
بقلم الباحث المسرحي الدكتور: كمال زغلول
قال عبد الوراث عسر أن (فن الإلقاء) علم قائم بذاته، وهو أداة من أدوات الممثل الشعبي، و(هو فن النطق بالكلام على صورة توضح ألفاظه ومعانيه).
وعن صلته بعلم التمثيل المسرحي فقد عرفه (عبد الوارث عسر) بقوله: (فن الإلقاء) كما عرفته هو تمام على الصورة التمثيلية في: (شخصياتها).. وما يعتريها من انفعالات تتعلق بها الملامح والحركة.. ثم تجيء ( الكلمة ) متممة ومبينة.. فلا تتم الشخصية إلا بالأداء.. ولا ينفصل الأداء عنها.. بل هو تابع منها متجانس معها.
وكما هو واضح من التعريف يكون (فن الإلقاء) مهم بالنسبة إلى أداء الممثل للشخصية التي يمثلها، وبالتالي هو أداة هامة بالنسبة إلى الممثل، إذ يعتمد هذا الفن في مناهجه على دراسة جهاز النطق الخاص بالممثل، والتعرف على مخارج الحروف وصفاتها من فم الممثل، وتحديد مخارج كل حرف من الجهاز الصوتي.
و(فن الإلقاء) كعلم أيضا يحدد مجموعة من القواعد الأساسية التي تستخدم عند إلقاء الشعر والنثر، وهو فن يدخل في العديد من المجالات التي تتخذ اللغة وسيلة للتعبير الإنساني مثل: فن الخطابة أو فن التمثيل المسرحي، فهو ذو علاقة وثيقة بفن الأداء الحي التمثيلي.
وهذا ما يشير إليه الجاحظ بقوله: (إذ ينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين وبين أقدار الحالات، فيجعل لكل طبقة من ذلك كلاما ولكل حالة من ذلك مقاما.. حتى يقسم أقدار الكلام على أقدار المعاني ويقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات وأقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات).


كلام الناس في طبقات
ويمكن (فن الإلقاء) كعلم أيضا – عن طريق دراسته لمخارج الحروف من الجهاز الصوتي- أن يتعرض بالدراسة إلى اللهجات العامية، والتعرف على مخارج الحروف الخاصة بكل لهجة، إذ توجد لهجات عامية عربية تمثيلية يدخل فيها الإلقاء أيضا كالعربية الفصحي.
وقد وضح (الجاحظ) ذلك بقوله: (وكما لا ينبغي أن يكون اللفظ عاميا ساقطا سوقيا، فكذلك لا ينبغي أن يكون غريبا وحشيا؛ إلا أن يكون المتكلم بدويا أعرابيا؛ فإن الوحشي من الكلام يفهمه الوحشي من الناس، كما يفهم السوقي رطانة السوقي.. وكلام الناس في طبقات كما أن الناس أنفسهم طبقات.
فمن الكلام: الجزل والسخيف، والمليح والحسن، والقبيح والسمج، والخفيف والثقيل؛ وكله عربي، وبكل قد تكلموا، وبكل قد تمادحوا وتعايبوا.
ونرى من قول (الجاحظ) أن العرب يتكلمون لهجات عامية وفصحي، وقد نصح بطريقة الأداء الفصيح والعامي، وذلك من قوله: (ومتى سمعت حفظك الله بنادرة من كلام الأعراب فإياك أن تحاكيها إلا مع إعرابها ومخارج ألفاظها.
فإنك إن غيرتها بأن تلحن في إعرابها أو أخرجتها مخرج كلام المولدين والبلديين خرجت من تلك الحكاية فضل كبير، وكذلك إذا سمعت بنادرة من نوادر العوام وملحة من ملح الحشوة والطغام فإياك وأن تستعمل فيها الإعراب وأنت تحكيها أو أن تتخير لها لفظا حسنا أو تجعل لها من فيك مخرجا سريا،فإن ذلك يفسد الإمتاع بها ويخرجها من صورتها وعن الذي أريدت له وتذهب استطابة السامعين إياها واستملاحهم لها.


بنية اللهجة أو اللغة
ومن هذه الأقوال للجاحظ نستشف أنه يوجد (فن الإلقاء) التمثيلي الشعبي ذي اللهجة العامية، إذ أن اللغة هي نظام ومنه الفصيح والعامي، والشكل الفصيح أو العامي يتحدد من قبل الجماعة التي تتبني الشكل اللغوي كما قال (محمود فهمي حجازي): إن أي نظام لغوي يتكون من أصوات تُكَوِّنُ كلماتٍ تُؤلِّفُ جُمَلاً لأداء معنى.
ومن هذا الجانب نجد أية لغة وأية لهجة داخلة في هذا الإطار – و الشيء الأساسي الذي يجعل نظاما لغويا ما يصنف باعتباره لهجة أو لغة فصيحة هو موقف أبناء الجماعة اللغوية منه، ومعنى هذا أنه ليس في بنية اللهجة أو اللغة ما يتحتم تصنيفها – بالضرورة – هذا التصنيف، ولكن مجالات الاستخدام عند أبناء الجماعة اللغوية هي التي تفرض هذا التصنيف.
ولذلك نرى (الجاحظ) يركز على أهمية التعرف على نوع اللهجة المستخدمة، عند التمثيل بها أو إلقائها، وبالنسبة إلى النصوص التي تتخذ من العامية وسيلة للتعبير فيضع شروطاً أساسية لإلقائها أو التمثيل بها، ومن شروطه الأساسية أن النص العامي يمثل وفق اللهجة العامية الخارج منها، ووفق معانيها الأدبية داخل اللغة المستخدمة.
وأيضا وفق الإحساس الذي تنطق به الكلمة، إذاً فأداء الكلمة غير قراءتها، فالمعنى الأدائي مشبع بالإحساس والشعور، وهو مختلف ما بين الفصحي التي تستوجب قواعد الإعراب وما بين العامية التي لا يدخل فيها الإعراب.