رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

حارس القدس وحراس الدراما السورية

بقلم : فراس نعناع

“الفن ليس مرآة الواقع، بل بالدرجة الأولى هو استبصار، في الفن تستطيع أن ترى الزمن، هذا البطل المطلق الذي لا يمكن لأحد أن يراه. في الفن تستطيع أن تُعيد تشكيل أشواق الروح البشرية. أن تغير الشخص كي يقوم هو بتغيير العالم” .. هذه كلمات (حسن م يوسف) من إحدى لقاءاته المتلفزة والتي بنى من خلالها شخوصه منذ ا(إخوة التراب)، و(نهاية رجل شجاع) مطلع تسعينيات القرن الماضي، وأعاد تشكيل الروح (في حضرة الغياب). وها هو اليوم غير شخوصه وقدم شخصية المطران (كبوجي) التي غيرت وحاولت تغيير مفاهيم عدة، ولما لا. فهو الكاتب والصحفي والقاص . والأستاذ الجليل.

باسل الخطيب كنت قد كتبت عن تجاربه واعيد وأكرر جزءاً منها ..

لم يخلط أرسطو بين الفن والمعرفة العملية، بل كان يقول إن غاية الفن تتمثل بالضرورة في شي يوجد خارج الفاعل، وليس على الفاعل سوى أن يحقق ارادته فيه، هذاما قام به باسل الخطيب بتحويل المحسوس الخام إلى محسوس استاتيكي منذ تخرّجه من المعهد العالي للسينما بموسكو، وقدومه أوائل التسعينيات ليساهم بصنع المشهد البصري للدراما السورية الحديثة . حيث قدم العديد من الروايات البصرية الدرامية السورية عبر ربع قرن تقريبا، فهو لم يفصل بين المادة والصورة، بل جعلها متحدة بين الشكل والمضمون، جلها حملت صبغة انسانية عالية المستوى .

حيث نستطيع أن نميز لقطته وزواياه وجملته البصرية بين العديد من الاعمال . هاهو اليوم يؤكد ويخلق منتجاً بصرياً يضاف لمساره الفني ، ولنا.

فلسطين تاريخياً

يتساءل الباحث والمفكر فراس السواح في كتابه (تاريخ أورشليم والبحث عن مملكة اليهود) فيقول:

“إن أي معتقد ديني، بالغا ما بلغت بدائيته، يترك آثارا تدل عليه، ونحن الآن نستطيع تلمس الخطوط العامة لمعتقدات وطقوس إنسان العصور الحجرية، اعتمادا على ما تركه من بقايا مدافن ومن تماثيل صغيرة وأمكنة عبادة بسيطة، أما معتقدات الثقافات العليا فتعلن عن نفسها في ما تركته لنا من أناشيد دينية وصلوات، إضافة الى الآثار المادية المتجسدة في الفنون التشكيلية وفي المعابد والهياكل والمقامات الدينية، ولكننا حتى الآن لا نستطيع تلمس أي أثر للمعتقد التوراتي خلال الفترة المفترضة للمملكة لتوطين العبرانيين في المناطق الهضيبة الفلسطينية (١٢٠٠-١٠٠٠ ق.م)، وخلال الفترة المفترضة للمملكة الموحّدة (القرن العاشر ق.م) فالنصوص الكتابية مفقودة تماما، وكذلك الشواهد الأركيولوجية. فهل يُعقل ان شعبا كثير العدد قد حل في الهضاب الفلسطينية مدة قرنين من الزمان وبنى لنفسه مملكة كبرى بعد ذلك دامت حوالي قرنا تقريبا، وضمت إليها معظم المناطق الفلسطينية، لم يترك لنا اثراً واحداً على ثقافته الدينية.”

أما الباحث الدكتور كمال الصليبي فيقول في كتابه “التوراة جاءت من جزيرة العرب” موضحاً:

لابد من معرفة الفرق الأساسي الهام بين مفهوم “بني إسرائيل” ومفهوم “اليهود واليهودية”، فبنو إسرائيل كانوا في زمانهم شعباً دان باليهودية. وقد كان لهم ، بين القرن الحادي عشر والقرن السادس قبل الميلاد، مُلكاً في بلاد السراة “في جنوب الحجاز” المعروفة اليوم “بعسير” وقد زال هذا الشعب من الوجود بزوال مُلكه.

ولذلك فإن الادعاء “الصهيوني” الحديث بأن اليهود ليسوا مجتمعاً دينياً فحسب بل شعبٌ وريثٌ لبني إسرائيل ، وأن له الحقوق التاريخية لبني إسرائيل ،إنّما هو ادّعاء باطل أصلاً، لأن بني إسرائيل شعب باد منذ القرن الخامس قبل الميلاد.

إن الحقوق التاريخية للشعوب تزول بزوالها، فيهود اليوم ليسوا استمراراً تاريخياً لبني إسرائيل ليكون لهم شيء يسمّى حقوق بني إسرائيل، وذلك سواءً أكانت أرض بني إسرائيل في فلسطين أو في غير فلسطين.

ومما سبق يقول كمال الصليبي في بحثه، بأن اليهودية لم تولد في فلسطين بل في غرب شبه الجزيرة العربية، ومسار تاريخ بني إسرائيل كما روي في التوراة العبرية ، كان هناك، وليس في مكان آخر.

يذهب الباحث الدكتور فاضل الربيعي في كتابه (القدس ليست أورشليم) باتباع منهج الدكتور كمال الصليبي وإنما يطوره في اتجاه آخر.

بأن القدس التي ­يزعم أن اسمها ورد في التوراة، هى ذاتها المدينة التي ذكرها كتاب اليهودية المقدس باسم “أورشليم”، وأن الاسمين معا  يدلان على مكان واحد بعينه، كما تقول الرواية الإسرائيلية المعاصرة، إن التوراة لم تذكر اسم فلسطين أو الفلسطينيين قط، وأنها لم تأت على ذكر”القدس”.

 بأي صورة من الصور. وكل ما ­يقال عن أن المكان الوارد ذكره في التوراة باسم ” قدش- قدس قصد به المدينة العربية، أمر يتنافى مع الحقيقة التاريخية والتوصيف الجغرافي ولا صلة له بالعلم لا من قريب ولا من بعيد.

أن القدس اسم حديث، لا يرقى لأبعد من العهدة العمرية ) 15 هجرية، وأن قدش- قدس في التوراة، لا يعني بأي صورة من الصور القدس العربية الاسلامية. والمماثلة بينهما هى نتاج مخيالية غربية للتوراة، لأن ظهور الاسم من الناحية التاريخية لا يرقى لأبعد من فترة الفتوحات الإسلامية، وبالتالي يصبح من غير المقبول علميا تصديق مزاعم وجود اسم القدس في كتاب ديني يعود إلى نحو 500 ق.م؟

أخيراً بالتأكيد هذه الاضاءات لا تكفي لأي قارئ ، أو باحث .اذ عليه الرجوع الي تلك الكتب وقراءتها بإمعان شديد فهى ستغير عقله الذي استقبل من ذي قبل مرويات مختلفة، عن تلك المؤلفات ففراس السواح بحث وتقصى لثلاثة آلاف عام متبعاً المنهج العلمي الأكاديمي والأركيولوجي عن تاريخ أورشليم ، أما كمال الصليبي ففتح الباب على مصراعيه واتجه مع بوصلته الى عسير في شبه الجزيرة العربية معتمدا على أسماء الأماكن ومقاربتها للتوراة، وهو الدراس والمختص واستاذا لتاريخ الشرق الأوسط. أما فاضل الربيعي مسك خيطاً مهما من كمال الصليبي ألا وهو “عسير”، وبدأ يبحث مبتعدا قليلاً نحو اليمن بمعرفة وعلم ودراسة للتوراة واللغة العبرية، ولما لا فاليمن هى امتداد لجبال عسير وهما تحت راية شبه الجزيرة العربية.

ولو أمكن لهم ولنا دراسة مخطوط حلب أو بما يعرف بـ “كوديكس حلب” والذي يعتقد بأنها تضم ٢٤ كتاب مقدس  في كتاب واحد والذي أصبح أول كتاب تناخ أو كتاب اليهود. والذي حافظ عليه “يهود حلب” لأكثر من ٦٠٠ سنة. ثم سرقتها إسرائيل أو هُربت من حلب منتصف خمسينيات القرن الماضي، ويقال بأن حرقت أو شوهت أثناء قيام أهالي حلب بحرق ممتلكات اليهود وكُنسهم أبان احتلال إسرائيل فلسطين . ويقال بأن رئيس إسرائيل بن زفي الأسبق – الأوكراني الأصل – والذي كان باحثاً معروفاً في التاريخ اليهودي والأثنولوجيا، وفي تاريخ أرض إسرائيل، والذي سمي معهد بن زفي الذي يدرس تاريخ إسرائيل والجماعات اليهودية شمال أفريقيا والشرق الأوسط باسمه. والذي حاول سرقة الكتاب من حلب أكثر من مرة هو ومجموعته اخفوا معالم كثيرة من ذلك الكتاب حوالي ٢٠٠ صفحة، وغيروا معالمه لكنا عرفنا الكثير الكثير.

المطران كبوجي المطران الثائر

كبوجي تعني  الحارس بالسريانية، وحلب أصل السريانية – كما تقول الأبحاث – والتي ذكر “الشيخ الغزي” في كتابه (نهر الدهب في تاريخ حلب) بأن حلب مدينة سريانية بحتة، وأن أحيائها تحمل أسماء سريانية، والخط الحلبي السرياني واضح ومعروف، والسريانية صارت يوماً لغة الدول الرسمية، بل لغة الحضارة والعالم المتمدن من أقاصي السودان ومصر إلى سوريا في حدودها الطبيعية الأصلية، إلى آشور وبابل وأقاصي الدولة الفارسية، وكما ذكر “برديصان” الشاعر السرياني في مؤلفه (الظهور الإلهي) “إن السيد المسيح اصطفى رجالاً جليليين لايعرفون إلا السريانية”، هاهو “كبوجي” يمشي ويتبع خطى هؤلاء الأجلاء والتي مشى قبله من حلب آباء وقديسون  كـ “مار مارون، والقديس سمعان العامودي”،أمن هنا ادعو لمشاهدة مسلسل “حارس القدس” فهما كتبنا عنها نبقى مقصرين بحقه ،وحق المسلسل وصناعه.

معرفتي بالمطران الجليل تعود لعام ١٩٧٩ عندما زار حلب مدينتنا، وذكرت هذا في مقال يعود للعام ٢٠١٧ على موقع” الميادين نت” عقب رحيله، حيث كنت أنوي القيام لعمل فيلم وثائقي عنه سنة ٢٠٠٧، ولم ينتج الفيلم .

تحدثت مع المطران  مطولاً عبر الهاتف في منفاه “روما” وقلت له ذات مرة: كنت أسمعك دائما ، اليوم اسمح لي سيادة المطران أن أقرأ لك بعض السطور عن فيلمنا، فقال بصوته الهادىء أنا أسمعك جيدا تفضل :

فقرأت له :

–  في سفر الثورة، خط المطران الثائر على عسف المحتل وظلم  بني الانسان لأخيه، رحلته.. مرجعاً للتاريخ البشري  سيرته الأولى، فكما يوجد مغتصب ومعتد وظالم، يقابله ثائر على الاغتصاب ومناهض للعدوان، ولقاء هذا وذاك، وتأكيدا على جدلية الخير يقابل الظلم وشروره، يخلق القديس الذي يمنح للحياة اتزانها، وللعدالة سيرورتها وقدريتها ونصابها…

– من صلاح الدين وعزالدين القسام ، ورحم مقارعة المحتل لم تجف.. من حلب إلى قدس أقداس البشرية قدّ عبوره الأزلي فعبرنا، حملنا وتاريخنا، ذخيرة في زوادة يومه، ليكتبنا ثائرين، وينصبنا حراس الثورة، ويقلدنا نياشينها..

– معه وبه ، انعدم الفارق بين الأرضي والسماوي.. معه وبه نرتل ونتلو صلواتنا: أنت المحبة ياربي ويا سيدي يسوع، وهم الظلم.. أنت النور وهم الظلام، ورايتك ياسيدي هي رمز المحبة والحرية، وستظل رايتك مرتفعة، خفاقة..

الخزي والعار لأولئك الذين يدنسون الأرض المقدسة .. يا سيدي يسوع، إنني أقدس أرضنا .. أرضنا العزيزة التي تعرف باسم فلسطين.. آمين .. آمين.

– حملت صلبناننا جميعها وفديتنا، وسرت أمامنا فطوبى لك ياملح الأرض.. وسلام عليك: يوم ولدت، ويوم ثرت، ويوم يوم تبعث حيا، فمن آمن بالثورة ومات، فسيحيا..

– معلم اللاهوت.. معلم الناسوت.. صوت ضمائرنا ووجداننا.. ساطع كالشمس.. واضح – كالحق، لايخشى في الله لومة لائم.. تدرج في سلم الكهنوت ليُرسّم: سماحة المطران.

– شأنه شأن من تربطه المدن بحبلها السري، يستطيل ولا ينقطع: أوصي بأنه إذا تعذر عودتي حياً إلى فلسطين.. مناي أن تدفن عظامي في فلسطين، على الأقل، لكي تنعم روحي ونفسي بلقاء قدسي الحبيبة..

– آلمه حالنا المنقسم على ذاته، وأرعبه – وقت لم يرعبه صلف القاتل وعجرفته – أرعبه جنين تشرذم الأخوة ، الذي نما بين جنباتنا، ليسرطن حياتنا ومستقبلنا..

–  في العراق .. في فلسطين .. في لبنان .. في …. في .. في . في .

قال لي من يستحق هذا هى فلسطين ، سأراك قريبا عندما أزور سوريا.

سوريا وحراس الدراما الأفاضل الأساتذة حسن .م.يوسف وباسل الخطيب وكل فريق العمل ، قاموا بإنجاز تاريخي لانجاح تلك الملحمة الروائية البصرية “حارس القدس” والتي هى بمثابة وثيقة لأجيال قادمة .

لا بد لنا من شكر الممثلين صغيرهم وكبيرهم، ولابد من التحية لناصر ركا مدير التصوير والإضاءة الذي لم يتحول إلى الإخراج وأضاف للعمل الكثير، والموسيقى سمير كويفاتي، والسيدة ميادة بسيليس بإضافتها المميزة لشارة العمل.

ربما هواة الفن الذين سخر منهم أفلاطون وأشفق عليهم وسماهم “عاشقي الأوهام..”  يتعلمون!!!

في البداية فلسطين، وفي النهاية تحيا فلسطين، فلسطين حق لايموت، وللقدس الحبيبة كل الشوق، كما قال حارسها كبوجي. شكر حراس الدراما، شكراً حارس القدس.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.