مولد سيدي الأوسكار
بقلم : كرمة سامي
فور أن شكل برنامج “نادي السينما” وعيي السينمائي في طفولتي مساء كل سبت على القناة الأولى إعداد يوسف شريف رزق الله – رائد الثقافة السينمائية في مصر وراعيها – بدأت متابعة كتابات رؤوف توفيق وسامي السلاموني وتغطيتهما لمهرجان كان السينمائي، في عقبه ظهر برنامج “أوسكار” مساء كل خميس على القناة الثانية – أيضا إعداد يوسف شريف رزق الله – وكانت الإضافة أنه يختار لنا الأفلام الحائزة على جوائز الأوسكار ثم بعد ذلك الحائزة على جوائز فنية بشكل عام، وترسخ في وعينا كمتفرجين أن السينما ليست البطل والبطلة وإنما حوار وتصوير ومونتاج وعناصر أخرى كثيرة رائعة ومبهرة.
ثم أطل علينا حفل توزيع جوائز الأوسكار برأسه وقت أن كان المظروف يفتح تعقبه الجملة الشهيرة: “والفائز هو….!”. لكن الأخبار الجميلة كانت تأتينا دائما بعد عقد العرس بأيام، صورة الفائز/ة بجائزة أفضل ممثل/ة مع تعليق بسيط يذكر فيه اسم الفيلم وربما المخرج، وتستمر الحسرة لأننا لن نرى هذا الفيلم، سنظل أسرى ما تقدمه لنا القناة الثانية بالتليڤزيون من أفلام رومانسية ورعاة بقر أبطالها (روك هدسون ودوريس دي وجلِن فورد وچون وين!)، ولن يُعرض في السينمات سوى “الرأس الكبير” و”الفك المفترس” وسلسلة أفلام (السخيف) نورمان ويزدم!
لسنا جيل الإنترنت، وكذلك لم نكن الجيل الذي كانت تفتح له أبواب مسارح الدولة وصالات السينما بقروش قليلة ليستمتع بأداء (ىنعيمة وصفي وعبدالمنعم إبراهيم وعبدالله غيث وسميحة أيوب ومحسنة توفيق)، أو بأسبوع الفيلم الروسي في سينما أوديون، أو الصيني في نادي السينما بقصر عابدين الذي أسسه يحي حقي (النادي وليس القصر!). لكن مع بعض من الحظ – هكذا تصورنا – ستعرض لنا سينما راديو بوسط البلد فيلم “كليوباترا”، وسينما نورماندي بمصر الجديدة فيلم “ترويض الشرسة” بعد عرضهما الأول بسنوات كثيرة وبمخالفة قرارات مكتب مقاطعة إسرائيل الذي أنشأته جامعة الدول العربية عام ١٩٥١. رفع الحظر عن أفلام إليزابيث تيلور التي أعلنت تأييدها لدولة الكيان الصهيوني حتى لا نحرم من ‘فنها’!
تطور برنامج أوسكار، وأصبح اسما على مسمى، ويبدو أن “رزق الله” أحس بحسرتنا وحقدنا على العالم الأول ومشاهديه ‘الأوغاد’ الذين تبث لهم مراسم الحفل بكل ما فيها من بهجة وابهار ومرح بثا مباشرا فيما ننتظر نحن أبناء البط الأسود خبرا على الصفحة الأخيرة من جريدة الأهرام بعد الحفل بيومين نظرا لفارق التوقيت بين القاهرة ولوس انچيلوس! أهدانا رزق الله هدية العمر – وقتئذ – عندما بدأ تقليد عرض الاحتفال ممنتچا وملخصا، صحيح بعد انعقاده بأسابيع، ولكنه كان كعكة في يد المتفرجين المساكين.
لذلك اعترف الآن وفي هذا المقال لوالديّ – دون اعتذار أو ندم – أن عندما سهر طلاب الثانوية العامة استعدادا لامتحان علم النفس سهرت مع برنامج أوسكار لمشاهدة حفل توزيع الجوائز الخامس والخمسين. اكتسح فيلم “غاندي” لريتشارد أتنبورو الجوائز، وفازت مريل ستريپ بجائزة أفضل ممثلة عن فيلم “اختيار صوفي”، ولم يخرج كوستا جافراس عن فيلمه الرائع “مفقود” سوى بجائزة أفضل سيناريو مقتبس (!!)، وطبعا احتكر فيلم “إي تي” لستيڤن سبيلبرج جوائز المؤثرات البصرية والصوتية. لم أتبين وقتئذ أن الجوائز لا تمنح كلية وفق معايير فنية وإنما لمآرب أخرى، الحقيقة أنها عادة تمنح لأسباب تاريخية أو سياسية خاصة عندما تتقارب القيمة الفنية للأفلام. فاز “غاندي” لأنه كان فرصة للغرب أن يطوي -ولو من جانبه فقط- صفحة الماضي الاستعماري بما تحمله من توثيق لجرائمه، وأيضا لأنه إدانة للإمبراطورية سيدة البحار السبعة بيد أحد أبنائها، وبذلك تعلو قامة “العالم الجديد والشجاع”.
مُنح بن كينجسلي جائزة أفضل ممثل تقديرا لغاندي نفسه، وكذلك مُنحت مريل ستريپ أفضل ممثلة تحية لنموذج الفتاة اليهودية الناجية من الهولوكوست. وتجاهل أعضاء الأكاديمية أداء چاك ليمون وسيسي سپاسيك في “مفقود” الذي يحكي قصة صحفي أمريكي يختفي في تشيلي بعد انقلاب عسكري ويذهب والده وزوجته للبحث عنه في رحلة تكشف دور الولايات المتحدة في العبث بأقدار دول أمريكا اللاتينية . في هذه اللعبة يكسب الدور التاريخي دون تفكير. تنحصر مهمة الممثل في التركيز على دراسة ملامح الشخصية الخارجية والداخلية ونقلها. إنما أن يؤدي شخصية مجرد حبر على ورق لا تميزها ملامح لافتة، فينشئها من العدم فهذه هي العبقرية إذ أن الأدوار الإنسانية البسيطة هي التي تكشف مدى عمق موهبة الممثل الحقيقية.
القرائن على اكتساح أفلام السيرة الذاتية biopic كثيرة، يكفي أن يلعب الفنان/ة دور سياسية شرسة لا تعرف الرحمة أو العدل في الدفاع عن بلدها، أو عالم فيزياء قاوم مرض ينهش جهازه العصبي، أو سياسي محنك ماكر قاد قارته الباردة إلى الانتصار في حرب عالمية على عدو مزمن، أو مطرب مثلي ذي صوت أسطوري، يكفي أن يلعب دور كهذا كي تسقط الجائزة بين يديه! ولهذا صفق العالم بحماس غير واع لمريل ستريپ عن “السيدة الحديدية” ٢٠١١، وجاري أولدمان عن “أحلك ساعة” ٢٠١٨، ورامي مالك عن “الملحمة البوهيمية” ٢٠١٩. لم تنل ستريپ الجائزة عن “الشيطان يرتدي ماركة پرادا” ٢٠٠٦ مثلا أو “مقاطعة أوسيچ” ٢٠١٣، ونال أولدمان الجائزة مكافأة نهاية خدمة بعد مشوار مجيد في إتقان عمله كممثل دون تقدير كافٍ! طبعا وارد أن يحصل الممثل على الجائزة عن استحقاق مثل رينيه زيلويجر التي تعطي جزءا من روحها مع كل دور تلعبه حتى نظن أنها ستذوب تماما فلن يتبقى منها نفحة لأدوار مستقبلية. لكن ما عزز فوزها هو الحنين لچودي جارلند التي استغلتها هوليود ولم تتركها إلا بعد أن اعتصرت روحها. وبالطبع عندما يمنح أي ممثل/ة هذه الجائزة عن هذه النوعية من الأدوار تحديدا فهو مدين بالشكر لمن ذلل له سبل التقمص من فريق عمل متكامل صمم له ونفذ ملامح الشخصية الخارجية من ملابس وتجميل وشعر وأسلوب حركة وطريقة نطق وشكل أسنان وأعضاء صناعية!
لذلك لا جدوى من السهر والبحث عن بث للحفل في أي فضائية أو أي موقع على شبكة المعلومات، ‘خذها من قصيرها’ ونم مثل أي مواطن فطِن عليه أن يعمل في الصباح، يمكنك أن قاوم فروق التوقيت وتتحداها فقط لمشاهدة مباريات كأس العالم. اعتزل الاهتمام المبالغ في اختيارات تقوم بها مجموعة من البشر وفق معايير غير معلنة، تماما مثل جائزة نوبل. لِم نتعجب حين يخالف اختيار أعضاء الأكاديمية توقعاتنا؟ ألم تمنح الأكاديمية جائزة أفضل فيلم وموسيقى للفيلم الإيطالي “الحياة حلوة” ١٩٩٧، بل ونال روبرتو بنيني مؤلف الفيلم ومخرجه جائزة أفضل ممثل؟! وعندما جاء دورنا لمشاهدة الفيلم كان مخيبا لآمالنا وهز ثقتنا في معايير الأكاديمية وتبين لنا أن الأمر مجرد نوبة انجراف عاطفي تجاه تيمة الهولوكوست المزمنة؟!
حسابات الأكاديمية معقدة وقديمة، ألم تتجاهل دور دنزل واشنطن في “الإعصار” وخطفها منه كيڤن سبيسي عن “الجمال الأمريكي”؟ ألم يفز ليوناردو دي كاپريو بجائزة أفضل ممثل عن “العائد” ٢٠١٥ أقل أدواره تميزا، ولم يفز بها عن فيلم “الراحلون” ٢٠٠٦ أو هذا العام عن “كان يا ما كان في هوليوود” ٢٠١٩؟ كذلك لم يفز يواكين فينكس بأوسكار مستحق عن فيلم “السير على الخط المستقيم” ٢٠٠٦، ومنحت جائزة التمثيل لشريكته في الفيلم ريز ويذرسپون التي قدمت دورا عاديا تضاءل أمام براعة فينكس في تقمص كاش، لكنه بعد سنوات فاز بالجائزة “تخليص حق” عن أضعف أدواره “الچوكر”! أين كان أعضاء الأكاديمية عندما أبدع في دور عمره متقمصا شخصية ملحن ومغني أمريكي ذائع الصيت وسيء السمعة چوني كاش؟ الآن يكافأ فينكس على مبالغته في الأداء الهيستيري والنمطية! لقد فهم سر لعبة الاختيار لذلك في كلمته عند فوزه بالجائزة كان يخفي الچوكر تحت جلده وفي بؤبؤ عينيه!
في تلك الليلة أيضا، دمعت عينا مارتين سكورسسي تأثرا وهو يجلس في مكانه في الصالة عدة مرات كلما عبَّر أحد الفائزين بالجوائز عن امتنانه/ا له وتتلمذه/ا على يديه سينمائيا، ورغم ذلك خرج من مولد الأوسكار بلا حمص وكأن أعضاء الأكاديمية أقسموا على حرمانه من الجوائز التي لم يفز بها إلا مرة واحدة في “الراحلون” ٢٠٠٦ رغم سجل إبداعاته السينمائية المشرف. ليس سكورسسي الوحيد الذي تتعمد الأكاديمية تجاهله، لا تنس الفنان العبقري كريستوفر نولان الذي مكنه برود نصفه الإنجليزي من تجاوز محنة تجاهل فيله الرائع “دنكرك” ٢٠١٨ وصفق مجاملا في ليلة واحدة للفائزين بجوائز أحسن فيلم وإخراج وتصوير نالتها أفلام عادية كان فيلمه هو الذي يستحقها والأجدر بها! وفي نفس المولد تجاهلت الأكاديمية العبقري كريستيان بيل عن “النائب” الذي بلغ فيه إخلاصه في تقمص شخصية ديك تشيني المراوغة اللعب في ذرات جسده!
خرج الكوريون الجنوبيون من مولد هذا العام بكل أكياس الحمص الكبرى، هل “الطفيليون” أفضل من ” قصة زواج”؟ أو “كان ياما كان في هوليوود”؟ أو “١٩١٧”؟ كلا، لكنه الأغرب، كأنك تتذوق طعاما كوريا للمرة الأولى وللحق أعده طاه بارع! تتذوق فيه نكهات مألوفة ولكنها تداعب خلايا التذوق في روحك وتراوغها! يندهش أحيانا المشاهد/عضو الأكاديمية عندما يرى على الشاشة فيلما يمثل ثقافة بعيدة ويناقش عبر مفرداتها قضية إنسانية اجتماعية مألوفة ولكن بمذاق مختلف، خاصة عندما لا يفهم أصوات لغة الفيلم الذي لا يملك سوى لغته البصرية للتأثير عليه. كذلك سينبهر المشاهد/العضو أن سينما تمثل بلدا كان يقع تحت سيطرته العسكرية ظهرت بهذا التميز، سيهرع عندئذ ليعطيها صك الاعتراف بالتميز ليصبح عرابها وولي نعمتها.
السينما ليست أمريكية الهوية، الفن السينمائي الرفيع يأتي من إيطاليا، وفرنسا، وروسيا، وألمانيا، وأمريكا اللاتينية، والآن يأتي من كوريا، واليابان، بل والبوسنة والهرسك، والسويد، والدانمارك، والمكسيك (أنظر خريطة العالم وقائمة الأفلام الفائزة بالسعفة الذهبية في مهرجان كان!). لكن الفيلم التجاري الشعبي، السلعة الجماهيرية هي “بضاعة الامريكان” دون جدال أو منافسة! لها شروطها التجارية ومعاييرها التسويقية، وأحيانا، أحيانا الفنية!
أذواق؟! أبدا! كثير من التوقعات يؤدي إلى كثير من الحسرات، نقرأ عن أعمال ونشاهدها ونتصور أنها ستفوز لنفاجأ بفائزين نرى أنهم أقل إبداعا ممن فازوا! مارلون براندو أهم ممثل في القرن العشرين حل اللغز. دأب مارلون براندو في حواراته على فضح تجار الرقيق السينمائي في هوليود وكشف حقيقة الحفل الذي هو مجرد “بيزنيس” الغرض منه التسويق لسلعة سواء كانت جيدة أو رديئة، وقال إنه من العار أن يقيّم الممثل ويفضل على ممثل آخر كأنه في سوق النخاسة. يتسم كلام براندو بالمنطق فهو الوحيد الذي باح بسر اللعبة ويعضد هذا رواج الأفلام الفائزة وتحقيقها أعلى دخل في شباك التذاكر على مستوى العالم، وارتفاع قيمة النجوم في بورصة الفن بعد فوزهم بالجائزة. هكذا أصبحت السينما الأمريكية اقتصادا عالميا، ودخلا بالدولار يعضد صناعة تنتج سلعة جماهيرية رائجة تصدر لشعوب العالم مثل المشروبات الغازية لتستهلك بإفراط وفق معايير السوق والاستهلاك دون جدوى التحقق من فائدتها الفنية أو قيمتها.
بحثت منذ سنوات مضت عن خطاب قبول براندو لجائزة أفضل ممثل عن فيلم “الأب الروحي” عام 1973 فتبين لي أن براندو قاطع الحفل احتجاجا على عنصرية الولايات المتحدة في التعامل مع الهنود الحمر ورفض تسلم الجائزة وأرسل ساشين ‘الريشة الصغيرة’، ناشطة من هنود الأپاتشي، لتقرأ بيان احتجاجه بدلا منه فكان ذلك البيان هو الفاتح لتحويل منصة تسليم الجوائز وتسلمها إلى فرصة، مساحة تعبير، منبر يعلن منه الفنانون عن مواقفهم السياسية والإنسانية بدلا من الاكتفاء بشكر مؤلف الفيلم ومخرجه ومنتجه.
عام ١٩٩١ تنافس ثلاثة من أهم نجوم السينما المصرية وأقدرهم على جائزة أفضل ممثل، أحمد زكي عن “الراعي والنساء” ونور الشريف عن “الصرخة” ومحمود عبدالعزيز عن “الكيت كات”. ظهر نور الشريف في حوار تليفزيوني يتحدث بشفافية ووعي نقدي تحليلي عن دور محمود عبدالعزيز ومفاتيح أدائه لشخصية الشيخ حسني التي كتبها داوود عبدالسيد وأخرجها عن رواية إبراهيم أصلان “مالك الحزين”. تحدث نور بواقعية عن أسلوب الممثل ودور العاهة الخارجية الظاهرة في ترجيح كفة من يؤدي الدور عند التنافس على الجوائز وأعلن بابتسامة أنه لن يفوز بالجائزة وأن الأجدر بها في تلك الحالة هو محمود عبدالعزيز.
ربما كان نور يتحدث عن جائزة جمعية الفيلم أو مهرجان الإسكندرية، لكن تنافسه هو وزميليه لا يقل عن مباراة في الأداء -على سبيل المثال- بين أنتوني هوپكنز وروبرت دو نيرو وآل باتشينو. ومن ينسى أن مسيرة نور تميزت عن الآخرين بالنضج والوعي الأكاديمي والمثقف في اختيار أدواره والذكاء وحرصه على تنوعها ودراسته لكل شخصية وتدقيقه في تفاصيل أدائها ليفجر من الموهبة الفطرية مادة إبداعية يصبح بها عادل وكمال عبدالجواد وحاتم زهران وحسن سائق الأتوبيس وعبدالغفور البرعي والراشد العمري وعمرو بن العاص وغيرهم، ومن غيره ليمثل -عن حق- براعة المئات من فناني الأداء والفنانات المصريين والعرب؟
أكياس حمص الأوسكار كثيرة لا تحقق مجدا ولا تستحق البكاء عليها أو الفرحة بها، بل لا توجد جائزة -أي جائزة- تستحق الفخر أو الندم سوى اليقين الداخلي بالإتقان في العمل والإخلاص، وعندما ندرس أداء الممثلين العالميين ثم نقارنه بممثلينا نفخر أن مصر أنجبت نجوما عالميين في الموهبة يرشح لجائزة الأداء في مقدمتهم شكري سرحان، وسناء جميل، ومحمود مرسي، وشادية، وعبدالله غيث، وهدى سلطان، وصلاح منصور، وفاتن حمامة، ومحمد وفيق، ورجاء حسين، وأحمد زكي، وعبلة كامل، ويحي الفخراني، وغيرهم/ ن من العشرات بل والمئات من أساتذة فن الأداء.
أما الجائزة تذهب إلى…
نور الشريف