السينما وصناعة الأمل في ما ينفع الناس !
* مقارنة واجبة بين الفيلم الأمريكي “عقلٌ جميل” ، والفيلمين المصريين “المُولِد، وعبده موت على مستوى الرسالة والهدف!
* حاول مؤلف والسيناريست “محمد جلال عبد القوي” في فيلم المولد جعل شخصية البطل صاحب قِيَم ومباديء من خلال حواراته مع الآخرين
* عبده موتة”، يمثل أكبر إساءة فنية في حق مصر وصورتها التي وللأسف يتم تصديرها مؤخراً كمجتمع بلطجة ودعارة
بقلم الدكتور : طارق عرابي
بعد أن منحتني “شهريار النجوم” شرف الكتابة ببوابتها المتميزة مع إشراقتها الأولى، وبعدما اطلعت على كافة أبوابها الفنية وحلقت معها في سماء الرُقي والإبداع، واحتراماً لهذه الفرصة الطيبة، وبالإضافة إلى إيماني الواعي بقول الله عز وجل “فأما الزبدُ فيذهبُ جُفاءً وأما ما ينفعُ الناسَ فيمكثُ في الأرض” وضرورة تطبيقه على كل ما نقول ونفعل، كان لزاماً علي أن لا أكتب “حتى في أمور السينما” إلا عما ينفعُ الناس ويُلْهِمُهم في حياتهم والإلهام قد يأتي من قصة حب ترتقي بوجداننا وتهذب مشاعرنا أو قصة كفاح ونجاح تبدد آلامنا وتجدد آمالنا أو قصة بطل قومي وشعبه في الفكر والنضال والعمل من أجل تحرير أرضه والعيش في حرية ورخاء وإعلاء قيمة العلم والمعرفة .
إن السينما العالمية قد تناولت قصص الإلهام بأشكال وحالات متنوعة، سواء كانت قصصاً مستوحاه من واقع الحياة أم كانت من صنع خيال مؤلف أو كاتب سيناريو مبدع وواعٍ لأثر ما يكتبه عندما يصل إلى الناس في صورة دراما مرئية، ومن المؤسف أن صناعة الأمل في نفوس شبابنا من خلال قصص واقعية أو خيالية ملهمة قد غابت لعقود طويلة عن صناعة السينما المصرية.
المُولِد!
فعلى سبيل المثال لا الحصر نأخذ من القديم فيلم “المُولِد” للنجمين الكبيرين عادل إمام ويسرا، ولنرَ الرسالة التي وصلتنا من هذا الفيلم رغم الآداء الرائع لكل فريق العمل ورغم ما حاوله جاهداً المؤلف والسيناريست “محمد جلال عبد القوي” من جعل شخصية البطل صاحب الإسمين (بركات و إبراهيم) صاحب قِيَم ومباديء من خلال حواراته مع الآخرين ، لكنه مستمر في كسب الثروات من تجارة المخدرات .. فباستثناء الجملة الرائعة لأمه (الفنانة القديرة الراحلة أمينة رزق)، بعدما التقت إبنها بعد عمر طويل: (هتقدر تلبس توب أبوك وتمشي زيه بما يُرضي الله؟). فإن ملخص رسالة الفيلم في مجمله لشبابنا هي (وليه تحلم وتتعب في حياتك ورا أملك وهدفك .. ممكن تتاجر في المخدرات وكمان تقتل نفس بشرية لشخص بحجة إنه ظالم ومجرم ، وتقدر تعمل ثروة كبيرة من الحرام .. ده عادي .. طالما نيتك تعمل خير وتبني مستشفيات ومدارس لأهل بلدك)، والطامةُ الكبرى أن السيناريو والحوار يُجَيِشُ مشاعر المُشاهد دون أن يدري ليناصر موقف البطل طوال الفيلم لأنه ظُلِمَ وعانى كثيراً في حياته، ولأن بداخله خير .. فيلم المولد من إخراج المخرج الكبير “سمير سيف.”
عبده موتة
أما فيلم “عبده موتة”، فهو أكبر إساءة فنية في حق مصر وصورتها التي وللأسف يتم تصديرها مؤخراً كمجتمع بلطجة ودعارة، عبده البلطجي (محمد رمضان) بطل ينتصر – أو – هو بطل لأنه مجرم يقضي على المجرمين، ثم في نهاية الفيلم يتوب قبل حكم الإعدام ويصلي ويُدلي بخطاب الأمنية قبل تنفيذ الإعدام حتى يبكي الجمهور على هذا المجرم لأنه معذور ومظلوم. أعتقد أن قتل المجرمين وأعمال الانتقام لا يمكن أن نمررها على أنها مسئولية شخص، بل إن الطريق الصحيح لردع الإجرام هو الوعي والتنوير أولاً، ثم يأتي دور القانون لمعاقبة كل من يخالفه.
وسؤالي الآن: أين صناعة الأمل من صناعة السينما المصرية؟ ألم يفكر أي من هؤلاء المنتجين الذين ينفقون الملايين فيما لا ينفع الناس بل وينزلق بهم إلى غيابة جُبِ الجهل والإجرام وغياب الفكر والوجدان في أن ينتجوا عملاً مُلهماً لشبابنا من خلال إحدى قصص النجاح لكثير من أبناء وعلماء مصر، أمثال “مصطفى مشرفه وأحمد زويل ومجدي يعقوب والعقاد ومحفوظ ويوسف إدريس ومحمود الخطيب ومحمد صلاح” وغيرهم، ممن كافحوا حتى قدموا لأنفسهم ولمجتمعهم ما سنظل نفخر به؟!
عقلٌ جميل
من بين مئات الأفلام العالمية الملهمة ، أستحضر اليوم الفيلم الذي رُشِحَ لثماني جوائز أوسكار وحصد منهم أربعة وهو فيلم “عقلٌ جميل” A Beautiful Mind والذي كتبه للسينما كسيناريو وحوار المؤلف والمنتج الأمريكي “أكيفا جولدسمان” عن القصة الأصلية التي كتبتها سيلفيا نصار Sylvia Nasar (ذات الأصول الروسية من ناحية الأب) عن العالم الأمريكي جون ناش John Nash الذي كان يعاني من مرض فصام الشخصية الخطير Schizophrenia، والذي قاوم مرضه بصعوبة وكافح من أجل الوصول لهدف علمي رفيع المستوى حتى حصل على جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية سنة 1994، ولعب دوره الممثل البارع الحائز على جائزة الأوسكار “راسل كرو” Russell Crowe ، و ترشح للأوسكار عن هذا الفيلم كأفضل ممثل في دور رئيسي، وقد فاز المخرج “رون هوارد” Ron Howard على جائزة الأوسكار كأفضل مخرج لأول مرة عن هذا الفيلم.
تبدأ قصة الفيلم عندما ذهب “جون ناش” كطالب دراسات عليا بجامعة برينستون بأمريكا، حيث سبق وأن نال جائزة كارنيجي المرموقة في علوم الرياضيات، ويقيم “جون ناش” في السكن المخصص للجامعة بغرفة مزدوجة مع زميله الجديد “تشارلز” طالب الآداب، والذي يصبح بعد وقت قصير أفضل صديق له، ثم تتسع دائرة الزملاء والأصدقاء لجون ناش، ويذهبون في إحدى المرات إلى أحد المقاهي ليلاً ويدور حديثهم حول النساء والبنات وبراعة الرجل في جذب المرأة ، ويخبرهم “ناش” بأنه ضليع فقط في الأرقام، ومع ذلك يحاول التقرب من إحدى الفتيات بالمقهى على طريقته ويهمس لها في أذنها فتصفعه على وجهه، يبدو أن “جون ناش” لديه مشكلة في التواصل مع الجنس الناعم.
وهذه الصفعة كانت نقطة هامة في حياة “جون ناش”، ويبدو أنها كانت سبباً مهماً في رغبة ناش بأن يصبح رجلاً عظيماً.
يظل “جون ناش” مهتماً بعالم الأرقام والمعادلات العددية ويسعى لتقديم ورقة البحث لأطروحته الأصلية، وبعد رحلة معاناة ذهنية ونفسية ينجح ناش في تقديم أطروحة متميزة في الاقتصاد الرياضي Mathematical Economics، وبعد جامعة “برينستون” يقبل ناش عمل لقاء مرموق بناءً على دعوة من معهد “ماساتشوتس للتكنولوجياMIT “، والذي قام بالتدريس فيه، وبعد خمس سنوات في هذا المعهد تنبهر بعقليته إحدى الدارسات خاصة بعدما عرض بالكتابة على “سبورة” قاعة التدريس مشكلة رياضية والتي تمنى تصدي أحد طلابه لحلها، فتذهب إلى مكتبه “أليسيا لاردي” الممثلة الرقيقة “جينيفر كونليJennifer Connely ” لتناقشه في تلك المشكلة الحسابية ، وما كان إلا أن وقعا في حب بعضهما.
وتستمر قصة كفاح “جون ناش” على مسارين: مسار مقاومة مرضه الخطير الذي جعله يتوهم أشياءً لا وجود لها وأشخاصاً من نسج علته الاضطرابية، ومسار استكمال مشوار العلم والبحث والتطوير، وقد كانت حبيبته “أليسيا لاردي” هى أعظم سند له فهي البطلة الحقيقية وراء صمود “جون ناش” وتعافيه إلى حدٍ كبير جداً من مرضه، حتى حصوله على جائزة نوبل للعلوم الاقتصادية عام 1994 ،، ويتضح دور زوجته المخلصة من خلال نظراته لها أثناء تواجدها بين الحضور بحفل جوائز نوبل في “ستوكهولم” عاصمة السويد ، والذي قال فيه:
“لطالما آمنت بالأرقام ، فالمعادلات والمنطق يفضيان إلى منطقية السبب، لكنني بعد كل هذا العمر من المطاردات البحثية سألت نفسي: ما هو المنطق بحق؟ ومن يحدد السبب؟!، وقد أخذني سؤالي في رحلة عبر الظواهر الفيزيقية والميتافيزيقية والأوهام ثم عدت من حيث بدأت، وعندها حققت أكبر إنجاز في تاريخي الاستكشافي والمهني، أهم اكتشاف في حياتي، إنه فقط في المعادلات الغامضة للحب ، حيث لا وجود للأسباب المنطقية” – وتدمع عينه وهو ينظر إلى زوجته بين الحضور ويكمل حديثه – “أنا هنا اليوم بسببك أنتِ ، أنتِ السبب فيما أنا عليه ، أنتِ جميع أسبابي” ثم للحضور “شكراً لكم”.