رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

محمود عطية يكتب: (دولة التلاوة).. يزداد انكشافاً يوماً بعد يوم!

محمود عطية يكتب: (دولة التلاوة).. يزداد انكشافاً يوماً بعد يوم!
الأسوأ أن هذا (الفنكوش) يُقدَّم برسوم تصل إلى عشرة آلاف جنيه

بقلم المستشار: محمود عطية *

في البداية، ورغم موجة الترويج الكبيرة، والضغط الإعلامي الواسع، والرعاية المباشرة، والثناء القادم من أعلى قيادات الدولة، فإنّ ما يجري داخل برنامج (دولة التلاوة) يكشف مفارقة مؤلمة.

إذ يُدار الأمر بلا رقيب ولا حسيب، ويُفتح الباب لمتسابقين جاءوا عبر قنوات غير واضحة، بعضهم من مراكز في المحافظات يدّعي أصحابها تعليم الأطفال حفظ القرآن، ويدّعي بعضها تعليم القراءة بالمقامات، رغم أنهم لا ينتمون لأي أكاديمية أو مدرسة موسيقية أو جهة معتبرة.

والأسوأ أن هذا (الفنكوش) يُقدَّم برسوم تصل إلى عشرة آلاف جنيه، في صورة لا تليق مطلقاً بحسن النية ولا بالدعم الكبير الذي تمنّته الدولة والجمهور لهذا البرنامج وغيره من المبادرات التي تُعنى بتلاوة كتاب الله.. كان الواجب أن تُنحّى المجاملات والترضيات جانباً، وأن يُصان هذا المجال عن العبث والارتجال.

ما يُسمّى بمسابقة (دولة التلاوة) يزداد انكشافاً يوماً بعد يوم، لا بوصفه مشروعاً عظيماً كما يوحي اسمه، بل كمبادرة وُلدت بلا أرضية حقيقية، وبلا رؤية راسخة تستحق أن تُنسب إلى القرآن أو إلى فن التلاوة.. فالأسماء الكبيرة لا تصنع مشاريع كبيرة، وإنما تصنعها البدايات الواضحة، والنية الصادقة، والهيكلة المهنية السليمة.. وهذه كلها تكاد تكون غائبة هنا.

المشهد العام خليط مدهش من الارتباك، والاستعراض، والبحث عن اللقطة؛ وجوه تظهر أكثر مما تُقدّم، وأصوات تشرح أكثر مما تفهم، ولجنة تتحرك بلا بوصلة، حتى بدا برنامج (دولة التلاوة)، وكأنه مساحة لإثبات الحضور، لا لإبراز المواهب القرآنية التي وُعد الجمهور بها.

محمود عطية يكتب: (دولة التلاوة).. يزداد انكشافاً يوماً بعد يوم!
لجنة تحكيم تهتز مع كل متسابق… لجنة تبحث عن ذاتها

لجنة تبحث عن ذاتها

أولاً: لجنة تحكيم تهتز مع كل متسابق… لجنة تبحث عن ذاتها.. فقد ظهرت لجنة التحكيم في أضعف صورها الممكنة، رغم أن أي مسابقة قرآنية – خصوصاً إذا حملت اسماً بهذا الحجم – تفترض أن تكون لجنتها هى الركن الأقوى والأكثر ثباتاً.. لكن ما نراه هو:

* قرارات غير مستقرة تتبدل بين لحظة وأخرى بلا معيار واضح.

* شخصيات متناقضة؛ أحدهم يميل للمجاملة، وآخر للتشدد، وثالث يبتسم وهو يرفض، ورابع يتحدث في أمور لا تخص التلاوة.

* معايير تتغير حسب المزاج؛ مرة تُرفع الدرجات بدافع الإعجاب الشخصي، ومرة تُخفض بحجة المقامات، وثالثة بسبب ملاحظات شكلية لا قيمة لها.

* هذه ليست لجنة تلاوة بالمعنى الحقيقي، بل لجنة تبدو وكأنها تبحث عن هوية مهنية، أو تحاول خلق دور إعلامي قبل أن تؤدي دورها الأصلي، فاللجنة القوية هى التي تُعلّم المتسابق وتُثري تجربته، لا التي تُربك المتسابق وتُظهِر نفسها.

ثانياً: (فنكوش المقامات).. استعراض موسيقي بلا جذور قرآنية، من أغرب ما ظهر في المسابقة هو تحويل المقامات الموسيقية إلى محور تقييم رئيسي، وكأنها الركن الأعظم في تلاوة القرآن، مع أنها في أصلها أدوات فنية نشأت في العصر العباسي لخدمة الغناء والإنشاد، وليس لها علاقة أصيلة بتجويد القرآن.

لكن المشكلة هنا ليست في مجرد ذكر المقامات، بل في تحويلها إلى (فنكوش) كامل الأركان:

* كلمات ضخمة تُقال بلا تفسير واضح.

* شروح مطوّلة لا يفهمها المتسابقون، بل ولا الجمهور.

* ربط غير منطقي بين المقام وجودة التلاوة.

* تكليف المتسابق الشاب بشرح مقام لم يسمع اسمه من قبل ثم محاسبته عليه!

النتيجة: ارتباك، وحيرة، وابتعاد كامل عن جوهر التلاوة التي هى الخشوع، وإجادة المخارج، وضبط الأحكام، ونقل أثر القرآن كما أنزله الله—لا كمقطوعة موسيقية تُختبر فيها درجات النغم.

المقامات هنا لم تُستخدم كمعرفة تكميلية، بل كفنكوش دعائي؛ شيء ضخم في الشكل، فارغ في المحتوى، بلا سياق، بلا فائدة، وبلا علاقة بالقرآن الذي يُفترض أن يكون محور كل شيء.

محمود عطية يكتب: (دولة التلاوة).. يزداد انكشافاً يوماً بعد يوم!
ظهور إعلامي لطيف… يحاول إخفاء الخلل، بجانب الفوضى الفنية، يظهر الوجه الإعلامي للبرنامج

الوجه الإعلامي للبرنامج

ثالثاً: ظهور إعلامي لطيف… يحاول إخفاء الخلل، بجانب الفوضى الفنية، يظهر الوجه الإعلامي للبرنامج: ابتسامات، عبارات لطيفة، مونتاج ناعم، ورسائل مجاملة – أسلوب “كيوت” بمعنى الكلمة – لكن هذا اللطف لا يعالج ضعف المحتوى ولا يرمّم الهيكل الممزق.

الإعلام مهما كان جميلاً، لا يمكنه إخفاء:

* فقر الإعداد.

* غياب الرؤية.

* ضعف التدريب.

* عدم وضوح الهدف.

فاللطافة قد تجمّل المشهد لحظات، لكنها لا تصلح أخطاء تُصنع أمام الناس في كل حلقة.

رابعاً: دموع الطفل.. لحظة صادقة تُستغل بشكل غير صادق، مشهد الطفل الذي بكى كان لحظة إنسانية مؤثرة، تستحق الاحترام والاحتواء.. لكن بدلاً من التعامل معها برفق ومسؤولية، جرى تضخيمها وتحويلها إلى أداة دعائية، وكأن البرنامج يريد استثمار العاطفة لتعويض العجز الفني.

المؤلم هنا أن المشهد الحقيقي الصادق جرى تغليفه بوسائل إعلامية تحاول إلهاء الجمهور عن الأسئلة الأصعب:

* أين المنهج؟

* أين المعايير؟

* أين الهدف التربوي؟

* أين الرعاية الحقيقية للمواهب الصغيرة؟

بل تُطرح تساؤلات حول تكلفة برنامج (دولة التلاوة)، وكم يتقاضى الضيوف، وما إذا كانت الأموال تُوجَّه لتطوير المواهب أم لتضخيم صورة البرنامج.. وها هو وزير الأوقاف يظهر في أولى الحلقات – يأخذ اللقطة ثم يغيب – وكأن الحضور البروتوكولي أهم من جوهر المسابقة نفسها.

محمود عطية يكتب: (دولة التلاوة).. يزداد انكشافاً يوماً بعد يوم!
مشروع بلا روح… ومسابقة تبحث عن معنى البرنامج

مسابقات قرآنية قوية

خامساً: مشروع بلا روح… ومسابقة تبحث عن معنى البرنامج حتى الآن ليس سوى مزيج من:

* لجنة متناقضة لا تعرف ماذا تريد.

* مقامات تُستخدم بجهل، فتتحول إلى فنكوش كبير.

* ظهور إعلامي لطيف يخفي ما لا يمكن تجميله.

لحظات عاطفية تُستغل بدلاً من رعايتها.

* غياب تام لمنهج تربوي أو علمي واضح.

وإن لم يُعَد ترتيب البيت من أساسه – فقهياً، وصوتياً، وتربوياً، ولجانياً- فسيتحوّل البرنامج إلى نموذج يُدرَّس في كيف يمكن أن يُفسد الصخب الإعلامي مشروعاً يفترض أن يكون للقرآن.

سادساً: نعم… نحن بحاجة لهذا النهج، لكن ليس بهذا الشكل، لا أحد ينكر أننا في حاجة إلى مسابقات قرآنية قوية، وقد سبقتنا دول عديدة مثل إيران وباكستان وتركيا وماليزيا، وقدّمت تجارب محترمة ومنظمة وعميقة في مجال تلاوة القرآن.

وحتى لو جاءت هذه المسابقة متأخرة فهي خيرٌ من ألا تأتي.. لكن المشكلة ليست في الفكرة، بل في التنفيذ.

إن المبالغة في الإخراج التلفزيوني، والتضخيم الإعلامي، والحديث الكثير عن المقامات، لن تُنبت موهبة قرآنية حقيقية.. فالموهبة تُولد من:

* الحفظ المتقن.

* التجويد الصحيح.

* التلقّي من شيخ متقن.

* الاستماع لكبار القراء.

* التواضع أمام كلام الله.

أما اللجنة فيبدو أنها غاب عنها أن الموهبة الربانية هى الأصل، وأن المقامات مكمل لا أصل، وأن الإخلاص هو الركن الأول قبل الصوت.

إن الطموح جميل، والفكرة نبيلة، لكن الطريق إلى النجاح يمر عبر الصدق، والمنهج، والخبرة، ووضع القرآن في مكانه الصحيح.. بدون ذلك سيبقى برنامج (دولة التلاوة) مجرد ضجيج تلفزيوني – يقابله صمت كبير في المضمون.

ولعل هذا النقد يكون جرس إنذار يعيد الأمور إلى نصابها، ويجعل من (دولة التلاوة) دولة للقرآن حقاً… لا دولة للكاميرات.

* المحامي بالنقضمنسق ائتلاف مصر فوق الجميع

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.