رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

محمود عطية يكتب: (ازدواجية المعايير) والطائرة !

محمود عطية يكتب: (ازدواجية المعايير) والطائرة !
ما حدث في استقبال الرئيس عبدالفتاح السيسي المغفور له الملك عبد الله بن عبدالعزيز آل سعود داخل طائرته

بقلم المستشار: محمود عطية *

تتكرر الأحداث الفنيه السياسية والدبلوماسية على الساحة الدولية بمظاهر تشبه بعضها بعضًا، لكنها تُستقبل بردود أفعال متباينة بشكل يثير الدهشة، ويكشف أحيانًا عن (ازدواجية المعايير) التي تحكم تحليلاتنا وقراءاتنا للأحداث في وسائل الإعلام.

مثال ذلك ما حدث في استقبال الرئيس عبدالفتاح السيسي المغفور له الملك عبد الله بن عبدالعزيز آل سعود داخل طائرته أثناء عودته من رحلة علاج بالمغرب، مقارنة بما جرى لاحقًا مع الأمير تميم بن حمد آل ثاني خلال لقائه بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب داخل طائرته في قاعدة العديد بالدوحة.

حينها، تعرض الرئيس السيسي لموجة نقد حاد من معارضين وإعلاميين، رغم أن اللقاء كان ضمن بروتوكولات دبلوماسية واضحة، ومرتبطًا بالحالة الصحية للملك الراحل، واحترام مكانته، وتقدير ظروفه الصحية.

ومع ذلك، فسّر الحدث وقتها بطريقة سلبية، غياب فيها الموضوعية والمنطق، وامتزج بالنكاية والمكايدة السياسية، بعيدًا عن فهم الأسباب الرسمية والإنسانية التي تحكم مثل هذه اللقاءات.

على الجانب الآخر، عندما التقى الأمير تميم بالرئيس الأمريكي، لم تُسجَّل أي انتقادات تُذكر، سواء داخل بلاده أو خارجها، على الرغم من أن الظرف كان مشابهًا من حيث البروتوكول؛ فاللقاء داخل الطائرة جاء لأسباب تنظيمية وأمنية بحتة، تمامًا كما في المثال الأول.

هذه المفارقة تكشف بوضوح أن (ازدواج المعايير) في النقد ليس موضوعيًا، بل متأثر بانتماءات سياسية ومواقف مسبقة، حيث يُدان موقف في سياق ويُتجاهل مثيله في سياق آخر.

لكن المشكلة لا تتوقف عند هذا الحد.. فالأدهى أن هذه الانشغالات بالحوادث الجانبية والهيافات غالبًا ما تصبح بمثابة مرآة لسلوكيات بعض الشعوب، وعلى رأسها المجتمع المصري، في الانشغال بما لا قيمة حقيقية له، والهروب من مواجهة قضاياهم الجوهرية، بينما تتفاقم الأزمات الاقتصادية، ويزداد انهيار المؤسسات.

محمود عطية يكتب: (ازدواجية المعايير) والطائرة !
يغدو النقاش حول الاستقبالات في الطائرات أو التفاصيل الشكلية أحداثًا أكبر من حجمها في عقل المواطن

ليس مجرد عادة صحفية

ويشعر المواطن بتراجع الخدمات العامة، يغدو النقاش حول الاستقبالات في الطائرات أو التفاصيل الشكلية أحداثًا أكبر من حجمها في عقل المواطن، ويحل محل الحوار حول الواقع المعاش والمشكلات الحقيقية.

إن الانشغال بالهيافات السياسية ليس مجرد عادة صحفية أو شعبية، بل أصبح نوعًا من الهروب الجماعي من الواقع، وأداة لإلهاء الناس عن القضايا التي تمس حياتهم اليومية، فالخوف من مواجهة الواقع الاقتصادي والاجتماعي يدفع بعض الفئات إلى الانخراط في تفاصيل سطحية، تعطيهم شعورًا بالاهتمام والمشاركة، بينما تظل المشاكل الحقيقية في الظل.

ومن هنا نفهم لماذا يتم تضخيم لقاءات تبدو عادية وفق بروتوكولات واضحة، وتفسيرها بما يتناسب مع مصالح ونزعات سياسية معينة، بينما تُتجاهل الأحداث المماثلة عندما تخدم سياقًا آخر في إطار (ازدواج المعايير).

هذا التباين في ردود الأفعال ليس مجرد مسألة سياسية، بل يعكس كذلك هشاشة التفكير الشعبي أمام التهويل الإعلامي والانفعالات السطحية.. ففي الوقت الذي يتطلب فيه الواقع نظرة متوازنة، وفهمًا للأسباب الحقيقية وراء الأحداث، نجد أن غالبية الجمهور تنجرف وراء الانطباعات الأولى والانفعالات المؤقتة.

وهذا يفتح الباب أمام من يريدون استغلال مثل هذه التناقضات لتسخين الأجواء وإثارة الانقسامات، بدلًا من توجيه الطاقة نحو القضايا الجوهرية التي تهم المواطن بشكل مباشر، وخذا مايعد (ازدواج المعايير).

من هنا، يظهر بجلاء أن النقد الانتقائي والانفعال على أحداث جانبية أصبح بديلاً عن التحليل العقلاني والمنهجي. فالازدواجية في المعايير تعكس ليس فقط السياسة، بل أيضًا الثقافة الشعبية التي تميل إلى التهويل والانجراف وراء المشاهد الإعلامية، دون التوقف لتحليل السياق والأسباب.

وفي المجتمع المصري، على وجه الخصوص، يمكن ملاحظة ميل واضح إلى الانشغال بالفضائح الشكلية وتضخيم القضايا التافهة، بينما تغيب عن الساحة النقاشات الجوهرية حول الاقتصاد، والبطالة، والتدهور الاجتماعي، والانهيار التدريجي للمؤسسات.

محمود عطية يكتب: (ازدواجية المعايير) والطائرة !
المجتمع يحتاج إلى ثقافة نقدية واعية، قادرة على التمييز بين الجوهري والتافه، بين الحدث المؤثر واللقاء البروتوكولي

عدم القدرة على مواجهة الواقع

إن الدرس الأساسي من هذا كله أن الإنصاف يتطلب رؤية متجردة وموضوعية، وأن المواقف المتشابهة يجب أن تُقاس بمعيار واحد بعيدًا عن الانفعالات والانتماءات السياسية.. الهيافات التي يلتفت إليها البعض ليست مجرد تفاصيل جانبية، بل مؤشر على خلل أعمق في فهم الأولويات وتحديد ما يستحق الاهتمام.

فالتركيز على الأحداث الثانوية والهروب من المشاكل الحقيقية يعكس عدم القدرة على مواجهة الواقع في وسائل الإعلام، وهو ما يؤدي بدوره إلى تفاقم الأزمات وتأزيم الوضع الاقتصادي والاجتماعي.

من ناحية أخرى، فإن المجتمع يحتاج إلى ثقافة نقدية واعية، قادرة على التمييز بين الجوهري والتافه، بين الحدث المؤثر واللقاء البروتوكولي الذي لا يمس حياة المواطن اليومية.. هذا النوع من الثقافة لا يُبنى بمجرد متابعة الأخبار، بل يتطلب وعيًا بالسياسة، وفهمًا للبروتوكولات الدبلوماسية، وقدرة على قراءة المصالح الاستراتيجية والإنسانية وراء الأحداث.

أما الانجرار وراء التهويل الإعلامي والتفسيرات الانفعالية، فهو يعكس في النهاية ضعفًا في التفكير النقدي، وانغماسًا في تفاصيل سطحية تمنع مواجهة المشكلات الحقيقية.

في النهاية: هذه المفارقات بين ما يُدان وما يُتجاهل، بين ما يُضخم وما يُسكت عنه، ليست مجرد حالات فردية، بل ظاهرة متكررة تكشف طبيعة الانشغالات الشعبية والسياسية في المجتمعات العربية. فبينما تتطلب الوقائع السياسية التحليل المتوازن، نجد أن الانفعالات والمكائد السياسية تعمي عن رؤية الواقع بوضوح.

والشعوب التي تنشغل بالهيافات، مثل بعض الفئات في المجتمع المصري، تعيش على هامش الواقع، وتنقلب التفاصيل الشكلية إلى قضايا كبرى، بينما المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الحقيقية تتفاقم بلا معالجة.

الدرس الذي يجب استخلاصه واضح: لن تكون هناك رؤية واضحة أو تقدم حقيقي ما لم تتجه الطاقة الذهنية والجماعية نحو القضايا الجوهرية، بعيدًا عن الانفعالات والهيافات.

وعلى الشعوب أن تتعلم كيف توازن بين الاهتمام بالتفاصيل الشكلية وفهم الواقع المعاش، بحيث يكون النقد موضوعيًا، والتحليل عقلانيًا، والمواقف متسقة مع الحقائق وليس الانتماءات المسبقة.

* المحامي بالنقض – منسق ائتلاف مصر فوق الجميع

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.