
* عبد الناصر كان يرسخ لسياسة جبر الخواطر كأداة للتأثير والتواصل الاجتماعي
بقلم الدكتور: إبراهيم أبو ذكري*
بدأ وعيي بالمجتمع مبكرًا، قبل أن أتجاوز الثانية عشرة من عمري.. كنت طفلًا صغيرًا تتفتح مداركه على شعارات المرحلة الناصرية التي أطلقها (عبد الناصر)، أرددها بحماسة، وأؤمن بها كما لو أنني واحد من كبار الساسة، رغم أنني ما زلت في أولى خطوات العمر ولم أكن أدرك ان اتعلم الدروس الأولي بعلوم الاعلام.
في بيتنا كان فيه جميع التيارات الحزبية، كان لكل فرد بصمته الخاصة في تشكيل وعيي.. والدي – رحمة الله عليه – كان وفديًّا أصيلًا، يؤمن بمبادئه ويتمسك بها.. أما أخي الأكبر (محيي) فقد كان مختلفًا فهو سعدي وشقيقي الثاني عضوا بالجيش والثالث كاتبا مستقل.
وكأنه يطبق المقولة الشهيرة: (لن أعيش في جلباب أبي).. إخوتي الصبيان كانوا يعيشون تفاصيل السياسة في قريتنا، يتابعون الانتخابات ويحللون المستجدات، بينما أخواتي البنات كن جزءًا من الحياة الاجتماعية النسائية التي لا يقل أثرها عن السياسة في تشكيل المجتمع.
كنت أعيش بين كل هذه الدوائر المتداخلة: السياسة، المجتمع، والبيت.. ووسط هذا كله، كان والدي يشجعنا على الانخراط والتفاعل، لا يفرض قيودًا، بل يفتح الأبواب ويمنحنا الثقة.. خصص لي مكانًا واسعًا في البيت، لأجتمع فيه مع أصدقائي.
ومن هناك بدأت أولى خطواتي في القيادة والعمل الجماعي: أسسنا فريقًا لكرة القدم، ونظمنا سباقات دراجات، وأقمنا دورات رمضانية بكرة الشراب.. كان اسم فريقي يحمل روح الطفولة والابتكار: كاوتش الاتحاد.
ذلك الركن الصغير من بيتنا، وذلك الفريق البسيط، لم يكونا مجرد لعب ولهو، بل كانا المدرسة الأولى التي تعلمت فيها معنى الانتماء، والعمل مع الآخرين، والقدرة على صناعة مساحة خاصة وسط عالم يموج بالأفكار والتيارات.

رسالة إلى الرئيس (عبد الناصر)
لم يكن ذلك الركن في بيتنا، ولا فريق (كاوتش الاتحاد) وحدهما هما ما صاغ بداياتي الأولى.. بل هناك تجربة أخرى تركت في نفسي أثرًا لا يُمحى: رسالة قصيرة بعثت بها إلى الرئيس (عبد الناصر).
كنت صبيًا صغيرًا، لا أتجاوز أعوامي الأولى بعد العاشرة، ومع ذلك حملتني الحماسة على أن أكتب للرئيس.. لم أتوقع أبدًا أن تصل كلماتي، أو أن تحظى بأي اهتمام، غير أن المفاجأة الكبرى أنني تلقيت ردًا.. كان ردًا بسيطًا في مضمونه، لكنه عميق الأثر في نفسي.. منذ تلك اللحظة آمنت بما أسميه اليوم (جبر الخواطر).
كان (عبد الناصر)، كما عرفت فيما بعد، قد أنشأ مكتبًا لمتابعة رسائل المواطنين وشكاواهم ومقترحاتهم.. مكتبٌ لم يكن مجرد إدارة رسمية، بل كان جسرًا وجدانيًا بين الحاكم وشعبه، يمسح على قلوبهم ويجبر خواطرهم.
ذلك الموقف، في طفولتي الباكرة، علّمني أهم درس في حياتي: أن جبر الخواطر ليس مجرد فعل إنساني عابر، بل قيمة عظيمة تصنع رابطًا متينًا بين الإنسان وأخيه، بين القائد وشعبه، وبين الفرد ومجتمعه.
ومنذ ذلك اليوم، ظل هذا الدرس محفورًا في وجداني: أن تترك أثرًا طيبًا في قلب أحدهم أعظم من أي إنجاز آخر.

صفحة بيضاء من جبر الخواطر
وأنا أكتب هذه المقدمة، تعود إلى ذاكرتي تلك اللحظة التي أدركت فيها أن (عبد الناصر) لم يكن مجرد قائد سياسي، بل كان جابرًا للخواطر، يشعل قلوب المصريين فرحًا بحضوره الإنساني قبل قيادته السياسية.
إن جبر الخواطر ليس موقفًا عابرًا، بل هو صفحات بيضاء كثيرة في كتاب حياة (عبد الناصر)، صفحات نقية تفيض بالرحمة والإنسانية.. ومن بين هذه الصفحات حكاية إنسانية رائعة ظل صداها يتردد طويلًا في وجدان الناس.
هي حكاية فتاة مصرية بسيطة، كغيرها من الفتيات، تحلم بيوم عمرها؛ يوم زفافها، يوم تتوَّج فيه بالفرح إلى جوار عريسها.. لكن القدر كان له كلمته، وكادت أحلامها أن تتبدد لولا أن جبر خاطرها زعيم أحب شعبه كما أحبوه.. تلك الفتاة هى (فاطمة عيد سويلم).
كانت (فاطمة)، كأي فتاة مصرية أخرى، تحمل أحلامها وآمالها في قلبها، تنتظر اليوم الذي يمكن فيه أن ترتدي الفستان الأبيض وتبدأ رحلة جديدة في حياتها، محاطة بالأحباء والأصدقاء.
لكن الظروف لم تكن لطيفة معها، إذ وجدت نفسها تواجه التحديات بسبب وضعها الاجتماعي كيتيمة، ما جعلها عرضة للرفض وعدم القبول.. ومع ذلك، لم تفقد الأمل.. كانت عازمة على أن تصل صوتها، حتى لو كان ذلك في عالم يبدو معاديًا لها.. لقد كتبت إلى الزعيم (عبد الناصر)، ليس فقط طلبًا للمساعدة، بل كأمل في التغيير.
تاريخ (عبد الناصر) مليء بمواقف إنسانية تركت بصمة لا تُنسى، حيث عمل على تعزيز العدالة الاجتماعية ودعم الفئات المهمشة.. وعندما وصلت رسالة فاطمة إلى مكتبه، لم يكن ذلك مجرد حدث عابر، بل كان بمثابة دعوة لتجسيد مبادئه في المساواة والحق.
عندما قرر (عبد الناصر) أن يكون وكيل فاطمة، جاء ليعبر عن رسالة مفادها أن كل إنسان، بغض النظر عن خلفيته، يستحق الفرصة لتحقيق أحلامه.. أقام حفل زفاف (فاطمة) في مشهد مفعم بالحب والدعم، حيث وقف بجانبها عدد من الشخصيات المهمة، مما أضفى على تلك اللحظة طابعًا تاريخيًا ورمزيًا.

رمزًا للأمل والإصرار
وبعيدًا عن ذلك، تبقى قصة (فاطمة) رمزًا للأمل والإصرار.. فرحتها كانت فرحة مصر كلها، وانتصارها كان انتصارًا لكل الفتيات اللاتي يحلمن بيوم زفافهن ويتطلعن إلى غدٍ مشرق.. (عبد الناصر)، من خلال هذا الموقف، تواصل مع قلوب المصريين وأشعل فيها شعلة من الفرح والأمل.
إن فرحة (فاطمة) بعيد زفافها تظل تذكيرًا لنا جميعًا بأن الحب والإنسانية يجب أن يكونا دائمًا في مقدمة أولوياتنا، وأن جبر الخواطر، مهما كان صغيرًا، له القدرة على إحداث تغيير كبير في حياة الآخرين.. هى مجرد حكاية من حكايات تاريخنا، لكن تأثيرها سيكون خالدًا في ذاكرة الأجيال.
تُظهر قصة (فاطمة) جانبًا رائعًا من الإنسانية، التي جسدها الزعيم (عبد الناصر) في تصرفه تجاه هذه الفتاة اليتيمة التي واجهت صعوبات جمة بسبب وضعها الاجتماعي. إن الفعل الذي قام به (عبد الناصر) لم يكن مجرد إجراء روتيني، بل كان تعبيرًا حقيقيًا عن التعاطف والعدالة الاجتماعية.
فكان يدرك تمامًا آثار الفقر واليتيم على حياة الأفراد، وكيف يمكن أن تؤثر تلك الظروف على حقوقهم الأساسية مثل الزواج وتكوين الأسرة.
عندما قامت (فاطمة) بكتابة رسالتها إلى (عبد الناصر)، كانت تبحث عن الأمل في عالم تملؤه التحديات.. وقد كان رد الفعل السريع والإيجابي من رئيس الجمهورية يعني الكثير ليس فقط لفاطمة، بل لجميع الأيتام والفقراء.
كانت تلك اللفتة بمثابة رسالة واضحة للدفاع عن حقوق الضعفاء والمهمشين، وأن الدولة يجب أن تكون حامية لهم.
من خلال هذه القصة، نستطيع أن نرى كيف أن (عبد الناصر) كان يطبق رؤيته حول العدالة الاجتماعية والمواطنة المتساوية، بدلاً من مجرد التعامل مع الأمور من خلال القوانين والأنظمة.. لقد أرسل بتصرفه هذا رسالة قوية إلى المجتمع بأن الحب والرحمة يجب أن يتجاوزا قيود الزمان والمكان، وأن العواطف الإنسانية والتعاطف يجب أن تتصدر كل شيء.
إن تجميع شخصيات مهمة مثل محافظ الدقهلية وشيخ الأزهر ومحمود الجيار في تلك اللحظة جعل من هذا الحدث مناسبة تاريخية ورمزية لجبر (خاطر فاطمة).. كان فيه إشارة إلى أن القادة الحقيقين هم أولئك الذين ليس فقط يتخذون القرارات، بل يُظهرون أيضًا التعاطف مع الأقل حظًا ويعملون على تحسين ظروفهم.
رحم الله الزعيم (عبد الناصر) وبارك في جهوده وأحلامه للمستقبل، فهذه القصة تبقى درسًا ملهمًا في كيفية احتضان الإنسانية، وكيف يمكن لفعل واحد أن يُحدث تغييرًا في حياة الكثيرين.

الإعلام وجبر الخواطر
لم يكن مكتب جبر الخواطر الذي أسسه (عبد الناصر) مجرد غرفة لتلقي الرسائل، بل كان بذرة لعلم لم يتشكل بعد: علم الاتصال والتواصل الإنساني.. ففي زمنٍ كانت كلمة (الإعلام) تختصر في نقل الأخبار والخطب الرسمية.. كان (عبد الناصر) يفتح أفقًا جديدًا، يرى أن الكلمة ليست معلومة فقط، بل جسر وجداني بين الدولة والمجتمع.
الإعلام الناصري لم يوجّه خطابه إلى العقول وحدها، بل انحاز إلى القلوب.. كان يدرك أن الإنسان قد يختلف بعقله، لكن وجدانه حين يُمسّ بصدق، يظل وفيًا حتى النهاية.
لهذا لم تكن خطب (عبد الناصر) بيانات سياسية جافة، بل كانت أقرب إلى رسائل شخصية يخاطب فيها كل فرد باسمه.. وحين انطلقت إذاعة (صوت العرب)، لم تكن مجرد أداة إعلامية، بل كانت مرسالًا وجدانيًا يربط القاهرة بالمغرب والجزائر والشام، كأنها قلب واحد يخفق في ملايين الصدور.
لقد سبق مكتب جبر الخواطر عصره حين جسّد فكرة التواصل المباشر.. الرسالة التي يكتبها فلاح في أقصى الصعيد أو عاملة بسيطة في حي شعبي، تجد طريقها إلى مكتب الرئيس، فتُقرأ وتُجاب.
هذا الفعل لم يكن ترفًا إداريًا، بل تأسيسًا لمفهوم أن الإعلام ليس طريقًا ذا اتجاه واحد من السلطة إلى الشعب، بل دائرة تكتمل حين يسمع الطرفان بعضهما بعضًا.
واليوم، ونحن ننتقل من كلمة (الإعلام) إلى مفاهيم (الاتصال والتواصل) ندرك أن (عبد الناصر) قد مارس هذا العلم قبل أن تُصاغ له المناهج. لقد صنع إعلامًا وجدانيا، لا يطفئه تقادم السنين.. لذلك ما زال كثيرون، بعد عقود، يتذكرون عباراته وصوته وملامحه كأنها أمس. لأن ما يُخاطب العقل قد يبهت، أما ما يلمس الوجدان فيبقى متوهجًا إلى الأبد.
في حياة الشعوب لحظات لا تُقاس بالأرقام ولا تُكتب في دفاتر الاقتصاد وحدها، بل تُسجل في القلوب قبل العقول.. لحظات يكون القرار فيها أشبه بمسحة حنان، أو بلمسة إنسانية تعيد البسمة إلى وجهٍ أرهقته السنون.. هكذا كان (عبد الناصر)، لم يكن مجرد زعيم سياسي يقود دولة، بل كان جابرًا للخواطر، يكتب سياساته بحبرٍ من المشاعر الإنسانية.

جبر خاطر الفلاح
حين نظر (عبد الناصر) إلى وجوه الفلاحين، رآها منكسرة تحت سطوة الإقطاع.. رجال زرعوا الأرض ولم يملكوا منها سوى حفنة من التراب بين أقدامهم.. فجاء الإصلاح الزراعي ليعيد لهم ما سُلب منهم، وليقول لهم ببساطة: هذه أرضكم، وهذا حقكم.. لم يكن قانونًا وحسب، بل كان وردة وضعت في يد الفلاح البسيط، ليشعر أن الوطن لم يعد بعيدًا عنه.
ومثلما جبر خاطر الفلاح، مد يده إلى أبناء الفقراء ليمنحهم كنزًا لا يفنى: التعليم المجاني.. فجأة، صار حلم الجامعة متاحًا لابن العامل والموظف الصغير، وصارت الأبواب التي كانت حكرًا على طبقة بعينها مشرعة أمام الجميع. كانت مجانية التعليم قصيدة حب كتبها عبد الناصر على سبورة الوطن، ليقرأها كل طفل ويبتسم.
ثم جاءت لحظة القناة.. قناة السويس، التي حفرها المصريون بدمائهم، وظلت لسنوات طويلة رمزًا لاستغلال عرقهم. يوم أن أعلن عبد الناصر تأميم القناة، لم يكن يقرأ نصًا سياسيًا، بل كان كمن يقرأ قسمًا على منبر العزة: لن تضيع دماء أجدادكم سدى. في تلك اللحظة، لم تُجبر خواطر المصريين فقط، بل خواطر أمة بكاملها كانت تبحث عن كرامتها الضائعة.
ولأن الأحلام لا تُروى إلا بماء، جاء السد العالي. لم يكن السد جدرانًا من الخرسانة فقط، بل كان وعدًا بالطمأنينة، وجبر خاطر لقلوبٍ تعبت من خوف الفيضان والجفاف.. كان السد العالي أشبه بيدٍ حنونة وضعت على كتف مصر لتقول لها: اطمئني، صار النيل في حضنك لا في قيد غيرك.

جبر خاطر الأمة
لكن جبر الخواطر لم يتوقف عند حدود الوطن. فقد مد عبد الناصر قلبه قبل يده إلى الجزائر في ثورتها، وإلى فلسطين في مأساتها، وإلى إفريقيا في نضالها.. كأنما كان يرى أن جبر خاطر المظلومين في كل مكان، هو امتداد طبيعي لجبر خاطر المصريين أنفسهم.
وهكذا، كان عبد الناصر يكتب التاريخ بروح شاعر، ويرسم السياسة بريشة إنسان.. سيادته لم تكن فوقية متعالية، بل كانت سيادة تُترجم في تفاصيل بسيطة، تُشعر المواطن أن قلب قائده يخفق مع قلبه.
ولعل أجمل ما تركه لنا (عبد الناصر) ليس فقط المصانع والسدود والقوانين، بل تلك القيمة الخالدة: أن جبر الخواطر أعظم سياسة، وأبقى من كل قرار.
* رئيس اتحاد المنتجين العرب