رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

شكرا صناع فيلم (الست).. أعدتم روح (أم كلثوم) للشعب المصري!

شكرا صناع فيلم (الست).. أعدتم روح (أم كلثوم) للشعب المصري!

شكرا صناع فيلم (الست).. أعدتم روح (أم كلثوم) للشعب المصري!
استعاد الفيلم صورة (أم كلثوم) بشموخها كسيدة حاول البعض تشويه سيرتها، فانقلب السحر على الساحر
شكرا صناع فيلم (الست).. أعدتم روح (أم كلثوم) للشعب المصري!
محمد حبوشة

بقلم الكاتب الصحفي: محمد حبوشة

بعيدا عن الفعل الدرامي الرجيم لفيلم (الست)، وما أحدثه من ردود فعل غاضبة جراء تشويه سيرة السيدة العظيمة (أم كلثوم)، إلا أنه هناك حسنات كثيرة لهذا الفيلم، أهمها أنه نجح الفيلم في استعادة روحها وشموخها إلى الحياة من جديد، وجاءت معه صحوة  وجدانية كبيرة من الشعب المصري المأزوم في اقتصاده وضيق وسائل عيشه، ليؤكد على شعبيتها من جديد رغم مرور 50 عاما على رحيلها وسط غيامات الأيام الصعبة.

ومن ثم نتوجه بالشكر الجزيل إلى صناع هذا الفيلم – على رداءته (شكلا ومضمونا) – أن جعلها (ترند) لهذا الجيل من الشباب الذي أثبت جديته في البحث عن سيرة (أم كلثوم كأيقونة ورمزا مصريا خالدا طوال الأيام الماضية، فضلا عن أنه قرب المسافات الأباء والأبناء والأحفاد الذين أجمعوا باتفاق ضمني على عظمة الست – دون تخطيط مسبق – بل من فرط اللحظة الراهنة مهما كانت مراراتها.

لننظر جيدا إلى الجانب المضيء من الصورة في هذا الفيلم، صورة (أم كلثوم) بشموخها كسيدة حاول البعض تشويه سيرتها، فانقلب السحر على الساحر، وأثبت بما لايدع مجالا للشك أنه مهما كانت عناصر الإبهار التي تصنعها الصورة السينمائية، تبقي الحقيقة واضحة مهما غابت عن أعين المزيفين الذين ارتكبوا جريمة نكراء في عز النهار.

بعيدا عن نظرية المؤامرة، فقد ثبت عمليا أن الجهل المعرفي يجري في دماء جيل السينمائيين الجدد، وتمثل ذلك في مفارقة اختيار (أحمد مراد) لكتابة فيلم عن (أم كلثوم)، في محاولة كاشفة بحد ذاتها عن زيف خياله، فمراد، مهما حقق من رواج في عوالمه الغرائبية والهلوسية والانفصال عن الواقع المصري الحقيقي يظل عاجزا عن أن يطاول قامة (أم كلثوم).

(أحمد مراد) لم يمتلك يوما خامة فكرية أو حساسية تاريخية تمكنه من مقاربة شخصية بحجم (أم كلثوم)، ليس بوصفها أيقونة فنية فحسب، وإنما أيضا بوصفها عقدة وجدانية في الوعي المصري، كما أنه لم يصنع أي مقاربة اجتماعية في أفلامه السابقة التي تجنح نحو التهويمات والغرائبية وسط طلاسم غير مفهومة بالمرة.

شكرا صناع فيلم (الست).. أعدتم روح (أم كلثوم) للشعب المصري!
عمد صناع فيلم (الست) إلى محاولة تحطيم الهالة الأيقونية للسيدة (أم كلثوم)

تحطيم الهالة الأيقونية للست

ولننظر إلى تصريح المؤلف المستهتر بأن العمل على فيلم عن (الرسول) كان سيكون أسهل من العمل على (أم كلثوم)، وهذا التصريح للأسف لايبدو زلّة لسان، بقدر ما يكون مؤشرا على نزق فكري وقلة إدراك لطبيعة الرمز الذي يتصدى له، وينذر بمقاربة سطحية لا تحتمل ثقل الشخصية ولا تعقيد حضورها.

وظني أنه إذا كان السيناريو هو العمود الفقري لأي عمل من هذا النوع الذي ينتمي إلى دراما السيرة الذاتية، فإن الإخراج لا يقل خطورة حين يتعلق الأمر برمز بحجم (أم كلثوم)، وعلى الرغم من أن (مروان حامد) مخرج محترف، ويمتلك أدوات تقنية عالية وخبرة واضحة في إدارة الإنتاجات الكبرى، لكنه من خلال أعماله السابقة يظل أسير سينما الصنعة المتقنة أكثر من كونه صاحب رؤية ثقافية أو تاريخية عميقة.

عمد صناع فيلم (الست) إلى محاولة تحطيم الهالة الأيقونية للسيدة (أم كلثوم)، ولكنهم منيوا بخسارة مدوية، جراء الخفة والتعامل باستهتار في رصد وقائع وأحداث بعيدة كل البعد عن حياة (أم كلثوم)، تلك الفلاحة البسيطة التي أذهلت العالم بأجمعه بفنها الكلاسيكي الذي يخاطب الروح والوجدان.

اتضحت لي خيبة الأمل في رحلتي لمشاهدة فيلم (الست)، فقد ذهبت مسلحا بالثقة والحب العميق للنجمة (منى زكي)، وكنت قد قرأت النقد الجماهيري الحاد الذي سبق عرض الفيلم، وكنت أراه مجرد تحامل غير منصف على فنانة أقدر قدراتها ومجهودها في تجسيد هذا الرمز العظيم، ولكن الواقع العملي كان قاسيا.

بدأت الصدمة من قاعة السينما شبه الخالية، لقد كنا مجموعة أشخاص تعد على أصابع اليدين على أقصى تقدير في القاعة الفخمة بإحدى المولات، فقد ذهب سكرة الأيام الأولى لعرض الفيلم وجاءت الفكرة، وهو ما أكد على أن هذا كان مؤشرا على الإجماع الجماهيري الرافض، لتتأكد خيبة الأمل الكبرى فور بدء العرض.

الفيلم، رغم إمكانات مخرجه المبدع (مروان حامد)، افتقر إلى التناسق والترابط الدرامي بشكل صادم، فلم يكن سردا لسيرة (أم كلثوم)، بل مجموعة من المشاهد المقتطفة، هدفها الوحيد هو تجريد الست من وقارها.. لقد ضاعت العظمة الفنية أمام محاولة درامية غير موفقة لتقديم الشخصية بصفات إنسانية سلبية للغاية.

نعم كسر الفيلم الصورة الذهنية للأيقونة التي رسخت في وجداننا كرمز للقوة، والشموخ والتفاني الفني والوطني، من خلال استعراض جدة الطبع المفرطة: فقد أظهر الفيلم (أم كلثوم) في صورة عصبية لا تُطاق، وحادة الطباع بشكل مبالغ فيه، وهى صورة تتعارض تماماً مع وقارها المعهود وتحكمها في انفعالاتها كسيدة اعتلت المسرح لستة عقود، تؤكد شموخها في كل مرة تواجه فيها عشاق فنها الأصيل.

شكرا صناع فيلم (الست).. أعدتم روح (أم كلثوم) للشعب المصري!
التركيز على أن جمع المال كان أولوية قصوى لها، اختزال مسيء يغلب الجانب المادي على رسالتها الفنية

هوس الثروة والأولوية المادية

ولست أدري من أين جاء خيال المؤلف الموهوس بسينما الغرب، ورفيق دربه (مروان حامد) بفكرة هوس الثروة والأولوية المادية للست (أم كلثوم)، بحيث تم التركيز على أن جمع المال كان أولوية قصوى لها، وهو لعمري اختزال مسيء يغلب الجانب المادي على رسالتها الفنية والتاريخية والوطنية التي نعرفها، وكما عكستها في أغانيها العاطفية ومواقفها الوطنية على حد سواء.

في أثناء المشاهدة كنت أفرك رأسي طوال الوقت لمحاولة استيعاب حالة الانهيار واليأس والسوادوية التي اعترت (أم كلثوم) عبر أحداث تتسم بالفبركة والتزييف، بحيث تم إبراز (الست) في حالة من الاكتئاب والسوداوية والوهن، وكأنها شخصية كارهة للحياة وفاقدة للمعنى، بعيدة عن قوتها الروحية التي ألهمت الأجيال.

وكبيرة الآسافي في هذا الفيلم هو تضخيم الهوامش الجدلية: بمعنى التركيز على إبراز تفاصيل جانبية غير مؤكدة تاريخيا، مثل عادة التدخين.. وهنا أتساءل: لماذا يتم تضخيم هذه الهوامش على حساب التاريخ العظيم الذي سطرته سيدة الغناء العربي بحروف من نور في سجل الغناء الذي يشفي الصدور ويخلب الألباب.

لا يمكن لي أو لغيري فهم هذه الاستفزازات الفنية إلا كمحاولة لتشويه الرمز والبحث عن الإثارة الرخيصة، التي لجأ لها صناع فيلم حاول بإبهار التكنولوجيا مسخ شخصية (الست)، وإظهارها على هذا النحو المسيىء، بدعوة أنها كانت إنسانة من لحم ودم، ومن حقنا إظهارها على حقيقتها.. ومن قال أن تلك حقيقتها أيها الحمقى.. من له الحق في انتهاك سيرة عطرة إلى هذا الحد العدواني.

كما أندهش كثيرا لغياب شخصيات محورية في مسيرة (أم كلثوم)، مثل (بليغ حمدي، محمد عبد الوهاب، رياض السنباطي، وزكريا أحمدن عبد الحليم، منيرة المهدية) وغيرهم، وأعتبر أن تغييبهم بطريقة عمدية لا يمكن تبريره بالحديث عن (الوجه الإنساني) فقط.. لقد أثرت هذه الشخصيات في حياتها على المستوى الفني والإنساني.

والسؤال الذي يفرض نفسه الآن: ما الهدف من تعمد إظهار هذه الجوانب المسيئة لتاريخ (أم كلثوم)؟، في الحقيقة هذا حرام وظلم وقع بحق هرم الأغنية العربية التي جابت الشرق والغرب من أجل دعم جيش بلدها، وبذلت الغالي والنفيس لدعم المجهود الحربي!

إلى (منى زكي) تحديدا: كنتِ أكبر بكثير من أن تشاركي في عمل يُتهم بالإساءة للرمز القومي العربي، ولقد كتبت في الخامس من أغسطس 2024 هنا في نفس المكان: (لست أدري ماهو الذكاء الذي دفع الفنانة (منى زكي) لعمل فيلم عن (أم كلثوم) في هذا الفترة الحساسة من تاريخها الفني..

شكرا صناع فيلم (الست).. أعدتم روح (أم كلثوم) للشعب المصري!
كان اختيار (منى زكي) لهذا الدور خطأً فنيا واضحا

خطأ فني واضح لمنى زكي

وظني أنها ستنسف هذا التاريخ بمجرد إطلالتها في هذا الفيلم، فلا حجمها يؤهلها للعب دور (أم كلثوم)، ولا ملامحها تقترب من كوكب الشرق من قريب أو بعيد، ولا تملك صوتا رخيما يشجعها على هذا، ومن ثم كان اختيار هذا الدور خطأً فنيا واضحا، لأنها كانت بعيدة جداً عن (الست) في الشكل، والصوت، وطريقة الحركة.

كما قلت أيضا في هذا المقال: الأمر المؤكد أنه ستعقد مقارنة ظالمة بين (منى زكي)، والفنانة القديرة (صابرين)، التي جسدت ببراعة مطلقة دور (كوكب الشرق)، وذلك مستوى حجم الجسم والصوت، والأداء الخرافي الذي أهلها لتجسيد شخصية (أم كلثوم) على نحو جيد، حتى أننا نسينا (صابرين) الممثلة، وتذكرنا طوال الوقت (أم كلثوم) بشحمها ولحمها وكاريزمتها.

فمثلا: أنظر إلى تلك اللهجة التي تحدثت بها (منى زكي) في الفيلم، سوف تلحظ على الفور أنها (مفتعلة وغير موثقة) في تاريخ (أم كلثوم) التي كانت تتمتع بالفصاحة واختيار كلماتها بدقة واحترافية عالية في مخاطبة الجمهور والملوك والرؤساء، لهجة فلاحية بعيدة عنها، فلم تكن كوكب الشرق (فلاحة عوجة لسان، بل قوة عقل وروح وإرادة)، ولنا في حوارتها الإذاعية والتلفزيونية مثال واضح على ذلك.

وعلى حد الخبراء: عندما يؤدي الفنان دورا بلهجة غير لهجته، عليه أن يتدرب أولا على النطق السليم، حتى لا يهرب منه الإحساس، لأنه ببساطة شديدة إذا لم تشعر بالشخصية الدرامية وتتقمصها بكل تفاصيلها، سيتراجع إحساس الجمهور بها، وهذا ما حدث للأسف مع (منى زكي).

ربما يرى البعض أن الممثل لا يتعامل مع الشخصية الدرامية باعتباره مصورا فوتوغرافيا، يمسك الكاميرا، ولكنه مثل الفنان التشكيلي يرسم لوحة بالريشة يلونها بإحساسه، لا تتطابق بالضرورة شكليا، غير أنها يجب أن تتطابق وجدانيا، وهو ما فشلت فيه (منى زكي) شكلا ومضمونا جملة واحدة.

عجبت جدا لأولئك الذين يدافعون عن هذا الفيلم الفاشل، وأسألهم: أليس لكم عقل رشيد يميز بين الصح والخطأ.. أيها الحمقى: (أم كلثوم) رمز مصري أصيل، ولا يصح لأي عربي ولا غير عربي أن يصنع قصة رموز مصرية إلا وفقا لمعايير دقيقة مع فحص وقراءة السيناريو بطريقه نفتخر بها، وليس تقليلا من رموزنا وتشويه الهوية المصرية إلى هذا الحد القاتل من الجهل وانعدام المسئولية.

شكرا صناع فيلم (الست).. أعدتم روح (أم كلثوم) للشعب المصري!
وقع (أحمد مراد) في فخ الاستسهال التاريخي والتسطيح الدرامي

الاستسهال والتسطيح الدرامي

وأخيرا: أرى أن هذا الفيلم (160 دقيقة) وقع في فخ الاستسهال التاريخي والتسطيح الدرامي من جانب (أحمد مراد ومروان حامد)، وفشل في فهم فلسفة تناول سير المبدعين، ويبدو لي أنهم أقل خبرة لفهم أن الفن (ليس محكمة ولا سيرة ذاتية)، بل اختيار ورؤية وتأويل، وليس تسجيلا حرفيا أو فضحا لسيرة هذه السيدة العظيمة.

إن الجدل الذي دار حول فيلم (الست) كان متوقعا نظرا لشهرة أم كلثوم ومكانتها في قلوب الملايين.. ولعل هذا الاهتمام الشعبي أثار حماسا لمشاهدة الفيلم، في البداية سواء بدافع الاستمتاع أو المشاركة في النقاش العام، فما  قدم على الشاشة ليس (الست) التي نعرفها، بل شخصية مفبركة، هشة، ومشوهة، كتبت بعقلية مهووسة بتفكيك الرموز لا بفهمها، وباسم (الاقتراب الإنساني) جرى اغتيالها إنسانيا وفنيا وتاريخيا.

صحيح أن صناعة الأفلام التي تتناول شخصيات تاريخية أو فنية بارزة غالبا ما تواجه تحديات كبيرة في تحقيق التوازن بين الدقة التاريخية والرؤية الفنية، وهو ما يبدو أنه ينطبق على هذا الفيلم أيضا، خاصة أنه يفتقد الاثنتين معا.

فالمشكلة الجوهرية في فيلم (الست) لاتكمن في الإخراج ولا التمثيل، بل في السيناريو المهلهل.. نص (أحمد مراد) الذي طتبه بخيال واهي هو أصل العطب كله.. كتابة سطحية تتعامل مع التاريخ كخلفية ديكور، لا كمسار معقد تحكمه سياقات سياسية وفنية واجتماعية مستمدة من سيرة (أم كلثوم).

أحمد مراد لم يفهم أم كلثوم على الإطللاق، فكتب شيرتها كما تكتب أي شخصية درامية مأزومة: خلافات، علاقات عاطفية، نوبات غضب، ومونولوجات نفسية فارغة.. (أم كلثوم) لم تكن بطلة رواية نفسية كما جات في سياق الشريط السينمائي المسف، بل ظاهرة حضارية صنعت وعيا عاما لدى الشعب المصري والعربي.

ومع كل ما مضى.. تبقى أهم حسنات فيلم الست، أنه أعاد (أم كلثوم) للشعب المصري المأزوم حاليا روحا تحلق عاليا في سمائه الملبدة بالغيوم، وأثبت لجيل الشباب الحالي أنا أمام رمز خالد يصعب تشويهه في شريط سينمائي هزيل!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.