

بقلم الكاتب الصحفي الأردني: حسام عطية
في الماضي القريب، كانت (الدراما الأردنية)، في مرحلة مفصلية من تاريخها التلفزيوني، مساحة نابضة بالحياة تقف فيها القرية والبادية والمدينة على شاشة واحدة بصدقٍ نادر.
فأعمال (الدراما الأردنية) مثل مسلسلات (أم الكروم، قرية بلا سقوف، هبوب الريح)، لم تكن مجرد إنتاجات فنية، بل كانت وثائق اجتماعية وإنسانية ارتبط بها المشاهد الأردني والعربي على حدٍّ سواء.
فقد جاءت تلك الأعمال من (الدراما الأردنية) محمّلة بروح المكان، وبحوار مكتوب بوعي وبلغة تلتقط التفاصيل الدقيقة للحياة اليومية، وساهم في نجاحها توافقٌ بين النص الجيد، والأداء التمثيلي المتزن، وتماسك الإخراج الذي كان يعرف كيف يستثمر البيئة المحلية بصريًا، فيما السؤال المطرح على الجميع الأن من (وراء تراجع الدراما الأردنية).
وعندما ظهر نص مميز مثل (المشراف) وهو مسلسل أردني تم عرضه في 2022م، كان من الممكن أن يعيد الدراما الأردنية إلى واجهة العمل الاجتماعي الذي يحمل قضية ويطرح أسئلة، غير أن المعالجة الإخراجية يبدو لم تُنصف النص، فجاء العمل مفككًا على الشاشة، وتحوّلت فرصة النجاح إلى خيبة كبيرة.

أكثر الإشكاليات تكرارًا
وهنا يمكن رؤية واحدة من أكثر الإشكاليات تكرارًا: النصوص الجيدة موجودة، والطاقات التمثيلية الشابة متوفرة، لكن الحلقة الإخراجية والإنتاجية – التي يجب أن تكون الرابط بين النص والجمهور – لا تحقق المستوى الذي يسمح للعمل بأن يؤدي وظيفته الفنية.
أما مسلسل (قرية بلا سقوف)، الذي شكّل تجربة فريدة في تناول موضوعات القرية الأردنية بطابعها الاجتماعي والإنساني، فقد بقي هو الآخر معزولًا في زمانه، دون محاولة لاحقة لبناء سلسلة درامية تتناول البيئة ذاتها بتطورات لاحقة، ومع أن مسلسل هبوب الريح قد أظهر في حينه قدرة الدراما الأردنية على تقديم أعمال تاريخية وشعبية بحضور مقنع، إلا أن الحالة نفسها تكررت: النجاح بقي لحظة لامعة بلا عروة إنتاجية تمسك به.
لكن المفارقة أن تلك النجاحات، على أهميتها، لم تتحول إلى بنية إنتاجية مستدامة تضمن استمرارية تجربة (الدراما الأردنية) وتطوّرها، النجاح بقي فرديًا ومعزولًا، بينما الصناعة ككل لم تُبنَ على قواعد تسمح بازدهارها على المدى الطويل.
وقد تجلّى ذلك في اختفاء الامتدادات الطبيعية لأعمال كان الجمهور بانتظار مواسمها التالية، فأم الكروم – الذي ارتبط الناس به ارتباطًا حقيقيًا – لم يُقدَّم له جزء ثان رغم المطالبات الجماهيرية، وكأن الصناعة لم تدرك أن نجاح العمل كان فرصة لإنشاء مدرسة درامية قائمة بذاتها.

الاحتكار في (القرار الفني)
إلى جانب ذلك، شكّل استمرار الاحتكار في (القرار الفني) أحد أهم الأسباب التي أسهمت في تراجع الدراما، فالأسماء نفسها ظلّت في مشهد الإنتاج لسنوات طويلة، تتحكم في الفرص وتعيد إنتاج نفسها دون إفساح المجال لوجوه جديدة من المخرجين والكتّاب.
وقد أدى هذا الانغلاق إلى خروج عدد كبير من الطاقات الإبداعية التي كان يمكن أن تغيّر شكل (الدراما الأردنية)، لولا أنها وُجِدت خارج دائرة الضوء المالي والمؤسساتي، وهكذا بقي المشهد محصورًا، فاقدًا للتجديد، بينما تحركت الدراما العربية من حوله بسرعة أكبر وموارد أكثر مرونة.
كما أسهم ضعف التمويل وتراجع حضور شركات الإنتاج المحلية في إضعاف القدرة على بناء مشاريع طويلة الأمد، فالإنتاج الدرامي – بطبيعته – يحتاج إلى بيئة مستقرة، وتمويل مستمر، ومواسم متتابعة تسمح للكاتب والمخرج والممثل بأن ينضجوا على الشاشة، وعندما يغيب هذا كله، يتحوّل العمل الدرامي إلى تجربة فردية قصيرة العمر، مهما كان نصها جيدًا أو ممثلوها موهوبين.
ومع ذلك، فإن (الدراما الأردنية) لم تفقد عناصر قوتها الأساسية، الإرث موجود، والنصوص الجيدة لم تختفِ، والجمهور ما يزال مُتعطشًا لأعمال تُشبهه وتُشبه بيئته، ما ينقص المشهد اليوم هو إعادة بناء منظومة إنتاج حديثة تتخلص من الاحتكار، وتفتح الباب أمام المخرجين الشباب، وتستعيد الثقة بين المؤسسات وصناع الدراما.
وتشجع على إنتاج أعمال متسلسلة تُعيد إلى الدراما الأردنية مكانتها التي تستحقها، فالعودة ليست حلمًا بعيدًا، بل مشروع ممكن، يبدأ بتصحيح البنية وينتهي بإحياء روح تلك الأعمال التي ما زالت حاضرة في ذاكرة جمهورها حتى اليوم.