
بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
لم يكن (محمد هاشم) مجرد ناشر يجيد انتقاء ما ينشره، كان اهم ما يميز (هاشم) صداقته بمختلف الأجيال والأطياف، و بالرغم من الاعداد الضخمة التي يعرفها إلا أنه بالنسبة لكل واحد منهم الصديق الصدوق الودود، يلقى الجميع في محبة و بشر و ترحاب مبتسما كطفل سعيد لوجود أهله حوله.
ولذا كانت دار ميريت هى الملجأ و الملاذ لكثيرين سواء كانوا من صعاليك وسط البلد أو علية القوم، أو كانوا من نجوم الوسط الثقافي أو من الباحثين عن فرصة، الكل يجد في ميريت المرفأ والدفء المفتقد والصداقة بلا حدود، وأيضا الحرية بلا سقف، سواء كنت معارضا شرسا أو تبحث عن الإصلاح من الداخل ، المهم الا تكون من الخانعين.
يستقبلك (محمد هاشم) في (دار ميريت) للمرة الأولى وكأنه يعرفك من سنين، يدعوك الى قراءة ما ينشر – ولو مجانا – فقد كنت أحيانا أزوره للحصول على كتاب ما فيصر على أن يهدينى عدة كتب تفوق بكثير ما أدفعه نظير كتاب طلبته.
وفي المرة التالية سيقدمك إلى أصدقائه على أنك أعز صديق له، وأنك من الأوائل في مهنتك (حتى و لو كانت مهنتك هى الصياعة)، و ستدخل الى مكتب (محمد هاشم) لتجد نجوما كبار في الثقافة و الفن تركوا عالمهم وجاءوا لميريت التي تشبه الميدان العام، وبرغم هذا فكل منهم يتمتع بخصوصيته .
في هذا المكان قبل ثورة يناير تكونت حركة (أدباء وفنانين من أجل التغيير) كرافد من روافد (حركة كفاية) في البداية، ثم صارت حركة ثورية مستقلة ضمن الجمعية الوطنية للتغيير التى سلمت قيادتها للدكتور (محمد البرادعى) ونادت به رئيسا للجمهورية بديلا لمبارك، وعندما اشتعلت ثورة يناير كانت (ميريت) غرفة عمليات لفصيل من فصائل الميدان و استراحة و ملجأ لذلك الفصيل.
وبعد الثورة كانت (ميريت) نقطة ارتكاز في المعركة ضد الإخوان، ففي الخامسة من مساء الخميس 23 مايو 2012 اجتمع على سلم نقابة الصحفيين عدد كبير من المثقفين – كتابا و فنانين – فى وقفة احتجاجية ضد وجود وزير الثقافة الإخوانى – قبل اجتماعهم داخل النقابة فيما أسموه المؤتمر الأول للمثقفين (برغم انه سبقه مؤتمر في أكاديمية الفنون) الذى أعلنوا أن هدفه (التصدى لمحاولات أخونة الثقافة، وطمس هوية مصر).

ميريت تشبه خلية النحل
والحقيقة أن الوقفة وكذلك المؤتمر سبقهما كثير من اللقاءات والاجتماعات التى تمت معظمها بدار ميريت في وجود (محمد هاشم)، حيث كانت تشبه خلية النحل تضيق فى معظم الوقت على الاعداد الكبيرة التى تتوافد عليها.. تناقش وتقترح وتختلف وتتفق لكن داخل هدف مشترك هو رفض أخونة الثقافة.
وبعد طول جدال تم الاتفاق على بيان باسم المؤتمر، ولم يكن الجدل بسبب مضمون البيان ولكن بسبب بعض الصياغات، فهناك من كان يخشى أن يُفهم الموقف على أنه انتصار لاشخاص عزلهم الوزير، أو انتصارا لمن هم على خلاف معه، برغم أن وجهة نظر الأكثرية أن هذا العزل هو مؤشر لاخونة الدولة.
و في كلمته أمام المؤتمر ناشد (محمد هاشم) الحضور بالتوقيع على استمارة حملة (تمرد) لسحب الثقة من رئيس الجمهورية وقتها الدكتور محمد مرسى، وكان متطوعون قد قاموا بتوزيع استمارة (تمرد) على جموع الأدباء والمثقفين المشاركين، ووقع الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم، والكاتب الكبير بهاء طاهر على الاستمارة على المنصة أمام الكاميرات.
و بعدها كان (محمد هاشم) أحد أوائل المتواجدين في الاعتصام بوزارة الثقافة مع رموز الثقافة المصرية يوم 5 يونيو من نفس العام (بهاء طاهر، فتحية العسال، صنع الله إبراهيم، نبيل الحلفاوى، أحمد نوار، سيد حجاب، جلال الشرقاوى، سهير المرشدى، سامح الصريطى، و آخرون ).
وأثناء الاعتصام ظهر لى وجه الطفل في (محمد هاشم) بوضوح، فلقد قررنا تكرار تجربة المخرج الصديق (ناصر عبد المنعم) في ميدان التحرير أثناء ثورة يناير بإنشاء مسرح أمام مبنى الوزارة تقدم فيه فقرات فنية وفعاليات ثقافية طوال الاعتصام، وقمنا بتوزيع المسئوليات علينا، ونتيجة لغياب أحد الزملاء بشكل مفاجئ، تصدى (محمد هاشم لتقديم الفقرات.
ولكن للأسف كان صوته المجهد أصلا يخرج بصعوبة من حنجرته فلا نستطيع تفسير الحروف ولا مدلولاتها، وعندما صارحته بهذا غضب بشدة كطفل عنيد، وقاطعنى عدة أيام بالرغم من الصداقة بيننا، ولم يعد إلى منصة الاعتصام إلا بعد جلسة طويلة بيننا.

استراتيجية للثقافة المصرية
وبعد انتهاء الاعتصام شاركت – بترشيح منه – في التحضير لمؤتمر (مصر في المواجهة) ضمن مجموعة ضمت المخرج (مجدى أحمد على، والفنان محمد عبلة والشاعر والناقد شعبان يوسف)، هذا المؤتمر الذى ضم ممثلين لكافة الأجيال والأطياف الثقافية لوضع استراتيجية للثقافة المصرية.
في أثناء ذلك أدركت سعة علاقات (محمد هاشم) وتنوعها ومعرفته العميقة بكل الفنانين و الأدباء خارج المؤسسة الثقافية الرسمية، والتفاف كثير من الغاضبين حوله، فكان خير ممثل لهم.
و بعد مرور أحداث ثورة يونيو، توالت على (محمد هاشم) عدة ضربات أولها انتقاله من مقر ميريت الأول إلى مقر جديد، ولكنه كان قادرا دائما وأبدا على الصمود، أحيانا تفلت أعصابه – كأى طفل غاضب – فيكتب على وسائل التواصل لاعنا الدنيا، و يسب البشرية جمعاء، مهددا بالانسحاب التام من الحياة !!
و لكن جموعا تتصل بهاشم على الفور تسأله عما أصابه، وتشد من أزره، أو ربما تعرض عليه المساعدة، ولكنه في الحقيقة لم يكن يريد أكثر من (الطبطبة) وأن يشعر بأن الأصدقاء مازالوا حوله يحبونه ويدعمونه، وأن الأدباء والشعراء الذين كانوا يدينون له بالشهرة مازالوا يعترفون بفضله.
ولا أدرى الآن بعد أن تركنا (محمد هاشم)، من لهؤلاء الجوعى إلى فرصة، فما زال هناك كثيرون في احتياج لهاشم كى يأخذ بيدهم ويضعهم في دائرة الضوء، ولكن الطفل الغاضب انصرف فجأة دون وداع.