
بقلم المستشار: محمود عطية *
في السنوات الأخيرة بات من الواضح أن أزمة (المواهب) في مصر لم تعد مجرد انطباع أو إحساس عام، بل تحولت إلى واقع ملموس يراه الجميع في الفن والدراما والغناء والكتابة والرياضة، وبالأخص كرة القدم التي كانت يوما مجالا للتنافس الشريف والابداع الشعبي ثم أصبحت ساحة مفتوحة للفساد والمصالح الضيقة.
والسؤال الجوهري الذي يجب أن نواجهه بشجاعة هو: لماذا لا نعترف بندرة المواهب الحقيقية؟، ولماذا نصر على تكرار الوجوه نفسها والأسماء ذاتها حتي بعد أن ثبت فشلها؟، ولماذا لا توجد آلية عادلة ومهنية لاكتشاف (المواهب) وتقديمهم بعيدا عن الأهواء الشخصية والشللية والتوريث المقنع؟
إن أول خطوة في طريق الإصلاح هى الاعتراف بالخلل، والاعتراف هنا لا يعني جلد الذات ولا التقليل من قيمة الوطن، بل هو فعل وعي ومسؤولية، فالدول التي تقدمت لم تفعل ذلك عبر الإنكار بل عبر التشخيص الدقيق للمشكلة، ونحن في مصر نعاني من أزمة مركبة، أزمة إدارة وأزمة اختيار وأزمة معايير.
فالموهبة لم تعد هى المعيار الأساسي للنجاح، بل أصبح القرب من دوائر النفوذ والقدرة علي التكيف مع منظومة مغلقة هو الطريق الأسهل للصعود، وبهذا تم إقصاء آلاف الموهوبين الحقيقيين الذين لا يملكون ظهيرا ولا واسطة ولا قدرة على التملق.
في المجال الفني علي سبيل المثال نلاحظ تراجعا حادا في (المواهب) على مستوى التشخيص والأداء والكتابة، سواء في الدراما أو الأغاني أو الأشعار الغنائية، ورغم كثرة الإنتاج فان القليل منه فقط يترك أثرا حقيقيا في الوجدان العام.
والسبب ليس نقص الإمكانات ولا غياب الجمهور بل غياب الرؤية وسيطرة منطق السوق السريع الذي يراهن علي الاسم لا علي الموهبة، وعلي التكرار لا علي التجديد فالممثل الموهوب الذي لا ينتمي الي شلة معينة لا يجد فرصة، والكاتب الجاد الذي يحاول تقديم رؤية مختلفة يتم تهميشه لصالح أعمال مضمونة تجاريا ولو كانت ضعيفة فنيا، وهكذا ندور في حلقة مغلقة من الرداءة.

غابت الشخصية الفنية المميزة
أما في الغناء فقد اختلطت الأصوات وتشابهت الألحان، وغابت الشخصية الفنية المميزة وحلت محلها موجة من الاستسهال والاعتماد على الشكل والضجيج الإعلامي، بينما تراجع دور لجان الاستماع الحقيقية واختفي النقد الفني الجاد الذي كان يفرز ويقيم ويوجه، فأصبح كل من يملك تمويلا أو دعما إعلاميا قادرا على اقتحام الساحة دون اعتبار لقيمة ما يقدم.
وفي الرياضة وبالأخص كرة القدم تتجلي أزمة (المواهب) بشكل أكثر وضوحا، فهذه اللعبة التي كانت مساحة للحلم الشعبي والفرح الجماعي تحولت إلى صناعة مغلقة تتحكم فيها المصالح والسمسرة والاختيارات غير العادلة، وأصبح الفساد كلمة متداولة علي لسان الجماهير لا من فراغ بل من وقائع متكررة.
فاللاعب الموهوب في القري والأحياء الفقيرة قد لا يجد من يراه بينما يتم تصعيد لاعبين أقل موهبة لأنهم ينتمون إلى منظومة معينة أو يملكون دعما ماليا، وهذه الممارسات أدت في النهاية إلى نتائج مخيبة وفضائح رياضية، كان آخرها ما حدث للمنتخب الكروي في قطر، حيث انكشف حجم الخلل الاداري والفني بشكل لا يمكن إنكاره.
المشكلة الأكبر أننا نضع في مواقع اتخاذ القرار أشخاصا تحكمهم أهوائهم الشخصية لا معايير العلم والخبرة فيكون الناتج صفرا مهما كانت الموارد، فحين يغيب التخطيط وتحضر المجاملة لا يمكن أن ننتظر نجاحا حقيقيا، ويتكرر المشهد نفسه في مجالات أخرى، مثل ما عرف بفنكوش تلاوة القرآن بالمقامات.
حيث تم الترويج لمشروعات شكلية هدفها التربح واستعراض الحداثة الزائفة واخترقت هذه الأفكار عقول بعض المسؤولين فتم منحها شرعية لم تستحقها علي حساب القيم الحقيقية والأولويات الأهم.
وبناء علي هذا الفشل المتراكم في مجالات الفن والرياضة يبرز سؤال أكثر عمقا: لماذا لا نحاول توجيه طاقاتنا نحو المجالات التي تتقدم بها الأمم فعلا، مثل البحث العلمي والتكنولوجيا والصناعة المتقدمة والمعرفة، وكفانا رهانا خاسرا علي ما يسمى بالقوة الناعمة.
بينما واقع الحال يقول أننا اليوم لا نملك لا قوة ناعمة مؤثرة ولا قوة خشنة، بل نملك فقط مجموعة محدودة تتكسب ملايين في دوائر مغلقة، بينما يتم تجاهل العبقريات الحقيقية في الجامعات والمعامل ومراكز البحث.

عقول علمية متميزة
إن مصر تزخر بعقول علمية متميزة ومواهب بحثية حقيقية، والدليل على ذلك هو العدد الكبير من النوابغ المصريين الذين يلمعون في أوروبا والأمريكتين، ويحققون انجازات في مجالات الطب والهندسة والفيزياء والذكاء الاصطناعي وغيرها.
هؤلاء لم يصبحوا عباقرة فجأة بمجرد خروجهم من مصر بل هم نتاج منظومة تعليمية اساسية جيدة نسبيا، لكنهم وجدوا في الخارج بيئة تحترم العلم وتمنح الفرصة علي اساس الكفاءة لا العلاقات، ولو أن هذه العقول حظيت بعشرة في المئة فقط من الاهتمام والدعم الذي تمنحه الدولة للفاشلين والمتصدرين بلا موهبة لارتفع اسم مصر عاليا بالعلم والمعرفة ولتحولت إلى قوة حقيقية يحسب لها الحساب.
إن المشكلة ليست في قلة الموارد بل في سوء توزيعها وسوء تحديد الأولويات، فالدولة المصرية تمنح بالفعل دعما كبيرا للتشخيص والرياضة، لكن الرهان المبالغ فيه عليهما أنتج خسارة مدوية لان هذه المجالات لا يمكن أن تكون أساس النهضة، بل هى مكمل لها.
فالعالم لايتباهي فقط بالدراما والكرة، بل يتباهي بالجامعات ومراكز الأبحاث والابتكار والانتاج المعرفي، وحين تغيب هذه الركائز تصبح القوة الناعمة مجرد صورة بلا مضمون.
الخلاصة يا سادة: إن الاعتراف بالحق وباين نقف هو السبيل الوحيد للتغلب علي الفشل، وأن نترك خطاب التفاخر الفارغ من قبيل أننا وكنا وكان وننزل إلى أرض الواقع، فمصر بحكم تاريخها وموقعها هى مركز ثقل في الوطن العربي، وإذا انتعشت فيها المواهب الحقيقية والعبقريات العلمية والفنية نهضنا جميعا، أما الاستمرار في تجاهل المشكلة فلن يؤدي إلا إلى مزيد من الانحدار.
إن المطلوب اليوم هو بناء آليات حقيقية لاكتشاف (المواهب) في كل المجالات عبر لجان مستقلة من محترفين حقيقيين، ووضع معايير شفافة للاختيار وربط الدعم بالنتائج لا بالأسماء، وتوجيه استثمارات حقيقية للعلم والمعرفة دون أن نهمل الفن والرياضة لكن في اطارهما الطبيعي كمكملين لا كبديلين للنهضة.
فبهذا فقط يمكن أن نستعيد الثقة ونفتح الطريق أمام جيل جديد يستحق الفرصة، ويملك القدرة علي حمل اسم مصر الي المستقبل.
* المحامي بالنقض – منسق ائتلاف مصر فوق الجميع