رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

محمد الروبي يكتب: على هامش فيلم (الست).. الدراما حين تقترب من الذاكرة

محمد الروبي يكتب: على هامش فيلم (الست).. الدراما حين تقترب من الذاكرة
يخرج فيلم (الست) إلى الواجهة بوصفه مثالًا معاصرًا على هذا النوع من الاقتراب من الذاكرة
محمد الروبي يكتب: على هامش فيلم (الست).. الدراما حين تقترب من الذاكرة
محمد الروبي

بقلم الكاتب والناقد: محمد الروبي

عفوا.. لن أتطرق هنا لفنيات فيلم (الست).. ولن أتحدث عن بناء (الدراما) أو لقطات أو أداء تمثيلي.. فكل ذلك سيأتي في مقال خاص أكثر تأملاً يستحقه فيلم عن واحدة من أهم الشخصيات المؤثرة في حياتنا.

لكني سأتحدث عن مخاوف تراودني منذ فترة.. ومع الأيام يزداد يقيني بها.

سأطرح هنا أسئلة  تتجاوز التقييم الفني المباشر، أسئلة لا تتعلق بالشاشة وحدها، بل بالسياق الذي تُنتَج داخله،وبالذاكرة التي تُستدعى من خلالها، فـ (الدراما) لم تكن يومًا وسيطًا بريئًا.

من المسرح الإغريقي، إلى مسرح البلاط الأوروبي، إلى السينما الحديثة، كانت الفنون السردية دائمًا جزءًا من صناعة التصوّرات العامة عن الذات والآخر، وعن السلطة والشرعية والمعنى.

ولعلّ المسرح العالمي نفسه يقدّم لنا مثالًا كلاسيكيًا على هذا التداخل.. ففي ماكبث (مثلا)، لم يقدّم شكسبير التاريخ الاسكتلندي كما كان، بل أعاد صياغته بما ينسجم مع المناخ السياسي شديد الحساسية الذي كُتب فيه النص.

جاءت المسرحية في أعقاب محاولات اغتيال الملك جيمس الأول، وهى لحظة كان فيها أي تناول (الدراما) لفكرة قتل الملوك محلّ ريبة ومساءلة.

فاختار شكسبير أن يمجد ( بانكو) – جد حاكم عصر شكسبير – ويشوه (ماكبث)، على عكس ما تحفظه الذاكرة عن ملك أعده الإنجليز أحد أعدل ملوكهم جميعا.

في هذا السياق، يبدو تمجيد سلالة بانكو – التي كان الملك يعدّ نفسه امتدادًا لها – أقرب إلى اختيار واعٍ لطمأنة السلطة، وإعادة ترتيب الوقائع التاريخية بما ينسجم مع خطاب الشرعية، أكثر منه انحيازًا جماليًا بريئًا.

محمد الروبي يكتب: على هامش فيلم (الست).. الدراما حين تقترب من الذاكرة
في ماكبث (مثلا)، لم يقدّم شكسبير التاريخ الاسكتلندي كما كان

الإشكالية في شروط السرد

هكذا، لا تُقرأ ماكبث فقط كتراجيديا عن الطموح والدم، بل كنص يكتب من داخل لحظته السياسية، ويتحرك بحذر داخل حدودها، دون أن يفقد كثافته الفنية أو عمقه الإنساني.

والإشارة هنا ليست لإدانة شكسبير، بل لتذكيرنا أن الاقتراب من الذاكرة التاريخية ليس فعلًا محايدًا أبدًا، وأن الفارق بين عمل وآخر لا يكمن في موضوعه، بل في شروط سرده وزاوية نظره.

من هنا، لا تكمن المشكلة في حق أي جهة في إنتاج عمل عن رمز مصري؛ فهذا حق لاخلاف عليه.. الإشكالية الحقيقية تكمن في شروط السرد: من يروي؟ ولأي جمهور؟ وبأي منظور؟ وفي أي لحظة تاريخية؟

الخطورة لا تتمثل في تشويه مباشر أو إساءة فجة، فذلك يسهل كشفه ومقاومته، بل في إعادة تقديم الرموز في صيغة محايدة ظاهريًا، منزوعة الصراع، تُفرغ التاريخ من توتره، وتحوله إلى حكاية عامة قابلة للاستهلاك، وبأثر سياسي مقصود رغم إدعاء الحياد.

في هذا الإطار تحديدًا، يخرج فيلم (الست) إلى الواجهة بوصفه مثالًا معاصرًا على هذا النوع من الاقتراب من الذاكرة.. لا بوصفه عملًا يجب رفضه أو مصادرته، بل بوصفه نصًا يستحق القراءة في سياقه الإنتاجي والثقافي.

السؤال هنا ليس عن الإتقان الفني، بل عن الكيفية التي تُعاد بها صياغة الرموز حين تنتقل من فضائها التاريخي المشتبك إلى فضاء (ترفيهي) عابر للحدود.

هل يُستعاد الماضي بوصفه خبرة صدامية أسهمت في تشكيل الوعي الجمعي؟، أم بوصفه صورة تبدو في الظاهر (محايدة)، بينما هي في حقيقتها متعمدة لهدف أعمق وأخطر تأثيرا.

وهنا سيكون السؤال التالي جديرا بالتأمل:

هل سنرى في المرحلة المقبلة أفلامًا عن أحمد عرابي، أو مصطفى كامل، أو سعد زغلول؟، هل سيُعاد تقديم جمال حمدان (مثلا) بوصفه مادة درامية؟

وهل حين سنتناول بليغ حمدي – أحد المجددين الموسيقيين في العصر الحديث – سنتوقف فقط عند واقعة (سميرة مليان) رغم صدقها ؟!

هذه الأسماء التي ذكرتها – وغيرها الكثير والكثير – ليست مجرد شخصيات تاريخية، بل علامات كبرى في تشكيل الوعي المصري الحديث، ومفاصل حقيقية في سردية الصراع والنهضة والاستقلال.

محمد الروبي يكتب: على هامش فيلم (الست).. الدراما حين تقترب من الذاكرة
من المشروع تمامًا أن نفكّر في العلاقة بين الإنتاج الدرامي والنفوذ الثقافي

حقيقة راسخة في تاريخ الفنون

وهنا لابد من أن نتذكر جيدا أن المنتج ليس فردًا، بل مؤسسة رسمية تقف خلف مشروع واسع النطاق في مجال الترفيه والثقافة، (وإن تعاون معها بعض أفراد أو كيانات إنتاجية صغيرة.. ومصرية ).

ومن ثمّ يصبح من المشروع تمامًا أن نفكّر في العلاقة بين الإنتاج الدرامي والنفوذ الثقافي، لا بوصفها نظرية مؤامرة، بل باعتبارها حقيقة راسخة في تاريخ الفنون.

هكذا، لا يكون السؤال الحقيقي عن (الست) هو: هل العمل مُتقن أم لا؟ وفقط… بل: أي ذاكرة يُسهم في تثبيتها؟ وأي ذاكرة يُترك لها أن تتآكل في الصمت؟

فـ (الدراما)، حين تقترب من الذاكرة، لا تعكسها فقط.. بل تعيد تشكيلها.

هذا ما أظنه قد حدث في (الست) وأخشاه.

أما كيف تناول أصحاب فيلم (الست) هذا الرمز المصري ..فلذلك – كما أشرت – مقالا مفصلاً.. وسيأتي قريبا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.