رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

د. ثروت الخرباوي يكتب: (أم كلثوم).. بين الفهم والتفكيك

د. ثروت الخرباوي يكتب: (أم كلثوم).. بين الفهم والتفكيك
التفكيك السطحي للحياة الشخصية قد يتحول إلى تشويه أو تبسيط فادح

بقلم المفكر الكبير الدكتور: ثروت الخرباوي

عندما يجلس صانعو الأفلام أمام سيرة أيقونة موسيقية كبرى يواجهون قرارا جوهريا منذ البداية: هل يسعون لفهم مواطن العبقرية التي صنعت هذه الشخصية الأسطورية (أم كلثوم)، أم يكتفون بتفكيك الشخصية وكشف تفاصيل حياتها الخاصة بوصفها مادة درامية؟، هذا القرار حاسم، لأنه يحدد مسار الفيلم بأكمله.

فالتفكيك السطحي للحياة الشخصية قد يتحول إلى تشويه أو تبسيط فادح، خاصة إذا تجاهل السياق الفني والاجتماعي والسياسي والوطني الذي أنتج هذه العبقرية.

لا ضير في أن يقدّم الفيلم الجوانب الإنسانية أو التحديات الشخصية للفنان، فهذه عناصر تمنح السيرة عمقا وواقعية، لكنها يجب ألا تتحول إلى أداة للنيل من الشخصية أو تشويه صورتها.

فالغرض الحقيقي من أي فيلم من أفلام السيرة الذاتية الناجحة هو إظهار كيف وُلدت هذه العبقرية، وكيف تعامل الفنان مع الصعاب وحوّلها إلى مصدر قوة لفنه وموهبته، وليس مجرد سرد أحداث حياته أو فضح عيوبه الخاصة.

بعبارة أخرى، ليس كل تفصيل شخصي يصلح للسرد السينمائي، ولا كل صراع إنساني يجب أن يُحوّل إلى محور الدراما. فالفارق بين الفهم والتفكيك هو الفارق بين إبراز العمق الإبداعي والإنساني للفنان، وبين استغلال حياته الشخصية لإثارة الفضول أو التشهير.

وعندما يفشل صانع الفيلم في اتخاذ هذا القرار الصائب، تتحول السيرة من درس في العبقرية إلى مجرد قصة عادية عن شخص ما، كما حدث للأسف في فيلم (الست) عن حياة (أم كلثوم)

والأخطر من كل ما سبق أن الفيلم لم يكتفِ بتأويل التاريخ، بل اختلق وقائع لم تحدث أصلا ليُسند بها وجهة نظره المسبقة عن الشخصية، وهنا نخرج من مساحة الفن إلى منطقة التزوير.. فالدراما، مهما اتسعت مساحتها، لا تمنح صُناعها حق صناعة أحداث وهمية لشخصيات حقيقية عاصرها الناس، وما زالت شواهدها حاضرة في الذاكرة . فالفارق جوهري وكبير بين إعادة تخييل حدث تاريخي وقع بالفعل، وبين ابتداع حدث لم يقع أصلا لتدعيم قراءة نفسية أو أيديولوجية بعينها.

د. ثروت الخرباوي يكتب: (أم كلثوم).. بين الفهم والتفكيك
الفيلم زوّر الوقائع ليصنع اختلافه، فشوّه التاريخ، وأساء إلى الفن

مجرد مادة درامية هشة

وحين يُقدَّم المشهد المختلق على أنه حقيقة ضمن سياق سيرة ذاتية، فإن العمل لا يقدّم رؤية فنية، بل يفرض سردية كاذبة، ويُضلل المتلقي باسم الفن. وهذا ينسف الشرعية الأخلاقية للعمل قبل أن يناقش مستواه الجمالي.

لهذا لم تكن مشكلة فيلم (الست) أنه قدّم قراءة مختلفة لـ (أم كلثوم)، فالاختلاف مشروع، بل أنه زوّر الوقائع ليصنع اختلافه، فشوّه التاريخ، وأساء إلى الفن، واعتدى على حق الجمهور في معرفة حقيقية لا مُفبركة.

ومع هذا فإن هذا الفيلم لم يختر طريق الفهم، بل استسهل المسار الأيسر، وحوّل أعظم مطربة في تاريخ العرب إلى مجرد مادة درامية هشة.. فظهرت (أم كلثوم) كما لو كانت شخصية مأزومة، انتهازية، متبلدة، تتحرك بين علاقات ومصالح سطحية، بينما الحقيقة أن الست كانت عقلا وفنا وموقفا، كانت حالة حضارية ساهمت في صناعة وجدان أمة بأكملها.

وعلى الصعيد العالمي، نجد أن السينما عندما تناولت حياة الفنانين العظماء لم يكن هدفها كشف ضعفهم، بل كانت تقدم تفسيرا واعيا لعبقريتهم وعمقهم الإبداعي، وتجيب عن سبب تفردهم وكيف شقوا طريقهم نحو الإبداع.

د. ثروت الخرباوي يكتب: (أم كلثوم).. بين الفهم والتفكيك
فيلم (لا في أون روز) عن إديث بياف، المطربة الفرنسية الأسطورية

فيلم (لا في أون روز)

ومن الأمثلة البارزة لذلك يقابلنا فيلم (راي) عن الموسيقار الأمريكي العالمي راي تشارلز. وكذلك فيلم (لا في أون روز) عن إديث بياف، المطربة الفرنسية الأسطورية التي تجاوز صوتها حدود اللغة والثقافة ليلهم فنانين حول العالم، لتصبح أيقونة موسيقية عالمية.

وهناك أيضًا الفيلم الأمريكي (أماديوس) عن الموسيقار العبقري موزارت، الذي قيل إن الله ألهمه موسيقاه، بالإضافة إلى الفيلم البريطاني (شابلن) عن الفنان السينمائي العالمي تشارلي شابلن.

في هذه الأعمال وغيرها، لم تُقدَّم الحياة الشخصية للفنان كسلاح ضده، بل كخلفية تفسّر عبقريته.. في (راي)، يعرض الفيلم التحديات التي واجهها تشارلز من الإعاقة – حيث كان كفيفا – والفقر والإدمان بوصفها ثمنا إنسانيا لعبقريته الموسيقية، لا كدليل على ضعف نفسي.

وفي (لا في أون روز)، تُعرض حياة إديث بياف المليئة بالفقر والمعاناة والضغوط العاطفية دائما في خدمة صوتها الفريد الذي أصبح ذاكرة فرنسا الحية ورمزا وطنيا خالدا، حيث تتحول معاناتها الشخصية إلى مصدر قوة لفنها وعمقه العاطفي.

وفي (أماديوس)، يُقدَّم موزارت كلغز موسيقي أربك عصره، لا لمحاكمته أخلاقيا، بل لطرح سؤال عن طبيعة هذه العبقرية في عالم لا يحتملها.. أما في (شابلن) فإن هذا الفنان السينمائي العبقري لم يُختزل في نزواته، بل قُدّم كعقل مبدع استخدم الضحك لمواجهة الفقر والاستبداد، ودفع ثمن موقفه السياسي نفيا وتشويها.

في هذا السياق، يصبح الاقتراب من سيرة (أم كلثوم) تحديًا استثنائيا.. فهي ليست مجرد مطربة عظيمة، بل ظاهرة ثقافية شكلت وجدان العالم العربي لعقود.. صنفها الناقد الموسيقي الأمريكي (ويل هيرميس) ضمن أعظم مئة مغن في تاريخ البشرية في تصنيف مجلة رولينج ستون، واصفا إياها بأنها روح العالم العربي بأسره.

مؤكدا أنه لا يوجد لها مكافئ حقيقي في الغرب من حيث التأثير والهيبة الموسيقية، وأن صوتها يتجاوز حاجز اللغة.. وهذا توصيف عالمي لظاهرة، لا لشخصية عادية.

د. ثروت الخرباوي يكتب: (أم كلثوم).. بين الفهم والتفكيك
الفيلم ألغى تقريبا الورشة الفنية التي صُنعت فيها (أم كلثوم)

سوء فهم لمعنى أم كلثوم

من هنا، تكمن مأساة فيلم (الست) الذي لم يفشل في بعض الاختيارات فحسب، بل في سوء فهم جوهري لمعنى أم كلثوم.. فتحت شعار (الاقتراب الإنساني)، جرى تفريغ (أم كلثوم) من إنسانيتها الحقيقية: ذكاؤها الاجتماعي، خفة دمها المعروفة، قدرتها النادرة على قراءة البشر واللحظة التاريخية، ومهارتها في تحويل الأزمات إلى مكاسب. فظهرت على الشاشة كامرأة كئيبة، متبلدة، تتحرك بين العلاقات والمصالح.

والأغرب أن الفيلم ألغى تقريبا الورشة الفنية التي صُنعت فيها (أم كلثوم).. فغابت الشراكات والصراعات الإبداعية مع رياض السنباطي، وزكريا أحمد، ومحمد عبد الوهاب وغيرهم، فلم نشاهد كيف تُدار البروفات، ولا كيف تُناقش الجملة الموسيقية، ولا كيف كانت تعرض رؤيتها على كبار الملحنين.

وهكذا بدا صعودها وكأنه رحلة فردية بلا اشتباك، وهو تزوير فج لتاريخ الفن المصري في عصرها، حيث كان التنافس الإبداعي ساحة العباقرة، أما الموسيقى، جوهر الحكاية، فقد عُوملت كخلفية صوتية لا محرك درامي. لم يحاول الفيلم فهم بنية الأغنية الكلثومية.

ويبلغ التشويه ذروته حين يُعاد تأويل مواقفها الوطنية الكبرى بوصفها استجابة قسرية أو صفقة سياسية.. فتُنتزع (أم كلثوم) من موقع الفاعل، وتُقدَّم كضحية، بينما التاريخ يشهد بأنها ربطت صوتها بالكرامة الوطنية وجعلت الغناء فعل مقاومة في لحظات الانكسار، لا مجرد امتثال.

وفي المحصلة، يكشف فيلم (الست) عن فجوة خطيرة بين الاقتراب من الرمز وفهمه.. لم يُخطئ لأنه كشف جوانب إنسانية، بل لأنه خلط الإنسانية بالنميمة، والعمق بالتشويه، والتفسير بالفضول.. فالسيرة الفنية الحقيقية لا تفضح العبقري، ولا تحاكمه، بل تشرح لنا لماذا كان عظيما، ولماذا ظل كذلك.​​​​​​​​​​​​​​​​

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.