حكايتى مع ديزنى (10) .. اهدى يا عبده !
بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
كان التسجيل يمضى قدما ، نحاول أن نستفيد من أخطائنا ، ونحاول أيضا أن نتقن الأمر، وكان التحدى أمامى ألا يقل المستوى فى شريط الصوت عن الأصل وبما يليق بفيلم نجح نجاحا مدويا كهذا الفيلم . فقد كان فيلم “الاسد الملك” هو قبلة الحياة لشركة والت ديزنى، فبعد بعض تعثرات أصابت الشركة جاء هذا الفيلم ليعيد لها البريق والسمعة الطيبة و يسدد ديونا تراكمت ويرفع أسهمها ويحسن مركزها المالى، فلقد حقق لها أرباحا خيالية سواء من عرضه كفيلم أو من مبيعات أدوات على شكل شخصيات الفيلم – بدءا من أقلام و كراريس ومطبوعات وملابس ولعب حتى ألعاب الكومبيوتر – مايزيد عن المليار دولار . و صار درة التاج فى أعمال ديزنى برغم أنه يحمل رقم 32 فى سلسلة أفلام ديزنى للتحريك. ووصلت شهرة الفيلم الى أن يعلن بيل كلينتون رئيس الولايات المتحدة الامريكية تأثره بالفيلم وأنه بكى فى مشهد موت “موفاسا” وذكر ذلك فى أحد لقاءاته، وبذلك أكد على نجاح الفيلم.
والحقيقة أن شركة ديزنى قد حشدت فى هذا الفيلم مجموعة من أفضل ممثلى هوليود – بعضهم يحمل جنسيات أخرى – ومعظم المشاركين فى الفيلم ممن حازوا جوائز هامة و متعددة أو على درجة كبيرة من الشهرة: فمن تقوم بدور أحد الضباع الممثلة السمراء الشهيرة “ووبى جودبرج ” الممثلة والإعلامية وكاتبة الأغانى التى حازت الأوسكار ورشحت لجائزة إيمى 13 مرة، وحازت عدة جوائز أخرى، ومن يقوم بدور “سكار” هو الممثل “جيرمى ايرونز” وهو ممثل من طراز رفيع ، حاز على جائزة الأوسكار وجائزة إيمى مرتين وجائزة الجولدون جلوب. و حتى من لم يحصل على جوائز متعددة كان مميزا فى مجاله – كممثل دور “زازو” الذى اشتهر بشخصية مستر بين – و تلك أمثلة فقط و لكنها أمثلة لم تخيفنى بقدر ماحفزتنى و ربما جعلتنى فى تحدى مع نفسى.
بالإضافة إلى أن هذا أول فيلم يتم إنطاقه باللغة العربية عقب افتتاح فرع لشركة والت ديزنى فى الشرق الأوسط ، بمدينة دبى بالامارات، وبناء على مستوى هذه النسخة سيتم استكمال دبلجة بقية أفلام ديزنى فى القاهرة أو تنتقل لمكان آخر (بل سمعت فى وقتها شائعة أن فريقا ثانيا يقوم بدبلجة الفيلم أيضا فى عاصمة عربية أخرى و أنه ستجرى مقارنة بين النسختين بعد الإنتهاء).
ربما كل ما سبق جعلنى متشددا فى العمل، أحاول أن أصل الى درجة من الإجادة ترضينى أولا، ولا تقل عن جودة الأصل ، ولهذا كنت دقيقا فى العمل الى أبعد مدى، مما استلزم أن أكون قاسيا فى بعض المواقف فى مطالبتى للممثلين بتقديم أقصى مالديهم.
أذكر أن موعد تسجيل حوار شخصية “سكار” – التى يقوم بها الاستاذ عبد الرحمن أبو زهرة – كان فى الثالثة ظهرا فى عز وهج الصيف، و كانت علاقتى به – فى ذلك الوقت – لا تتعدى العمل، برغم أننا كنا قد انتهينا منذ فترة قصيرة من تقديم عرض “منمنمات تاريخية ” للراحل العظيم سعد الله ونوس على المسرح القومى، إلا أن العلاقة بيننا لم تتوثق ، ذلك أن العرض كان يشمل عدة خطوط أو حكايا متجاورة ، وكانت مشاهد الأستاذ أبو زهرة لها مواعيد محددة خلال الأسبوع بسبب ارتباطه بتصوير مسلسل، لذا لم نحتك طويلا فى البروفات وانتهت المسرحية والعلاقة بيننا فى حدود العمل فقط.
وعندما بدأت التحضير للفيلم كان الترشيح الاول لدور سكار من نصيبه ، و هى شخصية مركبة، حيث كان الأداء فى الجزء الأول من الفيلم يتسم بسخرية مبطنة و تواضع مصطنع مغلف بغضب مكتوم وحقد متوارى ، عكس الجزء الثانى – بداية من اتفاقه مع الضباع على المؤامرة – فينطلق حقده المكتوم الى شر مطلق و صوت آمر ممتلئ بالقوة و الجبروت.
ولا أنكر أن الأستاذ أبو زهرة كان قادرا على أداء الشخصية بروعة شديدة ولكننى كنت دائما ما أطلب منه الأفضل وأدفعه لمزيد من الإجادة ، حتى انفجر ذات مرة و أعلن أنه لن يكمل العمل، خاصة فى وسط هذا الجو الحار داخل الاستوديو، فما أسهل على المخرج (يقصدنى أنا) أن يطلب الإعادة مرارا و تكرارا وهو جالس فى التكييف، بينما الممثل (يقصد نفسه) يعانى وينصهر فى الحر.
قلت له: طيب اقعد ارتاح شوية و هنشغل التكييف
استمر الاستاذ فى انفعاله معلنا عن سخطه فى مونولوج طويل، و لم أعرف كيف أرد عليه أو أوقف تدفقه، وفى وسط ثورته وجدتنى أقول له بعفوية شديدة: اهدى بس يا عبده.
فجأة ضحك الأستاذ قال فى اندهاش : عبده؟ جبتها منين دى؟ ماحدش بيقولى يا عبده إلا مراتى فى البيت.
قلت له: خلاص اعتبر نفسك فى البيت، ارتاح شوية و اشرب حاجة ساقعة ولو تعبان مش هنكمل النهاردة.
خرجت حائرا من الاستوديو، لقد كنت متأكدا أنه لا أحد سواه من الممكن أن يؤدى تلك الشخصية بإجادة، فكيف إذا أصر على عدم استكمال التسجيل؟ هل ندخل مرة أخرى فى دوامة الإختبارات واختيار أصوات ؟
(ياربى احنا ماصدقنا خطوة لقدام)
خطر لى أن أستعين بالأستاذ عبد الرحمن شوقى، فهما صديقين ومن نفس الجيل و لديهما تاريخ من العمل المشترك، لذا اتجهت الى مكتب سمير حبيب حيث كان يجلس معه الأستاذ عبد الرحمن شوقى، فقلت له: تعالى شوف صاحبك أبو زهرة ، متعصب و مش عاوز يكمل. فقال : طب ادخل و انا جايلك.
دخلت الى الاستوديو متوقعا من الأستاذ أبو زهرة الإصرار على الانسحاب، أو على الأقل تأجيل التسجيل ليوم آخر، إلا أننى فوجئت به و قد خلع قميصه ووقف داخل الاستوديو بالفانلة الداخلية، وهو يراجع الحوار مع نفسه بصوت خفيض، ثم نظر لى فى تحدى وقال: حاضر .. هاعملك اللى انت عاوزه.. اطفى التكييف ويلا نكمل
قلت له : طب ارتاح شوية
قال: لا.. ياللا و أنا سخن كده.
و كأن ماحدث أعطى له شحنة هائلة ، فمضى يسجل الدور فى قدرة فائقة و سلاسة، بعدها بما يقرب من الساعة وجدت الاستاذ عبد الرحمن شوقى يدخل إلى الاستوديو ويجلس قليلا ليستمع للتسجيل ثم يحيي أبو زهرة و يثنى عليه و يخرج من الاستوديو.
عقب انتهاء اليوم قلت لأبوزهرة : معلش أنا باضغط عليك بس أنا عارف انك ممكن تطلع شغل افضل .
قال فى ابتسامة عريضة: ما أنا عارف، ماتزعلش من انفعالى أنا كده فى الشغل!، وإذا لقيت حاجة مش مظبوطة خلينى أعيد
و منذ ذلك اليوم صرنا أصدقاء ، وأصبحت أسعى لوجوده فى كل عمل لى سواء كنت مخرجا أو مديرا لمسرح، فقد أصبحت ( مفاتيح ) الأستاذ أبو زهرة عندى – كما يقولون – وعندما يبدأ فى الانفعال فإن كلمة السر أملكها لإنهاء أى مشكلة: “اهدى بس يا عبده”.