رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

جميل ضاهر يكتب: غابت (أم كلثوم) عن فيلم (الست) !

جميل ضاهر يكتب: غابت (أم كلثوم) عن فيلم (الست) !

جميل ضاهر يكتب: غابت (أم كلثوم) عن فيلم (الست) !
الفيلم اختار أن يبدأ من حيث لا يجب: من مطلع (إنت عمري)، ذلك المدخل المستهلك الذي لا يضيف معرفة
جميل ضاهر يكتب: غابت (أم كلثوم) عن فيلم (الست) !
جميل ضاهر

بقلم الإعلامي اللبناني: جميل ضاهر

اخترت أفخم قاعة سينما في مدينة الرياض؛ صالة مكتملة العُدّة: صورة مبهرة، صوت  ثلاثي الأبعاد، وكراسٍ وثيره تُشبه مقاعد الطائرات الرئاسية.. وكان السؤال البسيط: من يستحق هذا التخطيط  غير الست (أم كلثوم

دخلتُ القاعة وفي ذهني رغبة واحدة: أن أحصل على دقيقة صافية من زمن الست (أم كلثوم)، أن أرى يديها، حركتهما، المنديل، الجسد وهو يتحوّل إلى آلة موسيقية، إلى إيقاع داخلي. أردتُ أن أفهم سرّ جلوسها على الكرسي وسط موسيقييها؛ ذلك التكوين البصري الذي لا يشبه حفلة، بل طقسًا.. موسيقيون اختارتهم كما تُختار باقة ورد: كل لون في مكانه، وكل نغمة تعرف متى تتقدّم ومتى تصمت.

(أم كلثوم)، في حفلاتها، ليست صوتًا فقط، بل مشهدًا كاملًا. ولهذا يطرح كل من شاهدها أسئلة لا تنتهي: من صنع هذا المشهد؟ من اقترح المنديل؟ من رتّب هذا الجلوس؟ من أقنع جمهورًا كاملًا بأن ساعة من الغناء هي حدث مصيري يُسجَّل في الذاكرة الجماعية؟

هذه الأسئلة كانت معي وأنا أنتظر بدء الفيلم.. أسئلة بريئة، مؤجَّلة، لا تبحث عن محاسبة بقدر ما تبحث عن دهشة.

جميل ضاهر يكتب: غابت (أم كلثوم) عن فيلم (الست) !
فيلم يُفترض أنه سيرة فنية، لكنه يتعامل مع مادته ككولاج بصري بلا منطق داخلي

مشاهد عابرة بلا ثقل درامي

لكن الفيلم اختار أن يبدأ من حيث لا يجب: من مطلع (إنت عمري)، ذلك المدخل المستهلك الذي لا يضيف معرفة ولا يفتح بابًا.. ثم يعود إلى الطفولة ليقع في أول أخطائه الجسيمة: اختزال البدايات، واختيار طفل لا يمتلك الحدّ الأدنى من الملامح الصوتية التي شكّلت مصير أم كلثوم. فصوتها، قبل أي شيء آخر، هو ما حملها إلى القاهرة، لا المصادفات ولا العجائب.

تُختصر طفولتها في مشاهد عابرة بلا ثقل درامي، ثم ننتقل إلى القاهرة بقفزة غير منطقية. هناك، تُقدَّم أم كلثوم وهي تغنّي في كباريه أو نادٍ صاخب بطابع غربي، في محاولة فجّة لإظهارها كظاهرة تكتسح المكان.. لكن النتيجة جاءت عكسية، بل ومضحكة أحيانًا: فلاحون بملابسهم، دفّ الأب والأخ، ومديح نبوي، في فضاء تفوح منه رائحة الخمر عبر الشاشة.

هذا المشهد، تحديدًا، يُلخّص ارتباك الفيلم كلّه. ليس لأنه جريء، بل لأنه غير مفهوم: لا تاريخيًا، ولا دراميًا، ولا حتى رمزيًا.. فيلم يُفترض أنه سيرة فنية، لكنه يتعامل مع مادته ككولاج بصري بلا منطق داخلي.

جميل ضاهر يكتب: غابت (أم كلثوم) عن فيلم (الست) !
الفيلم يقدّم أم كلثوم وكأنها سيدة عابرة صادف وجودها في الإذاعة

وكأنها سيدة عابرة

الغريب أن هذا التشتت يصدر عن أسماء يُفترض بها العكس:  المخرج مروان حامد والكاتب أحمد مراد.. عمل لا يليق بتجربتهما، ولا باسم الشخصية التي يتناولانها. تمرّ ساعات الفيلم دون لحظة إبهار حقيقية، ودون محاولة جادّة للاقتراب من جوهر (أم كلثوم): انضباطها، ذكاءها، وعيها بمكانتها، وبنائها البطيء والدقيق لأسطورتها.

وتأتي سقطة أخرى حين يظهر الفيلم في يوم سيطرة الضباط الأحرار على السلطة، فيقدّم أم كلثوم وكأنها سيدة عابرة صادف وجودها في الإذاعة، دون أن يلتفت أحد إلى مكانتها، أو يحرص على إبعادها عن حدث تاريخي غيّر حياة ملايين المصريين والعرب..تختزل رؤية الكاتب والمخرج أم كلثوم ورامي، ليبدوا وكأنهما فرقة زفّة، لا ثنائيًا شكّل وجدان أمة.

المفارقة المؤلمة أن العودة إلى مسلسل (أم كلثوم) بعد الفيلم، بكل بساطته وهدوئه، تكشف حجم الخسارة.. هناك لم تُقدَّم (أم كلثوم) كتمثال ولا كأيقونة متعالية، بل كإنسانة تعرف ما تريد، وتعرف كيف تصل إليه. بساطة جعلتنا أقرب إليها، لا أبعد عنها.

أم كلثوم لا تحتاج إلى تفخيم ولا إلى تقديس بصري.

هي ليست لقطة كبيرة، ولا موسيقى عالية.

هي بناء معقّد، دقيق، طويل النفس.

خرجتُ من تلك الصالة بخيبة جديدة كنت في غنى عنها.. خيبة دفعتني لأن أُصارح سائق التاكسي بما شعرت به، فلم يتأثر كثيرًا، واكتفى بسؤال صادم: (من هي  الست؟).

بحثتُ عن أغنية (أغار من نسمة الجنوب)، وتهيّأت لسماعها، لأخرج من عالم الفيلم الذي حاول اغتيال ذاكرتي.

(أم كلثوم)، في حقيقتها، سيمفونية من أربعة فصول.

وما حدث في (فيلم الست)، أنه اكتفى بالضجيج.

ونسي (أم كلثوم ).

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.