رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

رضا العربي يكتب: (أم كلثوم).. حين تُبرِّئها النجوم ويخونها الاتهام

رضا العربي يكتب: (أم كلثوم).. حين تُبرِّئها النجوم ويخونها الاتهام
في غنائها حزنٌ لا يصرخ، وفرحٌ لا يقفز.. كل شيء عندها موزون، محسوب
رضا العربي يكتب: (أم كلثوم).. حين تُبرِّئها النجوم ويخونها الاتهام
رضا العربي

بقلم الناقد الفني: رضا العربي

لم تأتِ (أمّ كلثوم) مسرعة، ولا غنّت كما يغنّي العابرون. جاءت على مهل، كمن يعرف أنّ الطريق طويل، وأنّ الصوت إن لم يحمل روحه ينكسّر عند أول منعطف. كانت تمشي بالغناء لا فوقه، وتضع قدمها على النغمة كما يضع الفلاح قدمه في الطين: واثقًا أنّ الأرض ستستجيب.

صوت (أم كلثوم) لم يكن زينة للمساء، بل مساءً كاملًا.. حين تبدأ، يتأخّر الزمن قليلًا، ويجلس الناس كما لو كانوا ينتظرون اعترافًا لا أغنية.. لم تكن تُغري السامع، بل تتركه يقترب وحده، يتقدّم خطوة خطوة، حتى يجد نفسه داخل الصوت، لا خارجه.

في غنائها حزنٌ لا يصرخ، وفرحٌ لا يقفز.. كل شيء عندها موزون، محسوب، كأنها تخاف على الشعور من الفضيحة. كانت تعرف أن الوجع إذا قيل دفعة واحدة يبتذل، لذلك كانت تقسّمه على المقامات، وتمنحه وقتًا كافيًا ليصير حكمة.

غنّت (أم كلثوم) الحب كما لو كان امتحانًا أخلاقيًا، لا نزوة.. وغنّت الفراق كأنه قدر يُحترم لا لعنة تُسب.. لذلك بقيت أغانيها صالحة للذين تعبوا، لا للذين يريدون تسلية سريعة.. من يستمع إليها يحتاج فقط قلبًا جادًا، أو قلبًا انكسر بما يكفي.

لم تكن (أم كلثوم) بنت عصرها فقط، بل بنت الزمن حين يبطئ.. ولهذا، كلما أسرع العالم، عدنا إليها. نفتح صوتها كما يُفتح كتاب قديم، لا لنقرأه، بل لنطمئن أن شيئًا في هذا العالم كان صادقًا يومًا ما.

اذا ليس من السهل أن يُختزل كوكبٌ في لقطة، ولا أن تُحاصَر ظاهرةٌ كونية بساعتين من الدراما.. هكذا بدت (أم كلثوم) في الفيلم الأخير: موضوعًا للمساءلة أكثر منها موضوعًا للفهم، كأن التاريخ جلس على مقعد الاتهام، وكأن الصوت الذي عبر قرنًا كاملًا صار مطالبًا بأن يعتذر عن عظمته.

(أم كلثوم) لم تكن سيرةً تُروى، بل زمنًا يُعاش. كانت ابنة لحظةٍ مصرية معقدة، خرجت من الطين لا لتتبرأ منه، بل لتحمله معها إلى أعلى نقطة في السماء.. ومن يقرأ هذه الرحلة قراءةً سطحية، يراها صعودًا قاسيًا، ومن يقرأها بعمقٍ فلسفي، يراها صراع البقاء الأول: صراع الإنسان مع الفناء، والفن مع النسيان.

رضا العربي يكتب: (أم كلثوم).. حين تُبرِّئها النجوم ويخونها الاتهام
(أم كلثوم) لم تكن امرأةً سهلة.. ولم تكن مطالَبة بأن تكون كذلك

(أم كلثوم) لم تكن امرأةً سهلة

فيلم (الست)، وهو يحاول أن (يؤنسن) الأسطورة، وقع أحيانًا في فخ تبسيطها؛ خلط بين الصرامة والغلظة، وبين الانضباط والحقد، وبين إدارة المجد والغيرة.. لكن الفلسفة تعلّمنا أن كل قيمة عليا لها ثمن، وأن من يقف طويلًا على القمة لا بد أن يكتسب قسوة الجبال.. ليست القسوة رذيلةً هنا، بل درعًا وجوديًا يحمي المعنى من التلاشي.

(أم كلثوم) لم تكن امرأةً سهلة.. ولم تكن مطالَبة بأن تكون كذلك.. الفن العظيم لا يولد من اللين وحده، بل من القدرة على الاحتمال.. كانت تعرف أن الصوت أمانة، وأن الجماهير ليست جماهير تصفيق، بل كيانًا أخلاقيًا يجب ألا يُخدع.. لذلك بدت صارمة، لأن الصرامة كانت شكلًا من أشكال الاحترام. ومن لا يحتمل الاحترام يسميه قسوة.

أما اتهامها بالغيرة، فهو أكثر التهم سذاجة.. الغيرة تفترض خوفًا من الزوال، وأم كلثوم كانت تعيش في وعيٍ زمني مختلف؛ كانت ترى المستقبل وهو يأتي إليها.. من يخاف لا ينتظر، ومن يغار لا يبني.. هى بنت مؤسسة كاملة: مؤسسة الصوت، والكلمة، واللحن، واللحظة.. والمؤسسات لا تغار، بل تُنظم المجال حولها.

فيلم (الست) حين اقترب من هذه الحقيقة، أنصفها دون أن يدري؛ أظهر امرأةً تحرس مشروعها كما تحرس الأم طفلها الوحيد.. أهذا حقد؟ أم مسؤولية؟ أهذا تعالٍ؟، أم وعيٌ بأن السقوط لا يكون شخصيًا حين تكون رمزًا، بل يكون سقوط أمةٍ كاملة؟

(أم كلثوم) كانت تعرف أن الفن ليس ديمقراطيةً مطلقة، وأن الذائقة تُربّى كما يُربّى العقل.. لذلك لم تنزل إلى مستوي الجمهور، بل رفعت مستوي الجمهور إليها.. لم تُبسّط الأغنية، بل عمّقت المستمع.. وهنا يكمن سوء الفهم الأكبر: من لا يحتمل العمق يتهم العميق بالاستعلاء.

رضا العربي يكتب: (أم كلثوم).. حين تُبرِّئها النجوم ويخونها الاتهام
فيلم (الست)، في جوهره، شهادة على صعوبة تمثيل العظمة

صعوبة تمثيل العظمة

فيلم (الست)، في جوهره، شهادة على صعوبة تمثيل العظمة.. فالعظمة لا تُجسَّد، بل تُحاط بالصمت.. و(أم كلثوم) كانت صمتًا ثقيلًا بقدر ما كانت صوتًا طاغيًا.. كانت امرأةً فهمت أن الفن موقف وجودي، وأن النجاة ليست في اللطف، بل في الصدق.

ومن المؤكد أن (أم كلثوم) لا تحتاج  إلى دفاع، لأن صوتها ما زال يفعل ما لا تفعله الأفلام: يعلّق الزمن، ويُسكت الجدل، ويضع الإنسان أمام نفسه عاريًا من الأحكام.. كل ما علينا، حين نشاهد أي عمل عنها، ألا نسأل: هل كانت طيبة أم قاسية؟ بل أن نسأل السؤال الأصدق:

كيف استطاعت امرأةٌ واحدة أن تحمل كل هذا الزمن في حنجرتها، وتنجو؟

إذا (أم كلثوم) لم تكن مجرد صوتٍ خرج من حنجرة، بل كوكبًا عبر سماء القرن العشرين بمدارٍ ثابت، لا تحكمه نزوات السوق ولا تحرّكه غيرة البشر.. وكل محاولة لجرّها إلى وحل الاتهامات – بالسوقية، بالحقد، بالغيرة – تبدو، من منظورٍ فلكيٍّ وفلسفيٍّ، كمن يحاكم نجمًا لأنه أضاء أكثر مما يحتمل الليل.

في فيلم (الست) الذي أعاد قراءة سيرة (الست)، لم تُقدَّم أم كلثوم بوصفها امرأةً شرسة أو روحًا غليظة، بل بوصفها كيانًا تشكّل على مهل، مثل كوكبٍ وُلد من ضغطٍ هائل، فصار صلبًا، لامعًا، وعصيًّا على التفتّت.. هنا، لا تعود الأخلاق شائعةً اجتماعية، بل مسارًا؛ ولا تعود المنافسة غيرةً، بل قانون جذبٍ كونيّ: الأقوى تأثيرًا يفرض مداره.

رضا العربي يكتب: (أم كلثوم).. حين تُبرِّئها النجوم ويخونها الاتهام
إذا قرأنا (أم كلثوم) قراءةً فلكية، وجدناها أقرب إلى كوكبٍ ثابت الطالع، بطيء الحركة، شديد الجاذبية

فلك الشخصية: مدار لا يعرف الضجيج

إذا قرأنا (أم كلثوم) قراءةً فلكية، وجدناها أقرب إلى كوكبٍ ثابت الطالع، بطيء الحركة، شديد الجاذبية.. لم تكن من أبناء العبور السريع ولا من نجوم الذيل اللامع. كانت تنتمي إلى فئة الأجرام التي تُراكم الزمن داخلها، فتزداد كثافةً ووقارًا.

من هنا، بدا صمتها قاسيًا على من اعتادوا الضجيج، وبدا انضباطها صلفًا على من لا يحتملون النظام.. لكن الفلك يعلّمنا أن الثبات ليس قسوة، وأن الصرامة ليست حقدًا؛ بل شرط الاستمرار.

الغيرة.. أسطورة بشرية أمام قانون الجذب

الغيرة في الفن تهمة الكسالى.. من لا يفهم قوانين الجاذبية يتهم الكوكب بأنه يسرق الضوء.. (أم كلثوم) لم تُقصِ أحدًا لأنها لم تكن في حاجة إلى الإقصاء؛ مدارها كان مكتفيًا بذاته.. من اقترب انجذب، ومن ابتعد ظل يدور في فلكه الخاص.

الفيلم، في أكثر مشاهده إنصافًا، يُظهر كيف كانت (الست) تُدير علاقتها بالمنافسة كفيلسوفٍ يعرف أن الساحة تتسع، وأن الصوت الذي يُخاطب الوجدان لا يُغلق أبواب الآخرين.

رضا العربي يكتب: (أم كلثوم).. حين تُبرِّئها النجوم ويخونها الاتهام
قرب أم كلثوم من الناس لم يكن سقوطًا، بل اختيار مدارٍ منخفضٍ يتيح التأثير المباشر

السوقية… حين يُساء فهم الشعب

أما اتهامها بالسوقية، فهو اتهام لمن لا يميّز بين الشعبية والابتذال.. (أم كلثوم) كانت شعبية لأنها فهمت نبض الجماعة، لا لأنها انزلقت إلى أدنى الذائقة.. في الفلك، هناك نجوم تُرى بالعين المجردة لأنها قريبة من الأرض، لا لأنها أقل شأنًا.. قرب أم كلثوم من الناس لم يكن سقوطًا، بل اختيار مدارٍ منخفضٍ يتيح التأثير المباشر.. كانت تعرف أن الفن، كي يعيش، عليه أن يُسمَع، لا أن يُعلَّق في أبراجٍ عاجية.

رضا العربي يكتب: (أم كلثوم).. حين تُبرِّئها النجوم ويخونها الاتهام
الحقد يفترض استعجالًا، وأم كلثوم كانت ابنة الصبر.. الزمن عندها لم يكن عدوًا بل حليفًا

الحقد… قراءة خاطئة للزمن

الحقد يفترض استعجالًا، وأم كلثوم كانت ابنة الصبر.. الزمن عندها لم يكن عدوًا بل حليفًا.. كانت تُراكم البروفات كما تُراكم الكواكب مادتها، وتنتظر اللحظة التي يكتمل فيها القمر.. من يقرأ هذا الانتظار بوصفه قسوةً أو تعاليًا يخطئ فهم الفلك؛ فالنجوم لا تتعجّل الشروق.

رضا العربي يكتب: (أم كلثوم).. حين تُبرِّئها النجوم ويخونها الاتهام
ما وُصف بالغيرة كان إدارةً واعيةً لمساحة الضوء

الفيلم: شهادة زمنٍ لا دفاع محامٍ

الفيلم الأخير لا يدافع عنها بخطابة، بل يترك الزمن يتكلم.. يُظهر أن ما حُسب عليها كان في جوهره شروط النجاة في مدارٍ قاسٍ.. وأن ما وُصف بالغيرة كان إدارةً واعيةً لمساحة الضوء.. وأن ما قيل عن السوقية والابتذال في شخصها لم يكن سوى لغةٍ اختارت أن تكون مفهومة بلا تنازل.

في النهاية، (أم كلثوم) ليست موضوع محاكمة أخلاقية، بل ظاهرة كونية.. والظواهر لا تُدان؛ تُفهم  من يصرّ على اتهامها، كمن يطالب الشمس بالاعتذار لأنها أشرقت.. أما من ينظر إليها بعين الفلك، فيدرك أن (الست) لم تكن امرأةً ضد أحد، بل نجمًا مع الجميع – نجمًا عرف مداره، فبقي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.