن لا يزال يعيش بيننا حيا عاطر الذكرى، لأنه عمل مخلصا لمليكه العظيم ولجمهوره الكريم، ولفنه ولفرقته، وكانت لفتات موالاي صاحب الجلالة الملك “فاروق” أن أمر أولا حفظه الله بإقامة لوحة تذكارية له فى صالة الأعمدة بدار الأوبرا الملكية، ثم شمل حفلته العام الماضي برعايته السامية، حضرها محافظ القاهرة مندوبا عن جلالته، وفى هذا العام أمر حفظه الله أن تخصص وزارة الشئون الاجتماعية جائزة سنوية قدرها مائة جنية تسمى جائزة “نجيب الريحاني” تخليدا له، وتمنج لأول خريجي معهد التمثيل فى القسم الكوميدي.
وثانيا : أن تمثل فرقة “الريحاني” سنويا رواية من رواياته فى ليلة تختارها بدار الأوبرا الملكية يطلق عليها “ليلة نجيب الريحاني”، وتكون لوحته التذكارية فى تلك الليلة محلا للتكريم بباقات الأزهار، وهالات الأنوار، هذه هى منن مولاي وعنايته ورعاياته وتشجيعه).
ثم توجه ” سليمان نجيب بك” بكلمته إلى جمهور المدعوين والمستمعين وخاطبهم قائلا: إن “نجيب الريحاني” لم يمت لأنه ترك وراءه جمهورا كريما حيا هو أنتم، وترك وراءه فنا رفيعا هو فن “الريحاني”، وترك وراءه زميلا مخلصا هو الصديق “بديع خيري”، وترك وراءه فريقا أنعم وأكرم هؤلاء عيونه وهؤلاء حياته، واتحد هؤلاء جميعا ففاخروا بماضيهم واعتزوا بحاضرهم وابتسموا لمستقبلهم، وهذه هي عروة المجد الوثقى التى لا انفصام لها.
رامي يرثي الريحاني
بعد كلمة ” سليمان نجيب بك” وتأثر الحضور خاصة صديقه ورفيق دربه “بديع خيري” الذي رفض الكلام تأثرا بما حدث، صعد شاعر الشباب والفن والجمال “أحمد رامي” وأنشد أبياتا تفيض بالعاطفة تشيد بفن صاحب الذكرى جاء فيها :
دعاة الموت مبتدرا فلبى، وطار ولم يعد والعش خال
تنوح به الرياح إذا أرنت، على المحروم من هذا الجمال
مضى ومضت لياليه الخوالي، ومازالت تمثل في خيالي
نعمت بآنسه وشربت منه، حديثا رق كالسحر الحلال
وسامرني وبرد من همومي، سحائب عكرت صفوي وبالي
واضحكني وقد كانت دموعي، ترقرق من آسى قلبي وحالي
وراح كأنني لم أحظ منه، بأيام من النعمى حوال
هنا قامت دعائمه وأرسى، قواعدها على عزم الرجال
وكان له جناح من وفى، يشاطره أفانين المقال
فآنسى وحشة وأزال هما، وذكر ناسيا واهتاج سالي
وظل يفيض من قلبي شجي، مراحا للنفوس من الكلال
إلى أن ذاب من وجد وخفى، يناجي بالمنى طيف الخيال
يا من غاب عن عيني وهذى، مآثره عزيزات المنال
حييت فكنت بسمة من هناني، ومت فصرت دمعة من رثى لي
وجمعنا على ذاكرك ود، سنرعاه على مر الليالي
قسمتي
بعد انتهاء الكلمات التى أثرت فى الحضور، خرج الفنان “سليمان نجيب بك” وطلب من الحضور الدعاء بالرحمة “للريحاني”، وأعلن عن بدء مسرحية ” قسمتي” لفرقة ” الريحاني” والتى نالت إعجاب الجميع.